تربي لوجه الله، إعلان وظيفة رسمية للعمل بجبانات أسيوط يثير الجدل ومتابعون: هيعيش على الصدقات    عيار 21 يسجل الآن رقمًا جديدًا.. أسعار الذهب والسبائك اليوم السبت بعد الارتفاع بالصاغة    بعد انخفاض الأسعار.. أرخص سيارة هيونداي في مصر    حزب الله يستهدف 6 مواقع لجيش الاحتلال في القطاعين الشرقي والغربي من جنوب لبنان    بايدن: إنتاج أول 90 كجم من اليورانيوم المخصب في الولايات المتحدة    شعبة المخابز: مقترح بيع الخبز بالكيلو يحل أزمة نقص الوزن    فودة وجمعة يهنئان أسقف جنوب سيناء بسلامة الوصول بعد رحلة علاج بالخارج    بعد سنوات من الغياب.. «مراكز متقدمة للجامعات المصرية فى «الآداب والعلوم الإنسانية»    الوداع الحزين.. ليفربول خارج الدورى الأوروبى    الإفتاء: التجار الذين يحتكرون السلع و يبيعونها بأكثر من سعرها آثمون شرعًا    بيان عاجل من الجيش الأمريكي بشأن قصف قاعدة عسكرية في العراق    طريقة عمل تارت الجيلي للشيف نجلاء الشرشابي    سفيرة البحرين بالقاهرة: زيارة الملك حمد لمصر تأكيد على التكامل الإستراتيجي ووحدة الصف بين البلدين    تراجع سعر الفراخ البيضاء واستقرار البيض بالأسواق اليوم السبت 20 أبريل 2024    ميدو يكشف احتياجات الزمالك في الميركاتو الصيفي    ابسط يا عم هتاكل فسيخ ورنجة براحتك.. موعد شم النسيم لعام 2024    الوزيرة فايزة أبوالنجا    وزير الخارجية الإيراني: سنرد على الفور إذا تصرفت إسرائيل ضد مصالحنا    داعية إسلامي: خدمة الزوج والأولاد ليست واجبة على الزوجة    اندلاع مواجهات عنيفة مع قوات الاحتلال في بلدة بيت فوريك شرق نابلس    3 إعفاءات للأشخاص ذوي الإعاقة في القانون، تعرف عليها    هل يتم استثناء العاصمة الإدارية من تخفيف الأحمال.. الحكومة توضح    العميد سمير راغب: اقتحام إسرائيل لرفح أصبح حتميًا    كوريا الشمالية تختبر صاروخا جديدا للدفاع الجوي    GranCabrio Spyder| سيارة رياضية فاخرة من Maserati    رسميا.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم السبت 20 إبريل 2024 بعد الانخفاض الأخير    ملف رياضة مصراوي.. إغماء لاعب المقاولون.. رسالة شوبير.. وتشكيل الأهلي المتوقع    سيف الدين الجزيري: مباراة دريمز الغاني المقبلة صعبة    بركات قبل لقاء الأهلي: مباراة مازيمبي وبيراميدز شهدت مهازل تحكيمية    كرة يد.. تعليمات فنية مطولة للاعبي الزمالك قبل مواجهه الترجي التونسي    يوفنتوس يواصل فقد النقاط بالتعادل مع كالياري.. ولاتسيو يفوز على جنوى    دوري أدنوك للمحترفين.. 6 مباريات مرتقبة في الجولة 20    "شقهُ نصُين".. تشييع جثة طفل لقي مصرعه على يد جاره بشبرا الخيمة (صور)    أهالى شبرا الخيمة يشيعون جثمان الطفل المعثور على جثته بشقة ..صور    ضبط نصف طن لحوم فاسدة قبل استعمالها بأحد المطاعم فى دمياط    بالأسماء ... ارتفاع ضحايا حادث تصادم بالدقهلية إلى 10 مصابين ومتوفى    "محكمة ميتا" تنظر في قضيتين بشأن صور إباحية مزيفة لنساء مشهورات    حريق هائل بمخزن كاوتش بقرية السنباط بالفيوم    وزارة الداخلية تكرم عددا من الضباط بمحافظة أسوان    نشرة منتصف الليل| الأرصاد تكشف موعد الموجة الحارة.. وهذه ملامح حركة المحافظين المرتقبة    بصور قديمة.. شيريهان تنعي الفنان الراحل صلاح السعدني    حدث بالفن| وفاة صلاح السعدني وبكاء غادة عبد الرازق وعمرو دياب يشعل زفاف نجل فؤاد    إياد نصار: لا أحب مسلسلات «البان آراب».. وسعيد بنجاح "صلة رحم"    نسرين أسامة أنور عكاشة: كان هناك توافق بين والدى والراحل صلاح السعدني    يسرا: فرحانة إني عملت «شقو».. ودوري مليان شر| فيديو    انطلاق حفل الفرقة الألمانية keinemusik بأهرامات الجيزة    بعد اتهامه بالكفر.. خالد منتصر يكشف حقيقة تصريحاته حول منع شرب ماء زمزم    خالد منتصر: ولادة التيار الإسلامي لحظة مؤلمة كلفت البلاد الكثير    تجليس نيافة الأنبا توماس على دير "العذراء" بالبهنسا.. صور    أعظم الذكر أجرًا.. احرص عليه في هذه الأوقات المحددة    أدعية الرزق: أهميتها وفوائدها وكيفية استخدامها في الحياة اليومية    بجوائز 2 مليون جنيه.. إطلاق مسابقة " الخطيب المفوه " للشباب والنشء    آلام العظام: أسبابها وكيفية الوقاية منها    باحث عن اعترافات متحدث الإخوان باستخدام العنف: «ليست جديدة»    مرض القدم السكري: الأعراض والعلاج والوقاية    متلازمة القولون العصبي: الأسباب والوقاية منه    «هترجع زي الأول».. حسام موافي يكشف عن حل سحري للتخلص من البطن السفلية    نصبت الموازين ونشرت الدواوين.. خطيب المسجد الحرام: عبادة الله حق واجب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حي العطارين..
رائحة تقاوم الضياع
نشر في أخبار الأدب يوم 23 - 10 - 2010

إنها الرائحة ولا شيء آخر،سيفقد المكان ناسه، تاريخه، أحبته، لكنه لن يفقد رائحته أبدا، إنها قوام المكان،ما يحفظه من كل هذا التيه الذي يضرب بجذوره في أعماقنا،العطارين.
عمر عائلتي في المكان 80 عاما نصيبي منها السنوات الست الأولي من طفولتي ، من العطارين الأصل إلي سيدي بشر الهجين، مازالت العطارين هي كل شيء، مكان لايثقله التاريخ الطويل-بل يجعله أخف وأصدق- مقارنة بتاريخ سيدي بشر الذي لم يعرف العمران والحياة الا في الثلاثين السنة الأخيرة.
مكان يتشبث بجمال خريفه، الهدوء، الألفة .
إنها الرائحة ولاشيءآخر، يقولون إن أصل التسمية أن العطارين كانت أكبر مركز للعطور وآخرون يقولون إنها العطارة، بينما ينسب البعض الأمور إلي ولاية سيدي محمد العطار المدفون في جامع العطارين.
عرفت منذ اللحظة الأولي التي وطأت فيها العطارين للكتابة عنها للجريدة أن الأمر سيكون شخصيا أكثر منه كتابة تحقيق صحفي جيد.هنا عائلتي التي لم أحاول أبدا أن أعرف من أين أتت أو كيف صارت، عرفت ذلك من الرائحة، تلك الألفة التي تميز شارع العطارين،مكان تعلمت فيه الخيال والصحبة ،كل الأمهات هنا أمهاتي والجدات أيضا كذلك،جدتي كانت تخلط الحكايا دائما،حكاءة بارعة هي لأنها حكت لي تاريخا يشبه حواديت الجنيات،ممتن لها لأنها لم تحك لطفل تاريخا حقيقيا،لكنها لاتعرف أني مازلت أذكر كل حرف قالته لي عن قدوم عائلتنا إلي الاسكندرية من المغرب رغم أنهم قدموا من الأصل من المنصورة هربا من ظلم امرأة أب،كما اتذكر نوعية الألعاب التي كان أبي يشتريها لي من هناك،والتي كان مصدرها الأصلي " ظنانة " ملك الألعاب في شارع فرنسا،ألعاب من البلاستيك، بسيطة وطيبة لكنها دائما تدفع نحو خيال دافيء، الجيوش البلاستيك المتقنة،المكعبات، المدفع الرشاش الأبيض، لعبة المأمور الأمريكي صائد الخارجين عن القانون بكامل عتاده الشارة والمسدس والأصفاد،مدينة هائلة لألعاب حقيقية لأنها لم تكن أبدا كاملة ،كان عليك دائما أن تحرك الجندي بيديك وتغامر معه عندما تصادفه دبابة ، كان عليك أن تخترع حكاية لسائق سيارة بدون ريموت أو زمبرك ، ان تحركها بنفسك ..ذلك هو سر جمالها تحديدا،حتي الحلويات كانت دائما مغلفة بفكرة،اذكر منهاالبايب الملون الذي يحتوي علي قطع حلوي صغيرة و الذي تعودت شراءه أثناء ذهابي للمدرسة المسيحية الكاثوليكية سان ميشيل بجوار سوق العطارين _بياصة الشوام- التي تعلم ابناء المسلمين والمسيحين علي السواء ، كان أبونا يدخل علينا الحصة ليبهجنا ليس أكثر، أذكر جيدا خدعته المفضلة التي فعلها حتي حفظناها ورغم ذلك كانت تدهشنا في كل مرة ، كان يقدم هدية إلي المدرسة في علبة ، التي لاتكون في الغالب سوي عفريت اللعبة ، تصرخ "المس "ونضحك نحن ، كل شيء في العطارين كان دافئا ، حتي أدوات المدرسة ، ""الجومة "بلغة الاسكندارنية والأستيكة بلغة البلدان الغريبة عني، بلونها المميز أحمر للرصاص وأزرق لمسح القلم الجاف، لم تعوضني كل "الجومات" التي اشتراها لي أبي بعد ذلك عندما انتقلنا إلي منطقة ميامي بسيدي بشر، لأنها كانت دائما الأكثر دقة ورسوخا وجمالا ، الصنعة التي افتقدتها الأماكن وخانتها الحياة .
عائد إلي ذاكراتي ورائحتي، التقيت الناس هناك ، سجلت حوارات كثيرة، وبعد 4 ايام من العمل المتواصل ضاع الكشكول الذي دونت فيه كل ذلك، وجلست لأكتبه -مكلوما علي الجهد من الذاكرة - هل كان علي أن استعيد هويتي مرة أخرة من الذاكرة ..هل كانت علامة، أكتب الآن وأنا لا أعرف إن كنت سأنجح أم لا ، استعيد الرائحة لأتذكر هويتي الضائعة و ماسطرته في كشكولي التائه الذي يتجول الآن مع خطوط الترام ..لا أملك الآن سوي ذلك ..إنها الرائحة ولا شيء آخر.
(1)
"جامع القديس أثناسيوس"
إمام جامع العطارين شاب من المنوفية، تعيينه جاء هنا،صدفة لا أكثر، عندما دخلت لأساله عن الضريح الموجود بالجامع، قال لي بمنوفية صرفة "وإنت عايز تعرف بسكندريتي ، كل مايعرفه إمام أقدم جامع في الاسكندرية بعد الجامع الذي بناه عمرو بن العاص أن الضريح لسيدي محمد العطار "هل تعرف شيئا آخر؟ انطفأت منوفية الامام الواثقة في نفسها بلا سبب ، تعمدت أن أجرحه بجهله ، "أنت في جامع مهم من المؤسف أنهم أتوا بك إلي هنا دون أن يخبروك عن موضع قدميك " ثم تركته معتذرا عن اقلاق راحته !!تكرر الأمر مع قسيس الكنيسة الانجيلية بالعطارين الني يعود تاريخها إلي عام 1867!!ندمت فيما بعد فأنا ابن المكان كنت أجهل حتي تاريخ عائلتي فيه الذي لم يتجاوز 80عاما.
مسجد العطارين، هو حجر الزاوية في المكان، رغم أن تصميمه الاسلامي يختلف عن الذوق الأجنبي الذي صمم البيوت والمحلات القديمة التي لازال أغلبها موجودا،فالعطارين كانت حتي بداية الستينيات مكانا للجريج والأرمن والايطاليين والشوام واليهود أيضا الذي جاء رحيلهم مبكرا عن باقي الطوائف الأجنبية ،لأن خوفهم الحقيقي بدأ مع الحرب العالمية الثانية واقتراب روميل من الاسكندرية بوصوله إلي العلمين ، أما خوف باقي الطوائف ورحيلهم جاء نتيجة قرارات التأميم .
وفي كتاب وصف مصر هناك وصف تفصيلي للجامع عن الزخارف المحفورة في الرخام والجرانيت والمرسومة بالفيسفاء:
"يتكون المسجد الحالي من مساحة مستطيلة تبدو من الخارج مثلثة الشكل حيث يتصدر قمة المثلث من الخارج من الناحية الجنوبية الشرقية كتلة المأذنة ، استوحي العرب شكل المآذن من فنار الاسكندرية فصمموها علي طرازها وللجامع واجهتين هما الواجهة الشمالية الشرقية وبها المدخل الرئيسي للجامع ومن الداخل به طابقان الأرضي لصلاة الرجال والآخر للنساء ويوجد بالطرف الشرقي لواجهة المسجد مدخل آخر يؤدي إلي القبة الضريحية مكتوب علي مدخلها :"هذا ضريح محمد بن سليمان بن خالد بن الوليد جدد سنة 1319هجريا"..
أما الواجهة الجنوبية الغربية فكان بها مجموعة من المحلات كانت موقوفة علي المسجد للصرف من ريعها عليه ويقع بالطرف الغربي للواجهة مدخل آخر يؤدي إلي روضة الجامع ويعلوه هذه الكتابة التالية
»جدد هذا المسجد المبارك في عصر خديوي مصر عباس حلمي أدام الله أيامه سنة 1319ه«
لم يكن المسجد كما هو الآن. كان كنيسة للقديس أثناسيوس ، علي أنقاضه بني جامع العطارين ، حتي أن الفرنسيين عندما جاءوا إلي مصر سموه بجامع القديس أثناسيوس، ظهر القديس أثناسيوس في المرحلة التي انتقلت فيهاالمسيحية من مرحلة الاضطهاد والتعذيب -التي طالت السكندريين المستعدين دائما للتمرد- إلي مرحلة الدراسة حتي أن خلافا كبيرا نشأ بين المسيحيين في تفسير المسيحية وكانت أولي بوادره في الاسكندرية باعتبارها من أكبر مراكز انتشار المسيحية في العالم كان الخلاف بين اثنين من فريقي أريوس واثناسيوس وانضم إلي كل منهما أتباع ومؤيدون وكثر الشغب بينهما وهكذا بدأ تاريخ المجامع العالمية أو المسكونية وفي مجمع نيقية الذي انعقد في سنة 325 م استطاع القديس أثناسيوس أن يدحض براهين رفيقه أريوس ليصدر القرار بالقضاء علي تعاليمه .
بعد الفتح العربي بني علي أنقاضه مسجد صغير ولم يكن هناك في الاسكندرية كلها سوي جامعين ، الجامع الغربي الذي بناه عمرو بن العاص وهدم في فترة لاحقة والجامع الشرقي أو جامع العطارين لكنه تهدم مع الوقت بل وبيعت أسقفه.حتي جاء المملوك الأرمني بدر الدين الجمالي أو أمير الجيوش في عصر المستنصر بالله الذي استعان بجيشه الأرمني للسيطرة علي القلاقل التي واكبت عصره وأرقت الدولة الفاطمية ، كان ابن بدر الدين الجمالي قد عين ابنه الأكبر "الأوحد بن الحسن " واليا علي الاسكندرية ، لكنه ثار علي أبيه وسمي نفسه بمظفر الدولة فحاصر والده المدينة شهرا حتي طلب أهل الاسكندرية الأمان وفتحوا له باب المدينة ، عوقب الابن بالأسر أما أهل الاسكندرية فعاقبهم المملوك ليه " استفزتني اجابته عن مااظن أنه يدفعني للتباهي
الأرمني علي تأييدهم لثورة ابنه الأوحد بفرض ضريبة علي المسلمين والأقباط 120 دينارا من كل شخص ، جدد بها مسجد العطارين الذي يسمي أحيانا بالجيوشي نسبة إلي أمير الجيوش الجمالي، استمر مسجد العطارين هو المسجد الذي تقام فيه الجمع ، جمع الدولة الفاطمية حتي سقطت فأمر صلاح الدين الأيوبي بنقل الجمعة إلي جامع آخر ، فالدين دائما في خدمة السياسة ، الضريح لعالم قادم من المغرب وهو أحد اساتذة المرسي أبي العباس .تعرض الجامع للاهمال ، الاهمال الذي كان مواكبا دائما لتراجع مكانة المدينة بعد اكتشاف رأس الرجاء الصالج عام 1497 م حتي ان عدد سكان الاسكندرية الذي بلغ 600ألف نسمة في عهد البطالسة تراجع إلي ثمانية آلاف نسمة عند قدوم الحملة الفرنسية ثم قفز بعد انشاء محمد علي لترعة المحمودية التي اعادت الحياة إلي المدينة ليرتفع عدد السكان إلي 220 ألف نسمة في عهد الخديو اسماعيل ، وفي عام 1901 أمر الخديوي عباس حلمي الثاني بتجديد عمارة جامع العطارين بعد تهاوي سقفه المملوكي والعثماني ولم يبق من عمارة المسجد القديم سوي اللوحة التي سجل عليها تاريخ تأسيس الجامع في عصر بدر الدين الجمالي كتب عليها "بسم الله الرحمن الرحيم ..إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتي الزكاة ولم يخش إلاالله" لم ينس الخديو عباس حلمي اسم من بني الجامع من أموال عقاب السكندريين علي تمردهم ..أمير الجيوش بدر الدين جمالي.
(2)
"البحث عن أجنبي "
"الاسكندرية هي الأميرة والبغي ، وهي المدينة الملكية والمؤخرة اللواطية ، إنها لن تتغير أبدا ،طالما استمرت الأجناس المختلفة تضطرم فيها مثل عصير العنب الذي يتخمر في الراقود ،وطالما ظلت فيها الشوارع والميادين ، تتدفق وتنبجس ،وتتخمر فيها هذه الأهواء المختلفة والضغائن المتباينة ، والتي سرعان ما تهدأ فجأة ، إنها الصحراء المغطاة بعظام هؤلاء المنفيين فيها "
لورانس داريل ..رباعية الاسكندرية
إنها الرائحة ولاشيء آخر
عندما دخل عمرو بن العاص الاسكندرية قال عنها في خطابه إلي عمر بن الخطاب "لقد استوليت علي مدينة ،كل مايمكن أن أقوله عنها إنها تحوي 4000قصر، 4000طريق ، 1200 محل للخضار، 40.0000يهودي« إنها مدينة الأوجه المتعددة منذ قديم الأزل لكن المدينة عادت تعاني من الخراب حتي أعاد محمد علي إليها الحياة بشقه لترعة المحمودية ثم عادت لتعاني من الغزو البريطاني عام 1882، ثم صارت موطنا للأجانب :إيطاليين ، فرنسيين ، يونانيين ، أرمن ، شوام ، ترك ، بلغار ، مدينة من اللغات والأمزجة والمصالح المختلفة لتصير مدينة نادرة ،حي العطارين ظل حتي خمسينيات وستينيات القرن أهم مركز من مراكز الأجانب في مصر ..لكن أين هم ؟
إنها الرائحة ولاشيء آخر ..هي فقط ماتؤكد وجود أجانب في حي العطارين ..تفاصيل البيوت ،تصميم المحلات، اللافتات التي لم تستغن عن اسماء اصحابها الأصليين ، لكن عندما سألت عن بقاياهم لم أجد ، كلهم رحلوا ، كان آخرهم أرمنياً يدعي جورج ، هاجر منذ عامين بعد أن باع محل الساعات الذي يملكه ،عم محمد مصطفي صاحب محل عصير العطارين :دلني علي آخر عائلة يمكن أن أجدها هناك:عائلة باسيلي اليوناني .
لكنه حذرني من القهوة "يقدموها في كراوانة لا في فنجانة " وكاد ينسحب كي يفلت من "علقة " القهوة تلك ،صعدنا معا إلي بيت باسيلي، علي عتبة البيت،كانت هناك أصص صبار وزينة،كانت البيوت والمحلات تهتم بالنباتات والطيور وكان من الطبيعي أن تجد من يحتفظ في بيته بببغاء أوفي محله بحوض فيه ترسة، نظرة علي عتبات البيوت المجاورة لعائلة باسيلي لاكتشاف الفارق ، عتبة بيت باسيلي مازالت تتشبث بالبهجة في أصص زرع.
حتي الخمسينيات كان الشارع الرئيسي للأجانب أما الأزقة فكانت لأولاد البلد، يتبدي ذلك من نوعية البيوت في الحواري الجانبية، إنها تقلد صنعة الأجانب في البناء، لكنها فقيرة وعشوائية ولايتخطي أغلبها ثلاثة أدوار علي الأرجح.كانت محلات أولاد البلد داخل سوق العطارين الذي بدأ فقيرا ولكن جميلا وانتهي فقيرا لكن موصوما بالدعارة والمخدارت وبصراع عائلات الصعايدة التي تصل إلي ضرب النار.من داخل سوق العطارين خرج اولاد البلد ليمتلكوا المحلات التي هجرها أصحابها الأجانب ، ليتنفسوا هواء الشارع الرئيسي، منهم جدي الذي سهلت لي سيرته الطيبة الولوج إلي قلب العطارين من جديد.كانت عائلة باسيلي تعرفه بل وعملت معه .
باسيلي يوناني قدم منذ زمن إلي الاسكندرية ليتزوج ماري سليم الغز، ملاك من لبنان عمرها الآن 78 عاما وتستعد لدخول الجنة، أعرف ذلك لأني لم أكن أجلس مع جسد بل روح خفيفة ومرحة لم تكسبها الحياة مرارة أكسبتها مزيدا من الحب وخفة الدم .
مات باسيلي مبكرا بعد أن ترك لها أنطوانيت "أو مدام تونة " وتعمل خياطة واكتسبت الجنسية المصرية بزواجها من سليم نيكولاداود تركي الأصل الذي جاء أبوه نيكولا داود هربا من الحرب الأهلية في تركيا ، جنسيات كثيرة جاءت هربا من القلاقل والحروب كعائلة بولس شوحا صاحب محل الأحذية الأشهر في العطارين، وإلياس ملك السمان في سوق العطارين وهم من عائلتين لبنانيتين جاءا هنا هربا من الفتن بين الطوائف المسيحية في لبنان، وعاني الأرمن من رحلة اضطهاد طويلة ومجازر ولم يجدوا الأمان سوي في مصر .
الابن الثاني لماري وباسيلي يدعي أيضا نيكولا ومازال يوناني الجنسية ،يأتي كل 6 أشهر إلي مصر بتصريح اقامة، كلهم يتحدثون اللهجة السكندرية بطلاقة ، لا أثر لكلمة أجنبية ، لاشيء سوي الرائحة الودودة لكوكتيل الجنسيات الطيبة التي يجمعها هذا البيت "لبناني _تركي الصحراء الخصيبة لعلاقات الحب البشري ، تلك
_جريجي " ليسوا أغنياء ولم يكن هذا من تأثير الزمن ، أجانب هذا الحي رغم امتلاكهم لمحلاته وتجارته في الخمسينيات يختلفون عن الأجانب في أحياء الاسكندرية أخري،كانوا بسطاء ولم يكونوا بهذا الغني.
تقول ماري سليم الغز:كنا نملك عمارة في زمن ما ، قبل أن يستولي عليها أحد ابناء البلد ، تذكر التاريخ 2 فبراير ، وقفت أمام محل ذلك الرجل الذي استولي علي عمارتها وأسكنها "لبرابرة وصعايدة بدلا من الجريج والأرمن علي حد قولها " لتصرخ فيه :لنا رب يتولانا ..ستموت في نفس اليوم الذي استوليت فيه علي حقي .بعدها بعام توفي الرجل ، في 2 فبراير اليوم الذي استولي فيه علي محلها .مباركة حقا ماري سليم الغز ، وأصدق ما قالته .
استقبالهم كان ودودا، احتفوا بي، جلست كأني أجلس في بيتنا القديم في العطارين ، استعدت للحظات تلك الروح القديمة ، حيث كل الأمهات أمهاتك وكل الجدات جداتك يحكين وتستمع بود وخضوع ، عندما سألتها عن جنسيتها قالت :أنا اسكندرانية من العطارين ، اتولدت هنا وهموت هنا !!
جاءت أنطوانيت بالقهوة، لم يكن فنجان القهوة الكبير بهذا الرعب الذي وصفه بائع العصير ، بل كان بهذا الجمال ، البن هو علامة عمق الأماكن ، يصبح شهيا وثقيلا في العطارين وباب اللوق ، شائها ومائعا في سيدي بشر وفيصل ، وقريبا من رائحة الجنة في البن البرازيلي ومن يد أنطوانيت باسيلي في بيتها الذي يطل علي الحياة.
أثاث البيوت في العطارين يتشابه، الذوق البسيط نفسه الذي يتميز بالأناقة، الأنتيكات التي تحمل أفكارا مبتكرة لاشتهار حي العطارين بكونه أكبر سوق للأنتيكات في الاسكندرية والموبيليات يجعل تشابه البيوت من الداخل منطقيا، لكن لأنطوانيت تفسيرا آخر :كنا ندخل بيوت بعضنا البعض وكنا نتبادل السهرات مع بعضنا البعض ، لكل بيت يوم تكون السهرة عنده ، لكن تلك الأيام رحلت ، لكن ما يحزنني أنهم الآن يتجنبونني ليس لأني يونانية الأصل ، لكن لأني مسيحية ، الزمن هو الذي تغير ، وليس الناس ، الجيران هما هما الجيران ، نفس اللي كانوا بيحضروا أفراحنا وجنازتنا ، هما اللي دلوقتي ما بيرموش السلام وبيعلموا ده لأولادهم .
سليم نيكولا داود حدثني عن الفارق بين شارع العطارين فيما مضي والآن :النظافة ..كانت تلك هي الكلمة السحرية هنا ..كل 100 متر كان لها كناس مخصوص يحرص أصحاب المحلات علي مراضاته ، حتي مناور البيوت ، لم تكن مكانا للقمامة ، كان الجريج يعلقون بها ميكروفانات ويدورون أسطوانات مزيكة أويعزفونها كي يستمع الناس إلي الموسيقي.
تتذكر ماري أيضا الياس ملك السمان في سوق العطارين البياصة الذي كان سمانه يجلب الفنانين والمشاهير والوزراء إلي العطارين ،تتذكر منهم صباح وفريد الأطرش ،لم تنس ماري الأغنية التي غناها فريد الأطرش في العطارين عندما جاء ليأكل سمان إلياس الشهير ..غنت لها بالفعل كانت أغنية أخته اسمهان:دخلت مرة في جنينة اسمع نشيد الطيور..تلك المرأة رائعة أقصد ماري لا اسمهان .
لم تكن النظافة وحدها تقول ماري ملاكي العجوز :الحب أيضا والرضا..لم نعرف القرش الرائج أبدا ، لكنا عرفنا كيف نمرح ونبتهج ونعيش بالقرش القليل .سألتها عن فسح زمان :فتدفق أمامي سيل من الذكريات ، أحاول اصطيادها من الذاكرة كما فعلوا هم ضاع زمنهم الدافي وأنا تاه كشكولي في ترام النصر" :ستانلي وكامب شيزار وسينما الماجستيك تتذكر لعبة اسمها البيترو والتي كان يقف أحدهم ليرمي صحونا ليصطادها الناس بالبندقية مقابل قروش قليلة، كنا نخرج عائلات كبيرة قبل أن تفرقنا حرمانية مصافحة القبطي .
منذ فترة وقعت أسقف البيت علي أنطوانيت، كانت تقريبا مدفونة، دخل ولاد البلد لانقاذها ، لكنهم سرقوا أنتيكات المكان ..تقول أنطوانيت :أجد عفشي في بيت جارتي وعندم ألمح تقسم لي انها اشترتها من السوق..هما هما نفس الجيران ..ياريتهم كانوا ناس تانيين .
نبش البيوت القديمة مهنة معروفة في العطارين ، يدعي اصحابها بالفئران البشرية ، وهي مهنة محترمة لأنها تقوم علي البيوت المهجورة، ماحدث مع انطوانيت لم يكن من فعل الفئران البشرية فهي مهنة شريفة في النهاية،كان من فعل تغير الأخلاق لا أكثر، وللفئران البشرية مقهي شهير يتجمعون عليه يدعي مقهي علبة كان منشأه بائع تحف فلما غير نشاطه إلي مقهي ، تجمع حوله مهاويس الأنتيكات وفئران العطارين البشرية .
في اليوم التالي جئتهم من أجل تصوير البيوت من شقتهم في الدور الثاني ، لم يقل الترحاب ولو دقيقة، دعت لي ماري كدعوات جدتي ، طلبت منها أن نأخذ صورة معا ، ضحكت بخجل صبية ولم توافق الا عندما اقسمت لها أن تلك الصورة لي وليست للنشر "أريد أن احتفظ بذكري أني قابلت أحدا مثلك " قبلتها علي رأسها كما لم أفعل مع جدتي من قبل ، لم أكن ارغب في النزول من بيتهم ..من يرغب في مغادرة أسرة بها ملاك عجوز وعائلة ودودة وقهوة فيها من رائحة الجنة كالتي أعدتها أنطوانيت التي سمحت لي منذ الزيارة الأولي أن اناديها باسم الدلع "مدام تونة " أماشقيقها نيكولا فأقسم علي أن اطلب هدية يحضرها من اليونان .
"وماقصر في الأعمار طول السهر..مخبز وفطاطري.. خدمة ليلية 24 ساعة "
حي العطارين كله عبارة عن سوق كبير ، ربما هي رائحة الرزق إذن وليست رائحة الأجانب أو العطارة، العطارة تجارة اختفت منذ زمن بعيد ، لم يتبق منها سوي اسم الحي ، كانت العطارين أهم مركز لتصدير العطارة إلي مملكة البهار في أوروبا ،هولندا التي كانت تمتلك أربعة آلاف جزيرة بهار في أندونيسيا وهي التجارة التي احتكرها بعض سلاطين الممماليك لرواجها وبلغ الاحتكار ذروته أيام الأشرف برسباي الذي أصدر عام 1428 م مرسوما حرم فيه شراء التوابل من غير مخازن السلطان .وكان التجار ينزلون في القلزم السويس حاليا قبل اكتشاف رأس الرجاء الصالح وينقلون بضائعهم علي الجمال إلي الاسكندرية يعبرون من الملاحات "مريوط " والطريق الزراعي حتي يصلوا إلي الباب الشرقي وهو باب دخول المدينة من الشرق -ويسمي باب رشيد بجوار الشلالات _ينام التجار حتي الصباح عندما يأتي الحراس ليفتحوا لهم باب المدينة يعبرون المنازل حتي يصلوا إلي الدكاكين داخل المدينة وكان الوكلاء الأجانب يخرجون لاستقبال القوافل القادمة في العطارين، ينزلون البضائع في المخازن الضخمة والخانات ، يخزنونها عندهم ويبيعون للتجار المصريين الجزء المراد بيعه في مصر أما البضاعة المصدرة القادمة من جنوة وبندقية ومارسيليا فكانت تنقل إلي المراكب من العطارين إلي شارع الخديو إلي الميناء الذي عرف فيما بعد بميناء البصل.
بدأ سوقا واستمر كذلك حتي لو تغيرت السلع ، اختفاء مهنة العطارة أعقبه ظهور محلات أخري للساعات والموبيلياوالذهب والأنتيكات والنجف، بياصة الشوام كانت ومازالت سوقا للملابس المستعملة مما استلزم وجود خياطين،الخياطة تبعها أن يكون هناك مهنة لمستلزمات الملابس "كلف وزراير "وهو ما يسمي بالخردواتي مهنة جدي وأعمامي.كانت البقالة فيما مضي من نصيب الجريج والساعات للأرمن والرهونات لليهود والأنتيكات والموبيليا للايطالين بينما المخابزوالحانات التي اختفت كانت موزعة بين الشوام والجريج ،آخر حانة اغلقت منذ عام اشتراها مصري بنفس الطريقة التي اشتري بها أولاد البلد المحلات من الأجانب عند خروجهم من البياصة والأزقة إلي نور الشارع الرئيسي ، قرارات التأميم أفزعتهم ،
شعروا أن البلد لم تعد ملكهم وأنها صارت لأولاد البلد فملكوها لعمالهم ، كانت الخمر تباع بل وتصنع في محلات البقالة أيضاكما أخبرني الحاج يسري السيد خياط سابق غير نشاطه إلي محل اتصالات بعد ظهور الجاهز، وكانت أغلب الحانات تملكها سيدات، كافتيريا الحرية الحانة الأخيرة في المكان كانت ملك جريجي وتديرها زوجته اليونانية أيضا كانت تدعي وسيلة باعوها إلي مصري توفي فورثها إلي ابنه ، لكنه تمادي عندما فتح حانته في نهار رمضان ، فأغلقت له الشرطة محله .
بنفس الطريقة آل مخبز أثينا الذي تخطي عمره المائة عام إلي عبد النبي الخولي الذي كان عاملا بالمخبز عام 1964 عقب قرارات التأميم ، ومن ورثته من بعده .في الواقع كلمة شراء كلمة غير دقيقة فأغلب العقود عقود ايجار ، العقد ما بين نقولا حاجي كوستا وعبد النبي الخولي يعد حقا وثيقة تاريخية ،المكان نفسه وثيقة تاريخية فتصميم المكان لم يتغير ويحتفظ الورثة بصورتين مهمتين للعطارين القديمة واحدة منهما يظهر بها الترام الذي كان يمر بشارع مسجد العطارين قبل أن يزال والثاني تظهر فيه أسعار ذلك الوقت حيث لم يتخط سعر كيلو الغريبة 35 قرشا رغم أن سعره الآن بلغ 100جنيه ،ورق العقد نفسه فاخر تعلوه صفرة الزمن ومكتوب باللغتين الفرنسية والعربية، ولغته نفسها تحمل بلاغة أدبية .
العلاقة بين عائلة كوستا التي عادت اليونان وعائلة الخولي لازالت طيبة وحميمية ، ومازالت المراسلات متصلة بينهم ، هم لم ينسوا أمانة صاحب المخبز الذي سدد ماالتزم به ناحية كوستا ولم تنس عائلة الخولي أنها الآن تملك تراثا ومخبزا ضمن لها حياة ميسورة. تكرر الأمر مع مخبز ايديال الشهير الذي يعلق علي زجاج المخبز بيتاً من رباعيات الخيام "وما قصر في الأعمار طول السهر ..خدمة ليلية 24 ساعة، محلات عديدة في المنطقة صارت للمصريين كمحل ساركو للساعات .
كل ابناء العطارين "ولاد سوق " بالمعني الحرفي ، يتباينون في درجات الشطارة ، لكنهم يتفقون في اللسان الحلو وخفة الدم التي تفرضها متطلبات البيع بل والتعبيرات الشاعرية "العطارين كانت فرح منصوب""كان قنديل في الشارع ولما مات الشارع بقي كحل ""المحل اداله ضهره وماجازاهوش" تعبيرات علي لسان ابناء الحي تنطلق بعفوية ودون تكلف ، التاجر الذكي فقط يرتفع بتجارته لتدر عليه دخلا يرفعه إلي مصاف الأثرياء كالحاج سيد الملواني. حكايات النجاح المبهر هناك تثير الجدل ، الملواني أحد خريجي مدرسة البياصة ركب الموجة الدينية التي بدأت في الثمانينيات ليحول نشاطه إلي ملابس المحجبات ، ليرتفع نجمه حتي بداية قضية نواب القروض التي اتهم فيها .
(3)
"في البدء كانت البياصة "
" من أين جئنا ياجدتي ؟"
قالت الحكاءة البارعة :من المغرب، ركب جدك واشقاؤه سفينة ضخمة هربا من حاكم ظالم ، كانت السفينة بلا ربان ، سفينة سحرية بها دفة تشبه اليد ، اسمها يد القدر ، تقرأ قلوب المسافرين عليها، علي قدر قلوبهم يكون قدرهم ، وكان قدر جدك الاسكندرية .
من يومها لم اسأل عن أصل عائلتي ، عندما نزلت إلي العطارين للكتابة عنها عرفت أن جدي لم يقدم من المغرب بل من المنصورة هربا من ظلم امرأة أب، جاء إلي سوق العطارين ،فرصة أولاد البلد الوحيدة للزرق في شارع يملكه الأجانب،تدعي بياصة الشوام ، سوق منفصل عن العطارين لتجارة الملابس المستعملة بدأ غريبا وجميلاوانتهي غريبا وموصوما .
سيرة جدي الطيبة سهلت لي عملي ،شعرت به حولي في كل لحظة .
جاء جدي مع شقيقه وعمره 15 عاما ، بدأ في بيع الملابس القديمة في سوق العطارين مع أخيه ، ذكاؤهما وطموحهما، جعلاهما يتعاملان مع الجيش، ليربحا كثيرا من بيع البطاطين والأفرولات والملابس العسكرية للجيش المصري في الخمسينيات ليشتريا دكانا في السوق .
لم يكن السوق به دكاكين في البداية ، كان البائعون يفرشون بضاعاتهم علي طاولات مرصوصة ومنظمة ، كان السوق في البداية للباعة الشوام ، الذين انتقلوا من شارع الليثي إلي هنا ، ثم تركوه لأولاد البلد ، ومازال الشارع يحتفظ باسمه ميدان السوريين أو بياصة الشوام وكلمة بياصة كلمة ايطالية الأصل تعني الميدان .
كان السوق في الصباح لبيع الملابس المستعملة أما في المساء فكان يتحول لبهجة بلا حدود علي يد إلياس اللبناني ملك السمان الذي جاءت عائلته إلي مصر هربا من فتن الطوائف المسيحية في لبنان ومقهي حبيب السوري .
في المغرب يجمع كل صاحب بضاعة بضاعته ويضعها في "المغازة" المكان المخصص لحفظ البضاعة والطاولات مقابل أجرة ، ليبدأ أجمل ماعرفته العطارين ، يبدأ الياس ملك السمان برش السوق وكنسه ،كان يؤجر لذلك كناسين مخصوصين ، ثم تفرد طاولات الطعام ، وتبدأ موسيقي عازفيين سوريين علي مقهي حبيب بالعزف ، يبدأ دخان
السمان المشوي في التصاعد يملأ سماء العطارين ، كانوا يحبونه، فذلك الدخان كان يجلب معه صباح وفريد الأطرش وفريد شوقي ومحمود المليجي وقناصل الدول الأجنبية وأعضاء مجلس قيادة الثورة ونجوم مجتمع كان قادرا علي الاحتفاء بالحياة.
لكن الأجمل من حضور النجوم إلي إلياس ، كان إلياس نفسه الذي كان يترك لأطفال السوق ساعتين قبل أن تبدأ عملية شوي السمان للعب الكرة بعد أن ينظف لهم السوق ويرشه بالماء ، كان يعلم أنهم محرومون من اللعب فالصباح للعمل والمساء للبهجة .
تغير كل هذا ، اصبح المكان موحشا وكئيبا وعشوائيا ، استبدلوا العجلات بأكشاك قبيحة مثبتة في الأرض،أكشاك تستعمل في المساء للدعارة وفي النهار ببيع المخدرات جهرا.
تلك الأكشاك هي قلب ميدان السوريين بينما علي حوافه محلات الموبيليا الكبيرة التي تمتلكها عائلة صعيدية تدعي العرابة في منافسة مع عائلة أصغر عددا وعتادا تدعي عائلة بني فيز القادمة من أسيوط امتلكت مقهي حبيب والأكشاك التي نصفها للرزق الحلال ونصفها للرزق الحرام .
لم يكن الصعايدة يملكون شبرا في سوق العطارين ، جاءوا سريحة صغاراً منذ أعواماً لا تتخطي 40عاما ، ولم يتخط عددهم العشرات، كان وقتها السوق قد استتب لأولاد البلد من الاسكندرانية، كانوا جدعان السوق ورجاله الذين يأتمر السوق كله بأمرهم "كزيزو "وأحمد الفيل " و"ابراهيم مفتاح " كانوا يسخرون الصعايدة ويسخرون منهم أيضا كما روي لي عم حسن رياض بائع الملابس القديمة "كان من الطبيعي أن تجد الصعيدي يلبس نصف بطيخة علي رأسه كي يسخر منه ابن البلد "سألته "لكن أين هم الآن ، لاأري سوي صعايدة في امتداد السوق "قال "اتسرسبوا إلي هنا واحدا تلو الآخر ، ثم جاءوا بعائلاتهم ، ابن البلد نزيه ، لكن الصعايدة القادمين من الفقر في بلادهم ، يأتون وعيناهم علي امتلاك ارض وعمارات ، يغمسوا لقمتهم بمية لكن الأرض والبناء أهم ، هكذا امتلكوا مقاليد سوق العطارين من أولاد البلد ،ولي زمن الاسكندرانية الجدعان ، كانوا موقفينهم عند حدهم "
انتقال السلطة من الاسكندرانية إلي الصعايدة لم يكن سهلا ، كانت هناك معارك طاحنة ، كانت كل معركة ينتصر فيها الاسكندرانية ، يعقبها ارسال الصعايدة لعائلاتهم ، حتي صار العدد في صالحهم ، المعارك الآن لم تعد بين الاسكندرانية والصعايدة ، صارت بين الصعايدة وبعضهم البعض ، آخرها منذ شهر تقريبا بين بني فيز والعرابة وهي المعركة التي أطلق فيها مالا يقل عن خمسين طلقا ناريا وتلفيات في محلات الخردوات والموبيليا والملابس المستعملة ولافتات المكاتب التجارية وشرفات المنازل، بالإضافة لإصابة عدد كبير من السكان بينهم سيدة أصيبت بطلق ناري في صدرها أثناء نشر الملابس في شرفتها بالدور التاسع، نشبت معركة بين شاب من عائلة »بني فيز« وشاب آخر من منطقة عرابة الخنافسة شرق سوهاج وعندما تدخل أهالي العطارين لحل المسألة بين كبار العائلتين اتصل الشاب الذي ينتمي لبني فيز بأقاربه في الإسكندرية وأسيوط وأخبرهم بأنه أصيب في المشاجرة ب148 غرزة وبعد ساعات قليلة وصل 25 فردا في ثلاث سيارات ميكروباص وهاجموا المنطقة بالشوم والسكاكين والطبنجات ولولا تدخل قوات الأمن المركزي لما انتهي الأمر.
فوضي بلا حدود ،ابراهيم حسنين تاجر موبيليا بالسوق ، روي لي عن نظام البيع في الماضي :
الأصل دائما بائعي السكسونيا ، يتيهون خارج السوق يقايضون الحلل النحاس بملابس مستعملة ، يأتون بها إلي السوق، ليقام عليها مزاد ، يشتريها الوسيط أو ما يسمي بالدلال ، تعرض البضاعة علي الأرض ويشتريها الدلال صاحب أعلي سعر يعرض ، الدلال هو الوسيط ، بين سريح السكسونيا وبائع الملابس القديمة ، الذي يقوم باعادة تلك الملابس إلي هيئتها عن طريق قلبها وعمليات الخياطة والرفة.من تلك التجارة إذن صعد نجم جدي وخرج ومعه ابناء السوق من بياصة الشوام إلي نور الشارع الرئيسي بعد رحيل الأجانب ،بعد ان امتلك جدي وشقيقه دكانا في السوق ، حدث بينهما خلاف علي توجه التجارة فبينما رأي شقيق جدي أن المستقبل للملابس الجديدة أو الجاهزة بينما أصر جدي علي أنه مازال للتجارة سوقها الدائم، صفي الشراكة مع شقيقه ، ليشارك رجلا آخر يدعي فتحي في محلين أحدهما للملابس والآخر في مستلزماتها أو مايسمي "بالخردوات " التجارة التي فيما بعد ستحول اسم عائلتي إلي واحدة من علامات العطارين ، فالدكان سيصيردكاكين تحمل اسم العائلة،وأحدهاسيتحول علي يد أحد اعمامي إلي مصنع كبير لتصنيع مستلزمات الملابس .
كلهم تجار، لم يعترفوا أبدا بأن يهوي أحد شيئا خارج فكرة التجارة، الربح الممسوك باليد، ومنهم فتحي ذلك الرجل الذي شاركه جدي، استوقفتني حكاية فتحي ، ذلك الرجل الممسوس _علي حد تعبيرهم _بعزف العود والغناء.
"كان يملك صوتا جميلا" يقول أحد أحفاده،كان عزف العود عنده وجلسات الفنانين غية في الدم، لذا أهمل التجارة،كان يملك صوتا يشبه عبد العزيز محمود ، وهو ماجعل صوته يمثل فتنة لأهل الحي ، لكنه لم يكن ذا قيمة عندما ذهب فتحي لاذاعة الشرق الأوسط ،رفضوه لأن صوته يشبه صوت عبد العزيز محمود ، والحياة لاتحتمل صوتين متشابهين ، انكسر قلب فتحي عاشق العود ، صفي جدي تجارته معه لأنه لم يفهم أهمية قلب فتحي الممسوس بالفن ، عمل فتحي بعد ذلك بائع تذاكر في السينما، ثم كشاف سينما حتي توفي ،بينما ارتفع نجم جدي وابنائه من بعده ، لم يخلق فتحي ليكون من ابناء العطارين ،لم يفهمه أحد، هنا مكان للتجار لا للمسوسين بحياة أنعم وأرق.
لوكان علي اختيار مصير لاخترت مصير فتحي لامصير جدي ،ما اجمل أن تملك يدا تجيد عزف العود وصوت عبد العزيز محمود ،مااجمل أن تمتلك كل هذه الفتنة حتي لو انتهي الأمر إلي احتراقك بها .
(4)
" حكاية ملك السمان
المختبيء من غدر الزمان "
كلهن مثل جداتي ،كلهن مثل أمهاتي..لكن لاأحد منهم مثل أبي، لاأحد في العطارين أب لأحد ، الابن هناك مشروع خاص جدا،توريث المهنة منتشر في العطارين من محلات البقالة إلي ستوديو التصوير الفقير مرورا بالمقاهي ومحلات الساعات والجزارة والخردوات والخياطة والأنتيكات والموبيليا ،لافرق هناك بين محل ظل فقيرا ومحل صار كبيرا،ونادرا ماتجد محلا هناك لم يرثه صاحبه عن جده أو أبيه .
السبب في ذلك أنهم بالفعل صعدوا من الصفر، ، المميز فيهم أن داخلهم ذوقا وشيئا كبيراً من الحضارة ، فعندما يصير الفقير غنيا ،لاتصبح اختياراته فجة ، سواء علي مستوي ملبسه أو سيارته أو أساس بيته،أهل العطارين كلهم يتميزون بأناقة الاختيار وبساطته ، لن يفاجئك أبدا بما يجرح عينك مهما كان مستواه الاجتماعي أو التعليمي، الجيل الثاني خرج من العطارين إلي سيدي جابر وكامب شيزار وجليم ، لكن لم ينقل تجارته أبدا خارج العطارين"هنا رائحة الرزق ،إنها ملتصقة بالشارع ،كما تلتصق الرائحة بجسد الانسان " .
ذكاء ابناء السوق القدامي ،جعلهم يعرفون مع ارتفاع مستواهم المادي ضرورة ارتفاع واجهتهم الاجتماعية شريطة الاحتفاظ بما أسسوه ، فالأب يدفع بأحد ابنائه إلي التعليم إذا ما ضمن وجود ابن آخر معه في تجارته ، يفضلون الصيدلة من الكليات العلمية _كأبي- لارتباطها بفكرة التجارة أو كلية التجارة من الكليات النظرية لمن لايحرز مجموعا لارتباطها بفكرة المحاسبة"يمسك حسابات المحل " أما البنات فأغلبهن يتخرجن مدرسات .لكن تظل
الأولوية كلها والمجد للذي استمر في العمل مع أبيه ، لأنه حافظ علي مملكته وسره ، كعمي الذي استطاع تطوير المهنة من محل خردوات ذائع الصيت إلي مصنع كبير وسلسلة محلات وهو ما لم ينجح فيه باقي اعمامي اللذين اكتفيا بمحلين يعتمدان علي سيرة جدي ونجاح عمي،فأحدهما من شريحة الفهلوية والآخر أطيب من أن يملك طموحا وذكاء تجاريا يدفع إلي التطوير.وهو ما تكرر مع عدة مشاريع تجارية أخري في العطارين كالجزارة والمخابز والموبيليا والنجف التي تميزت فيها عائلة سرور.
استفاد من خرجوا إلي الشارع الرئيسي من تغيرات بياصة الشوام التي امتلكها الصعايدة ولم يعد فيها لابناء البلد مكان لذا ثبتوا أماكنهم عن طريق أولادهم جيدا بعد أن فقدوا البياصة التي تواجه مصيرا مجهولا ومشوشا.
البياصة التي اصبحت مستعمرة صعايدة ، لم يعد بها سوي أثرين لأولاد البلد ، مقهي قدورة الذي ينافس مقهي الزعيم الذي يمتلكه ابناء بني فيز ومطعم السمان الذي أسسه إلياس اللبناني _ملك السمان- ثم انتقل من بعده إلي ابنه جورج الذي تعرض لأزمة مالية في منتصف الستينايت يقولون أنهما هربا من فضيحة اختلاس _ليسافر جورج إلي بيروت بعد أن باع محله للسمرة ليتحول من عامل في المطعم إلي ملك السمان .
السمرة ابن عائلة شهيرة هناك تدعي عائلة شحاتة عمل أغلبها مع إلياس _كفرض علي الياس _لم يكن سمرة الأكبر في عائلة شحاتة ، لكنه كان الأوفر حظا من اخوته بمبوزيا والبيضة وزوئة ، أكبرهم كان المتولي شحاتة، وكان المتولي يقسم السوق مع قدورة فتوات السوق ، نصف السوق لمتولي والآخر لقدورة .كانوا يستعيضون عن "الأتاوة " باسقاء العاملين علي الفرش شايا "عافية واقتدار" ، لايقل نصيب الفرشة الواحدة عن خمسة أكواب من الشاي ، لم يكن في مقدور أحد أن يمتنع عن شرب شاي شحاتة وقدورة الذي كان يوضع علي ترابيزة الفرش قبل أن ينتهي صاحبها من الشاي الذي بين يديه ، ولم يكن شحاتة يستطيع أن يسقي شايا في المنطقة التي تتبع قدورة أو العكس.صار قدورة بعد هذا صاحب مقهي ورثه ابنه ثم حفيده ومازال مقهي قدورة يشتهر بتجمع مصلحي الساعات السريحة عنده ، يعملون ويشربون الشاي والنارجيلة _دون أتاوة _تلك المرة.
الياس اللبناني بحس التجار الشوام الذكي ، استقطب عائلة شحاتة من باب توفير الحماية له ، فعملوا معه فترة ، وورثهم جورج ابنه عند عودة الياس إلي لبنان، صار السمرة أصغر ابناء شحاتة هو ملك السمان، المكان الذي كان جاذبا لصفوة نجوم المجتمع ، لكن الظروف تغيرت ،اصبح المطعم غريبا عن روح السوق ،سمرة ملك السمان ، لكنه يبدو ملكا معزولا ومحاصرا ، يغطي مطعمه بستارة تفصله عن السوق، لم يعد السوق ملكا للاسكندرانية، لايخالط أو يجالس أحدا، يقضي وقته في مكتب منفصلا عن كل شيء، يبدو خائفا، ربما من الأعين التي تعتقد أن صعوده كان ضربة حظ، ولأن لا نصرة له، باب مكتبه لايرحب بالغرباء، ضيق، وعتبته عليها خشبة عالية تمنع الزائرين من الدخول بسهولة.
خرجت من عنده دون أن يعطيني أي معلومات مهمة عن ملكه المختبيء "يبعد العين " مازال الزائرون المهمون يتوافدون إليه ، آخرهم كان سامح فهمي وزير البترول ومعه مجموعة من الوزراء القطريين.يتذكر حودة زيارة عبد الناصر في عربته المكشوفة التي كانت تحمل البهجة إلي العطارين لا قطع الرزق.
(5)
"مكتبة اخوان الصفا
وخلان الوفا"
سوق للتجارة،للمكسب،لقوانين البيع والشراء، مكان لم يفهم عازف عود ودفعه إلي الاحتراق طردا وتجاهلا ككشاف في السينما .هل يمكن أن تكون به مكتبة مهمة الوفا " واحدة من بهجات المكان، أغلقت منذ عام ، بعد وفاة أشهر بائع كتب في الاسكندرية ، عم ابراهيم ألماظ،الرجل الذي لم يكمل تعليمه،لكنه كان بائع كتب عبقريا، يقرأ بكثافة ، يعرف كل حرف في كل كتاب لديه ، كانت مكتبته تحوي كل ما هو نادر ومهم ، يقول عم محمد مصطفي صديقه الشخصي الذي يبيع العصير علي الناصية المقابلة للمكتبة" كان قنديل الشارع ، شارعنا بأكمله افتقد عم ألماظ" .
كان هذا المكان يوما ما أحد الأماكن المفضلة لعباس العقاد، كتب علي كل لون وبلغات عديدة "رأينا السفير الفرنسي ،هنا، كان ذلك قبل وفاة ألماظ بأشهر قليلة ، رأينا السفير يصعد علي السلم الفقير، يخلع جرافتته وبدلته الرسمية وينحني بحثا عن كتاب، ولم يكن يبيع الكتب بأكثر من جنيه أو اثنين "
الممثل السكندري محمود عبد العزيز، أحد رواد المكان حتي اغلاقه، لكن المحل لم يكن ملك عم ابراهيم ألماظ، تروي لي ابنته نجوي"عمل أبي بهذا المكان منذ كان عمره 10سنوات مع زوج أخته محمد المفتي، حتي توفي ،قرر أولاد المفتي بيع المكتبة، كان هذا يعني ان تسحب روح أبي، فعرض عليهم ادارتها مقابل أجر"
حكت نجوي تفاصيل أخري عن المعاملة السيئة التي تحملها عم ابراهيم من قبل ورثة المفتي "لم ينسوا أبدا أنه كان يعمل لديهم ،رغم أمانته، لو كان يريد أن يصير ثريا من وراء المكتبة لأراد، كثيرا ما وجد مخطوطات أثرية،وكان يسلمها لمصلحة الآثار، كان يعرف قيمة كل كتاب "
مكتبة اخوان الصفا وخلان الوفا "قنديل المكان الذي انطفأ" علي حد تعبير صديقه محمد مصطفي.
اختلاف الورثة لم يكن السبب الأخير كي تغلق المكتبة،ولا افتقار المكتبة نفسها إلي القاريء الجيد، لكن الأهم هو افتقارها إلي البائع الجيد الذي يدرك تفاصيل مايبيع وقيمة ما بين يديه،ربما لهذا يتراجع سوق الأنتيكات، المهنة التي اشتهرت بها العطارين في شارع الكفاح المتفرع من شارع مسجد العطارين.
عندما تدخل إلي هذا الشارع تشعر أنك في مكان منفصل،كأنه يحتفظ بأرواح كل من عبروا علي شارع العطارين ،كل شيء هناك متقن،الجداريات، اللوحات، التماثيل، ساعات الحائط، الاعلانات القديمة، كل قطعة هناك تنطق حكاية.
عادل أنور 54 عاما بائع أنتيكات حدثني عن بوار المهنة"لم يعد الناس يعرفون قيمة القديم"
أشار بيديه إلي تمثالين لفارسين يتبارزان من عصر الثورة الفرنسية،الأجانب ومنهم الايطاليون والفرنسيون هم من علموا المصريين، الصنعة،وعلموهم معها الاتقان والجهد"ذهب الصنايعي الجيد، وذهب معه العمل الجيد المتقن ، الشغل الآن كله بزاري يعني أي شغل أي كلام"
أراني الفرق بين شوفينيرة وأخري تقليد ،"لايوجد صنايعي الآن قادر علي صناعة واحدة مثلها،انظر إلي يعود تاريخها إلي مائة عام ، مكتبة "إخوان الصفا وخلان
عمق البروزات والنقوش،بمكن له أن يصنع شبيهتها لكنها لن تكون بنفس الاتقان أو الروح ،إنهم يريدون "
أحد الحيل التي يلجأ إليها أصحاب محلات الأنتيكات لبيع بضاعتهم هو اشتراك أكثر من تاجر في تأجير فيلا خالية من الأثاث ثم يملؤها بأثاث وقطع موبيليا نادرة من عندهم ، ثم يعلقون اعلانا علي الفيلا "بيع الأثاث لدواعي السفر" الاعلان يغري الطامعين بالحضور لمزاد البيع، لأنه يظن أن سيشتري أثاثاً قيماً بسعر زهيد، لكنه في الواقع يتعرض لفخ ، فبينما يمثل أحد التجار دور صاحب الفيلا ،يلعب الآخرون دورهم كمشترين ، يقومون بتوصيل سعر البضاعة إلي المطلوب، تهافتهم عليها ، يجعل الزبائن الطامعين يتأكدون من قيمتها فيشترونها بأي سعر "
مصادر هذه الأنتيكات هي البيوت القديمة أو الاستيراد، ولبائعي الأنتيكات ومهاويسها مقهي شهير يدعي مقهي علبة وهو المقهي الذي افتتح عام 1934 وظهر صاحبه مع عبد الحليم حافظ في مشهد واحد في فيلم لحن الوفاء بل ونطق بجملة في الفيلم وفي أحد الأيام ظهر علي هذا المقهي ساعة يد ارتداها الملك فاروق في أحد الأيام ، كانت مع جرسون وطلب فيها 2 مليون جنيه كعمولة فقط.
لكن لماذا محبو الأنتيكات أصبحوا كالمهاويس "يقول عم عادل بائع التحف"لأنهم أصبحوا قلة ، لايدرك قيمة القديم الامن تعلم جيدا، أو من نقل إليه والده حب القديم ، ثم أننا لم نقدم شيئا أفضل من القديم"
انعدام الصنايعي بقيم كالاتقان والجهد والاخلاص ، داء أصيبت به دولة باكملها، مازالت رائحتها في شارع كالعطارين ، به عمارة علي هيئة باخرة ، لاتستند إلي عواميد،بل علي حائط رفيع جدا، ظننت أنها معجزة، لكنها لم تكن كذلك ، إنها فقط لعبة اسمها اتقان ماتفعل،والقدرة علي الابتكار، لعبة جعلت تلك العمارة مزارا سياحيا، يحتفي به السياح بتصويره.
تصوير الجمال المقيم في العمارات القديمة والأنتيكات والمحلات القديمة، مبهج حقا، لكن تصوير الناس هناك هو الأكثر بهجة ، كانوا يستوقفوننا مع زميلي المصور لنصورهم ،بل أن حالة من الفرح انتابت الشارع أثناء مرورنا ، فتحوا قلوبهم ببساطة ، دون اعتراضات أو مضايقات ، كنا نفاجأ بمن ينهرنا "انتوا بتعملوا ايه وتبع إيه "لنكتشف أنه فقط ينهرنا لتجاهلنا تصويره،نلتقط صورة لينتهي الأمر..إنه حس ابن السوق ليس أكثر، عليه أن يشعرك أولا أنه يستحق التصوير وأنه يملك أن يعرقل خطواتك.
مايزالون كما هم أبناء العطارين، يحتفظون بالرائحة المميزة لهم، خفة الدم ، الاجتهاد، قيمة أن تكون ناجحا،الملابس البسيطة والأنيقة التي كلما حاولت التمرد عليها اكتشفت أني لا أجيد انتقاء ملابسي ،ابتكار الرزق،المرونة،حلاوة اللسان،العبور إلي القلب من أقصر أبوابه.
إنها الرائحة ياجدي ولاأي شيء آخر ..تلك التي جعلتني مبتهجا باستعادتك "اجتهد لتنجح" ذلك صوت المكان ورائحته..قرأت لرائحة جدي فاتحة الكتاب وانطلقت مغادرا، متذكرا مصير فتحي الذي انتهي ككشاف سينما لأن صوته يشبه عبد العزيز محمود، قرأت الفاتحة لرائحته "امتلك صوتك الخاص إذا أردت أن تتمرد علي قوانين الوراثة".. الفاتحة لعبد العزيز محمود.
الأسماء الواردة بالنص ليست حقيقية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.