بعد إدراج الكشري المصري على قائمة اليونسكو للتراث الثقافي غير المادي، عاد الحديث من جديد حول الأكلات الشعبية المصرية، ليس فقط بوصفها أطعمة يومية، بل باعتبارها جزءً أصيلا من الهوية الثقافية والتاريخ الاجتماعي للمصريين، ما فتح الباب لإعادة طرح أسئلة قديمة متجددة حول جذور هذه الأكلات، وكيف تشكلت عبر العصور؟، وهي الأسئلة التي تسلط الكاتبة في أدب الطعام رانيا هلال، الضوء عليها من خلال حديثها ل "الشروق"، متتبعة الأصول التاريخية والاجتماعية للأكلات الشعبية، ومحللة علاقتها بالبيئة والثقافة المصرية عبر العصور. الجذور المصرية القديمة للأكلات الشعبية تقول رانيا، إن عددا كبيرا من الأكلات الشعبية المصرية، وعلى رأسها أطباق الفول والبصارة، يعود بجذوره إلى مصر القديمة، موضحة أن الفول والبقوليات عموما كانت من المحاصيل الأساسية التي اهتم بها المصري القديم؛ نظرا لقدرتها الكبيرة على التخزين لفترات طويلة، وهو ما جعلها عنصرا استراتيجيا في الغذاء، تماما مثل القمح. وأوضحت أن تلك الوصفات كانت تحضر في الغالب من الفول المجفف، لأنه محصول يتحمل التخزين في الصوامع، وهو ما يتناسب مع طبيعة المجتمع الزراعي المرتبط بمواسم الفيضان، مؤكدة أن المصري القديم كان يعتمد على البقوليات لكونها غذاءً مستداما يمكن الاعتماد عليه على مدار العام. وأشارت إلى وجود دلائل أثرية واضحة تؤكد ذلك، من بينها النقوش الموجودة على جدران بعض المقابر، والتي تُظهر عمليات طحن البقول وطهيها، إلى جانب العثور على إشارات لها في البرديات الطبية، على رأسها بردية "إيبرس"، التي ذكرت البقوليات ضمن قائمتها، ليس فقط كغذاء، بل كعنصر له وظائف علاجية متعددة. البقوليات.. غذاء الفلاحين وركيزة الاقتصاد الغذائي أوضحت الكاتبة في أدب الطعام، أن البقوليات أصبحت لاحقا الغذاء الأساسي للفلاحين المصريين، مشيرة إلى أن أهميتها لم تكن هامشية أو تكميلية، بل كانت تمثل العمود الفقري للغذاء اليومي، خاصةً مع قلة استهلاك اللحوم. وأضافت أن عددا من الرحالة العرب الذين زاروا مصر، خصوصا خلال العصر الفاطمي، وثقوا تنوع الأطعمة القائمة على الفول، مثل الفول المطبوخ والفول المتبل بالتوابل والبهارات، وهو ما يعكس مدى انتشار هذه الأكلات وتغلغلها في الحياة اليومية للمصريين. وأكدت أن هذا الارتباط الوثيق بين الفول والمجتمع المصري يعكس ما يمكن تسميته بالاقتصاد الغذائي، حيث لم يكن الفول مجرد طبقا جانبيا، بل بديلا رئيسيا للبروتين الحيواني، وهو ما أشار إليه المؤرخ عبدالرحمن الجبرتي، عند حديثه عن الأطعمة المتداولة في القاهرة خلال الفترة العثمانية. المسمط وثقافة عدم إهدار الطعام وفيما يخص أكلات المسمط، والتي تُعد من أشهر الأكلات الشعبية، قالت رانيا إن استهلاك اللحوم تاريخيا كان مقصورا في الغالب على الطبقات العليا، بينما لجأت الطبقات الشعبية إلى استهلاك أحشاء الذبيحة، وهو ما يعكس ثقافة مصرية قديمة قائمة على عدم إهدار أي جزء من الحيوان. وأوضحت أن هذه الثقافة تعود إلى مصر القديمة، حيث أظهرت النقوش الجنائزية مشاهد لتجهيز الكبد والأحشاء، والتي كانت تستخدم كطعام للطبقات الشعبية، وأحيانا للكهنة. وأضافت أن مفهوم "المسمط" بصورته المعروفة اليوم تبلور بشكل أوضح خلال العصرين المملوكي والعثماني، مع انتشار الأسواق الشعبية التي تخصصت في بيع أحشاء الذبائح، مؤكدة أن المسمط ليس مجرد نوع من الطعام، بل نتاج مباشر لثقافة الاستدامة والاقتصاد الغذائي المتجذرة في المجتمع المصري. البيئة والظروف والمطبخ الشعبي أشارت إلى أن نهر النيل كان العامل البيئي الأهم في تشكيل المطبخ المصري، حيث وفر وفرة كبيرة من الحبوب والبقوليات، في مقابل غياب المراعي الواسعة التي تسمح بتربية أعداد ضخمة من الماشية، كما هو الحال في بعض مناطق إفريقيا. وأوضحت أن هذا الواقع أدى إلى قلة اللحوم نسبيا، ما دفع المصريين إلى ابتكار بدائل للبروتين الحيواني، كان في مقدمتها البروتين النباتي المعتمد على البقوليات. أما على المستوى الاجتماعي، فأكدت أن الأكلات الشعبية جاءت استجابة لاحتياجات المجتمع، حيث كانت تعتمد على مكونات رخيصة، مشبعة، وسهلة التخزين، مثل الفول والعدس وأنواع الخبز والخضروات المحشية، وهو ما جعلها قادرة على إطعام أعداد كبيرة من الأسر. وأضافت أن المطبخ المصري لم يكن مطبخ رفاهية، بل مطبخ استدامة وبقاء، صمم ليواجه تقلبات الفيضان ومواسم القحط، ويضمن قدرا من الاكتفاء الغذائي على مدار العام. لماذا لا تستثمر الأكلات الشعبية سياحيا؟ أوضحت الكاتبة، أن هناك عدة عوائق تحول دون توظيف الأكلات الشعبية كعنصر جذب سياحي، في مقدمتها الوصم الطبقي، حيث ارتبطت هذه الأطعمة في الوعي العام بأكل الفقراء، ما منع تقديمها باعتبارها جزءً من الهوية الثقافية القابلة للتسويق السياحي. وأضافت أن هناك غيابا لفكرة السرد الإنساني المرتبط بالطعام، موضحة أن الأكلات تقدم عادة دون ربطها بقصتها أو تاريخها، رغم أن العالم بات ينجذب إلى المأكولات المرتبطة بالحكايات والهوية الثقافية. كما أشارت إلى ضعف التوثيق الرسمي للتراث الغذائي، وقلة إعداد ملفات متكاملة للأكلات الشعبية، ما يفتح المجال أمام دول أخرى لنسب بعض هذه الأكلات لنفسها، مؤكدة وجود فجوة واضحة بين مؤسستي الثقافة والسياحة، إلى جانب فوضى التقديم وغياب معايير النظافة والجودة في بعض الأحيان، وهي عوامل تؤثر سلبا على جذب السائح، بغض النظر عن جودة الطعام نفسه. أكلات مصرية نُسبت لغيرها ظلما وقالت رانيا، إن عددا من الأكلات المصرية تعرض لسوء نسب، من بينها الكشري الذي قيل إنه هندي الأصل، مؤكدة أن هذا غير صحيح، لاختلافه الجذري عن الأطباق الهندية. كما ذكرت الملوخية التي نُسبت لفترات إلى بلاد الشام أو اليابان، والطعمية التي تختلف النسخة المصرية فيها تماما، لاعتمادها على الفول والخضرة، بخلاف نسخ أخرى تعتمد على الحمص. وأضافت أن العيش البلدي المصري له عشرات الأنواع الموثقة تاريخيا، وأن البصارة من مشتقات الفول المصرية الخالصة، مشيرة إلى أن الخلط بين تشابه المكونات وأصل الطبق هو السبب الرئيسي في هذا الظلم. أنسنة الطعام في الثقافة المصرية وأضافت أن المطبخ الشعبي المصري لا يمكن فصله عن الطقوس والمواسم، وعلى رأسها أعياد الربيع، موضحة أن الطعام لدى المصريين ليس مجرد ممارسة يومية، بل تعبير إنساني وثقافي عن علاقتهم بالحياة والطبيعة. وأشارت إلى أن ارتباط المصريين بأطعمة، مثل الأسماك المملحة والرنجة في أعياد الربيع، يعود إلى دلالات أعمق تتعلق بفكرة الخصوبة والنمو والرخاء، مؤكدة أن هذه الطقوس الغذائية ممتدة تاريخيا وتعكس نظرة المصري للحياة بوصفها دورة مستمرة من التجدد. وأضافت أن الأمر نفسه ينطبق على أطعمة الأعياد الأخرى، مثل الكحك والبسكويت، التي لا تقدم فقط بوصفها حلويات، بل كرموز للفرح والاحتفال والمشاركة الاجتماعية، حيث يجتمع الناس على إعدادها وتبادلها، في فعل جماعي يحمل معاني الود والترابط. وأكدت أن الطعام في الثقافة المصرية يحمل دائما بعدا إنسانيا واضحا، فلكل أكلة مناسبة ولكل مناسبة دلالة، وهو ما يجعل الأكل في مصر ليس ذوقا فقط، بل موقفا من الحياة، فهذه الأنسنة للطعام، وربطه بالحكايات والمواسم والناس، هي أحد أهم مفاتيح فهم المطبخ المصري، وأحد العناصر الغائبة التي يجب استعادتها إذا أردنا تقديم الأكلات الشعبية للعالم بوصفها تراثا حيا نابضا بالمعنى والتاريخ.