تقرير وترجمة: خلود عدنان «كنت أظن أن الناس يذهبون إلى الألعاب ليروا الشجاعة، لكنى رأيتهم يصرخون فرحًا كلما اخترق السيف جسدًا، ولا يهدأ لهم بال إلا إذا رأوا الدم يسيل، ولا شيء فى هذا المشهد إلا القتل، والناس لا يطلبون سوى المزيد منه، كأنما الموت نفسه صار متعة جماهيرية». هكذا كتب الفيلسوف الرومانى «سينيكا» إلى صديقه «لوسيليوس»، وهكذا بدا الحال فى أوروبا الحديثة خلال تسعينيات القرن الماضى، حين أصبح الإنسان فريسة للمتعة فى أكثر عصورها ظلامًا، حيث القناصة الأثرياء يسافرون إلى تلال سراييفو المحاصرة، ليختاروا ضحاياهم من المدنيين الأبرياء، وكل صرخة وحركة تُقابل بالدم، لتتحول المدينة بأكملها إلى مسرح مروّع لرحلات صيد البشر فى واحدة من أكبر الفضائح البشرية. بعد مرور عقود، لا يزال المحققون يعيدون فتح الملفات المظلمة لما عُرف ب«سياحة القنص» فى حصار سراييفو، مع ظهور وثائق تكشف تورط أجانب أثرياء دفعوا مبالغ هائلة ليقضوا عطلة نهاية أسبوع فى موقع القناصة، ويطلقوا النار على المدنيين كنوع من الترف والفضول الدموى. مؤخرًا، فتحت السلطات الإيطالية تحقيقًا فى ادعاءات تفيد بأن محبى العنف وبعض كبار رجال الأعمال المنتمين لليمين المتطرف سافروا إلى سراييفو، المدينة التى مزقتها الحرب فى التسعينيات ببنادق قنص لصيد البوسنيين «من أجل المتعة».
جرائم بلا عقاب
وتسرّبت شهادات تتحدث عن أجانب جاءوا من إيطاليا والولايات المتحدةالأمريكية وروسيا ودول أخرى، وقدموا مبالغ ضخمة للقوات الصربية، ليُسمح لهم بالمشاركة فى ألعاب «القنص البشرى» خلال حرب البوسنة، وفق ما نقلته صحيفة «تليجراف» البريطانية. وأكد المحققون أن دوافع هؤلاء تراوحت بين التعاطف الأعمى مع القضية الصربية وبين تعطش مرضى للعنف، ورغم نفى صربيا كل الادعاءات، فإن روايات شهود العيان وتقارير المحققين الإيطاليين تؤكد وجود قوائم بأسعار محددة دفعها أثرياء مقابل عمليات قتل متعمدة، أشبه بتذاكر لدخول لعبة قنص بشرى. «ألعاب الموت» تشير الوثائق إلى أن هؤلاء «القناصة الهواة» دفعوا بين 80 و100 ألف يورو لليوم الواحد للمشاركة فى هذه «الرياضة الدموية» التى تتجاوز الخيال فى قسوتها وفقًا ل «تليجراف». أما التفاصيل الأكثر إثارة وصدمة، فهى ما ذُكر عن أن بعضهم كان مستعدًا ليدفع أكثر إذا كان الهدف طفلًا أو رجلًا بزى عسكرى.أما النساء فجئن فى المرتبة الثالثة فى ترتيب أسعار عمليات صيد الضحايا، وأخيرًا كبار السن الذين يمكن قتلهم مجانًا، وحتى لو ثبت جزء ضئيل من هذه الادعاءات، فإن ما تحمله من قسوة يعجز اللسان عن وصفها. مع تصاعد هذه الادعاءات، تحرك مكتب المدعى العام فى ميلانو وفتح تحقيقًا رسميًا مع مواطنين إيطاليين يُشتبه فى تورطهم فى هذه الجرائم. وقال المحققون إن جهاز أمن الدولة الصربى أنشأ مسارات سفر منظمة خصيصًا لتنظيم وصول «اللاعبين» إلى مواقعهم فوق التلال المطلة على سراييفو، وهو ما كشفته حتى الآن التحقيقات، فى محاولة نادرة للقانون للعودة بالزمن ثلاثة عقود ومواجهة أولئك الذين اعتقدوا أنهم يستطيعون الاختباء وراء فوضى الحرب.
أثرياء إيطاليون شاركوا فى الجريمة
ويساعدهم فى ذلك ضباط من «وحدة خاصة» فى شرطة الكارابينييري، وهى جهة مختصة بمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة. وعلى الرغم من أن غالبية الادعاءات فى ميلانو تتركز على مواطنين إيطاليين، يظل التعاون مع البوسنة والهرسك ضروريًا للوصول إلى الأرشيفات والشهود والمواقع ذات الصلة. وبالنظر إلى أن المحكمة الجنائية الدولية لا تختص عادة بالجرائم التى وقعت قبل عام 2002، فإن دورها يظل تكميليًا فقط، لكن المعايير التى تعتمدها المحكمة، من حيث قبول الأدلة وخطورة الجرائم، تؤثر بشكل مباشر فى طريقة تفسير المحاكم الوطنية للفظائع القديمة التى لا تزال تنتظر مساءلة مرتكبيها. وسبق أن أُدين «رادوفان كارادجيتش»، زعيم صرب البوسنة إبان الحرب، فى بانيا لوكا عام 2016، عن جرائم حرب ارتكبها عام 1995، ويقضى عقوبته فى سجن بريطاني. كما أعيد فتح تحقيقات فى قضية قانونية رسمية أطلقتها «بنجامينا كارِتش» عمدة سراييفو السابقة، «ضد مجهولين». والصحفى والكاتب الإيطالى إيتسيو جافازيني، هو من فجر القضية مرة أخرى منذ عام 2022، بدعم من محامين وقاضٍ سابق، حيث قال لوكالة «أنسا» الإيطالية: «كان هناك سعر لهذه الجرائم: الأطفال تكلفتهم أعلى، ثم الرجال، ويفضل أن يكونوا بزى رسمى ومسلحين.» وأضاف جافازينى أنه مصدوم من فكرة أن إيطاليين أثرياء من الطبقة الوسطى سافروا إلى البوسنة ودفعوا لقتل البشر لمجرد الترفيه، ثم عادوا إلى منازلهم وواصلوا حياتهم الطبيعية، وكانوا محترمين فى نظر من يعرفهم. أرشيف المخابرات الإيطالية فى وثائق جديدة نشرتها الصحف الإيطالية وأثارت ضجة، كان أهمها التى استند إليها المحققون الإيطاليون، وثيقة تضمنت أن الأجانب الذين سافروا لسراييفو للاعتداء على المدنيين «لعبوا دور آلهة الموت وبقوا بلا عقاب» حسب صحيفة «لا ريبوبليكا» الإيطالية. وثيقة أخرى تحتوى على شهادة «إيدين سوباشيتس» ضابط استخبارات بوسنى سابق جمع معلومات عن هؤلاء «القناصة» من جندى صربى تم أسره، كما جاء بها اعتراف لجندى صربى بأن إيطاليين دفعوا لإطلاق النار ببنادق قنص على الخطوط الأمامية.
مقابر جماعية
ونشرت الصحف الإيطالية وثيقة أخرى تضمنت اعتراف الجندى جون جوردان، من المارينز الأمريكي، الذى شهد أمام المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة عام 2007، بأن «قناصة سياحيين» سافروا إلى سراييفو لإطلاق النار على المدنيين لإشباع رغباتهم. وأكد أنه رأى أحد الأجانب «يصل بسلاح يبدو أكثر ملاءمة لصيد الخنازير البرية فى الغابة منه للقتال الحضرى فى البلقان»، وأضاف أن هذا الشخص تعامل مع السلاح مثل «مبتدئ». ومؤخرا هذا بعد اكتشاف مقبرة جماعية فى قرية تبعد 185 ميلًا شمال سراييفو، يُعتقد أنه تم حفرها لدفن ضحايا ألعاب القنص البشري. وهناك حالة موثقة ومعروفة لأجنبى أطلق النار على المدنيين من التلال المحيطة بسراييفو، اسمه إدوارد ليمونوف، القومى الروسي، تم تصويره عام 1992 وهو يطلق النار من رشاش باتجاه المدينة المحاصرة، وكان بصحبته كارادجيتش، الذى أدين لاحقًا. لم تكن هذه المزاعم وليدة اللحظة؛ فقصة «سياح القنص» فى سراييفو ظلت تتردد فى الخفاء لسنوات طويلة، قبل أن تظهر للعلن مرة أخرى مع تسريب شهادات ووثائق استخباراتية قديمة أعادت تسليط الضوء على ما جرى. ففى عام 2022 عرض فيلم وثائقى مثير للجدل بعنوان «سراييفو سفاري»، للمخرج السلوفينى ميران زوبانيتش، الذى قدّم مزاعم مماثلة حول أجانب شاركوا فى «سفارى البشر» فى عطلات نهاية الأسبوع. وأثار الفيلم الوثائقى حينها غضبًا عارمًا لدى صرب البوسنة، واعتبروه إهانة ل«جمهورية صربسكا» (الكيان الصربى الذى يشكل نصف البوسنة والهرسك)، ولجيشها، ولضحايا الصرب فى الحرب». ولكن بانكشاف الوجه المظلم لهذه المآسى المروعة، أصبحت قصة سراييفو مثالًا صارخًا على أن جرائم الحرب لا تُرتكب دائمًا على أيدى الجيوش أو الجماعات السياسية فقط، بل أحيانًا من قِبل أشخاص تعاملوا مع الحرب كنوع من التسلية حسب الصحف البريطانية.
تاريخ الدم فى سراييفو حسب التقارير فإن الهدف من التحقيق فى تلك الجرائم التى تمت فى تسعينيات القرن الماضى لا يقتصر على إعادة فتح الجروح القديمة، بل هى مكملة الصورة الكاملة لصراع شكل وعى جيل بأكمله، كما أكدت مبدأ أساسيًا هو أن الجرائم التى ارتكبت ضد المدنيين، سواء على يد جنود أو أشخاص سافروا بحثًا عن متعة القتل، لا يمكن تجاهلها أو تركها بلا مساءلة، الأمر الذى يهيئنا للعودة إلى جذور هذا الصراع وتتبّع سياقه التاريخي. بالعودة إلى أوائل التسعينيات، عندما تفككت يوغوسلافيا إلى عدة دول مستقلة، منها سلوفينيا وكرواتيا والبوسنة والهرسك، إضافة إلى جمهورية مقدونيا اليوغوسلافية، وصربيا والجبل الأسود، و«كوسوفو»، ومع تصاعد النزاعات بسبب اختلاف الرؤى السياسية، وتغير الحدود، وظهور القومية العرقية والدينية، انفتح الباب أمام أسوأ الفظائع التى شهدتها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. وفى قلب هذه الأزمة، يبرز حصار سراييفو، إلى جانب إبادة سريبرينيتسا الجماعية، وغيرها من بؤر الصراع التى شكلت أعمق الجراح فى تاريخ المنطقة. استمر حصار سراييفو من إبريل 1992 حتى أوائل عام 1996، ليصبح أطول حصار لعاصمة فى العصر الحديث، حيث حوصرت المدينة بقوات جيش جمهورية صرب البوسنة الانفصالي، مدعومةً ماديًا بما تبقى من جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية الاشتراكية، المتمركزة فى التلال المحيطة. وتحت قيادة أمير الحرب رادوفان كارادزيتش، أُتيح ل«سياح الحرب» من جنسيات مختلفة، بينهم الأمريكيون والروس، إطلاق النار على المدنيين بتنسيق مع ميليشيات صرب البوسنة، حيث كان القناصة يتجمعون أولًا فى مدينة ترييستى الحدودية الشمالية الشرقية، قبل أن يُنقلوا إلى التلال المحيطة بسراييفو. وأسفرت هذه المعركة الدامية عن مقتل نحو 13,952 شخصًا، منهم أكثر من 5,400 مدني، لتصبح أطول حصار فى تاريخ أوروبا الحديث، متجاوزة حصار لينينجراد الذى دام 872 يومًا خلال الحرب العالمية الثانية. فى قلب هذا الصراع، انهارت الحياة اليومية لسكان سراييفو، الذين عاشوا بلا ماء أو كهرباء أو تدفئة لفترات طويلة، بينما كانت القذائف تنهال على الشوارع والأسواق والملاعب بلا هوادة، واستهدف القناصة كل ما يتحرك. بمرور السنوات، كان لسراييفو دور محورى فى تاريخ البلقان؛ حيث تأسست المدينة عام 1461 فى عهد عيسى بك إسحاقوفيتش، وشُكّلت لاحقًا على يد غازى خسرو بك، وظلت تحت الحكم العثمانى حتى خسارتها الفعلية عام 1878 وانفصالها الرسمى عن تركيا العثمانية فى 1908. ومع ذلك، وبعد هذه الحقبات التاريخية الطويلة، واجهت المدينة خلال حرب البوسنة دمارًا هائلًا لم يُشهد له مثيل فى تاريخها الحديث. يبقى ما حدث فى سراييفو أكثر من مجرد فصل دموى فى تاريخ البلقان؛ وعلى الرغم من مرور العقود، تظل جراح الحصار شاهدة على قسوة الحرب، وتؤكد أن العدالة مهما طال الزمن لا تزال واجبة، وأن تاريخ المدينة لا يرحم من أساء إليها.