أتميز غيظاً حين يقول لي - أو لغيري - قائل يدعي الحكمة: «كن واقعياً»، أو: «كلامك جميل ولكنه غير واقعي»، أو: «الواقع يقتضي أن نفعل كذا»... إلخ، وأشد ما يغيظني في مثل هذه الجمل أن تكون في إطار نقاش سياسي يتعلق بأمور الحكم في مصر وأوطاننا العربية ! أشد ما يغيظني في هذا النوع من الجمل أمران، الأمر الأول: تجريم الخيال... فالذي يقول لك: «كن واقعياً»، دائماً يقول لك تلك الجملة كجدار عازل أمام محاولة الابتكار، ودائماً يقول لك ذلك كنوع من النهي عن التفكير خارج الصندوق، أو كنوع من الأمر بالالتزام بما هو كائن، وعدم محاولة تغيير الوضع إلي ما ينبغي أن يكون ! وكأن الخيال جريمة! وأنا أتساءل: هل يوجد سياسي ناجح لا يملك خيال التغيير؟ أو علي الأقل التطوير؟ إن الخيال مكرمة في العمل السياسي، ومنه تتولد الأفكار العظمي، ولولا هذا الخيال لما تحررت أمة، ولما كافح شعب. بل إن الخيال أمر لازم في شئون العلم التجريبي، وغالبية المخترعين العظماء أناس سرحوا بخيالهم خلف فكرة ما، ثم جعلوها بالعلم ممكنة، ولولا الخيال لما طارت طائرة، ولما صنع هاتف، ولما شوهد تلفاز، ولما ارتفع بناء شاهق، وكل الذين ساهموا في هذه الاختراعات ( إذا طبقنا عليهم سياسة التفكير الواقعي ) مجموعة من الحمقي ! غني عن القول إن الإغراق في الخيال أمر مذموم، وليس الهدف من هذه المقالة أن نسرح بعقولنا خلف الوهم، بل أن نرفض سجن الأمر الواقع ونكسره إلي رحاب الممكن بالإرادة الإنسانية الحرة. الأمر الثاني الذي يغيظني في موضوع زعم التفكير الواقعي: تجريم التمرد. فالذي يأمرك بأن تكون واقعياً هو (في حقيقة الأمر شاء أم أبي) ينهاك عن أن تتمرد، ويذم فيك رغبتك في التغيير. لذلك تري هؤلاء يقولون عن أي مقاومة لإسرائيل إنها مغامرة... ! وأن المطالبة بالتغيير في أوطاننا العربية تهديد للاستقرار...! والدعوة للاجتهاد في الشريعة الإسلامية تهديد للإسلام... إلخ. و تجريم هذه الأمور - في الحقيقة - تجريد للإنسان من أهم ما ميزه الله به، أعني الإرادة الحرة، وهي أساس التكليف، وعلي أساسها يحاسبنا الله، ويدخلنا الجنة أو النار. حين أساير بعض الخصوم في «أمرهم الواقع»، لأصل إلي نتيجة ما، تزداد قناعتي بحماقتهم، فهم قوم لا يبصرون وينطبق عليهم قول الحق سبحانه ( لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون)». ما الواقع ؟ أسأل هذا السؤال، فأري أن إجاباتهم تؤكد لي أن الواقع عندهم مجموعة من الافتراضات، والخيالات، وأحيانا مجموعة من الأوهام ! حين يقول لي قائل: كن واقعياً، هذا الجبل لا يمكن تحركه ! هذا الكلام في نظر من يملك خيالاً فاعلاً كلام فارغ، لأن تحريك الجبل ليس مطلوباً لذاته، وهو افتراض خاطئ فالجبل لا يمكن تحريكه بيد بشرية، ولكن يمكن نسفه بمتفجرات، ويمكن حفر نفق فيه، ويمكن تمهيد طريق من حوله ويمكن بناء جسر من فوقه... ألف حلٍ وحلٍ لمن يملك بعض الإرادة الحرة، والخيال الصالح، والرغبة في الإنجاز. للأسف... يتحول بعض الكتاب - وبعضهم يُعد من الكتاب الكبار - إلي معوق من معوقات التقدم بسبب عدم قدرتهم علي تصور تغيير الأمر الواقع...! إن النظر للأشياء التي نراها كما هي، كأمر واقع، دون محاولة تفكيك هذا الواقع، وتحليله، ومعرفة مكوناته، وحجم كل مكون، ومعرفة قدرات الإنسان الحقيقية، وما يمكن أن يُستخرج من القدرات الكامنة، بحيث نستطيع أن نفهم الثابت والمتغير مما نراه، كل ذلك لا شك سيؤدي إلي الاستسلام للأمر الواقع بدلاً من محاولة تغييره إلي الأفضل...! يا كل من يري الواقع بعين الخضوع، رسالة الحقيقة تقول: لا تجرموا الخيال، ولا تحرموا التمرد... وإلا... لن يأتي غدٍ مشرق...!