محافظ المنوفية يفتتح مسجد «الجامع الشرقي» بالعامرة بعد تطويره بالجهود الذاتية    «التعليم» تستعرض مشروعات «صنع في مصر» بالمدارس الفنية بالمحافظات    بعد صدور قانون رعايتهم.. تعرف على المزايا التي يحصل عليها المسنين    عيار 21 بكام.. أسعار الذهب اليوم الجمعة 19 إبريل 2024 (التحديث الأخير)    وزير المالية فى جلسة نقاشية بواشنطن: مصر تتحرك بقوة لبناء نظام قوي للتأمين الصحي الشامل رغم التحديات الاقتصادية والضغوط المالية    وزيرة التعاون تتفق مع وكالة "ميجا" لإطلاق المنصة الموحدة للضمانات خلال يوليو    محافظ الوادي الجديد يعلن توريد 4 آلاف طن من القمح حتى الآن    فصل التيار الكهربائي عن 9 مناطق بمركز ومدينة بيلا غدا    مسئول أردنى: لم نرصد أى اختراق لمجالنا الجوى خلال الساعات الماضية    بسبب الهجوم على إيران.. عائلات الرهائن المحتجزين لدى «حماس» يطالبون بإقالة «بن غفير»    التحالف الوطنى يطلق ثالت مراحل القافلة السادسة لدعم الأشقاء فى غزة    التشكيلة المتوقعة لفريقي النصر والفيحاء..موعد مباراة النصر والفيحاء اليوم    كولر يكشف الأسباب الحقيقية لاستبعاد بيرسي تاو عن المشاركة مع الأهلي    كلوب: التتويج بالدوري الإنجليزي ليس بأيدينا    ضبط 36 كيلو مخدرات و9 أسلحة نارية في بؤرتين إجراميتين ب شبين القناطر في القليوبية    تجار العملة يتساقطون .. ضبط عدد من المضاربين بحوزتهم 29 مليون جنيه خلال 24 ساعة    إصابة شخصين إثر حادث تصادم 3 سيارات فى شارع التسعين بمنطقة التجمع    تبدأ 9 مايو.. جدول امتحانات الصف الثاني الثانوي 2024 محافظة الجيزة    "رصدته كاميرات المراقبة".. ضبط عاطل سرق مبلغا ماليا من صيدلية بالقليوبية    تامر عبدالمنعم ينعى عمدة الدراما المصرية صلاح السعدني    إسعاد يونس تنعى الفنان صلاح السعدني بصورة من كواليس «فوزية البرجوازية»    4 أبراج ما بتعرفش الفشل في الشغل.. الحمل جريء وطموح والقوس مغامر    تعرف على أبرز مخرجات لجنة الثقافة والهوية الوطنية بالحوار الوطنى    موعد ومكان عزاء الفنان صلاح السعدني    الصحة: فحص 432 ألف طفل ضمن مبادرة الكشف المبكر عن الأمراض الوراثية    طريقة تحضير بخاخ الجيوب الأنفية في المنزل    رضا عبد العال يعلق على أداء عبد الله السعيد مع الزمالك    غدًا.. بدء المرحلة الثالثة من الموجة ال22 من حملات إزالة التعديات ببني سويف    الشعبة الفرنسية بحقوق عين شمس تنظم يوما رياضيا لطلابها    الأزهر ينهي استعداداته لانطلاق امتحانات الفصل الدراسي الثاني لصفوف النقل    شهدها البابا تواضروس، تفاصيل وثيقة الكنيسة للتوعية بمخاطر زواج الأقارب    استشهاد شاب فلسطيني وإصابة اثنين بالرصاص خلال عدوان الاحتلال المستمر على مخيم "نور شمس" شمال الضفة    ضبط 14799 مخالفة مرورية متنوعة خلال 24 ساعة    كشف لغز بلاغات سرقة بالقاهرة وضبط مرتكبيها وإعادة المسروقات.. صور    الحكومة تنفي عودة عمل الموظفين يوم الأحد بنظام ال"أون لاين" من المنزل    فتح ممر إنساني نهاية إبريل.. إعلام عبري: عملية رفح محسومة والسؤال عن توقيتها    إسرائيل تبلغ أمريكا بتنفيذ ضربة على إيران    حاسبات عين شمس تحصد المركز الأول عربيًا وأفريقيًا في المسابقة العالمية للبرمجيات    اقتصادية قناة السويس تشارك ب "مؤتمر التعاون والتبادل بين مصر والصين (تشيجيانج)"    وضع حجر أساس مشروع موقف إقليمي جديد بمدينة المنيا الجديدة    إيرادات السينما أمس.. شقو في المقدمة وأسود ملون يتذيل القائمة    إبراهيم السمان: تحمست لدور محسن فى مسلسل حق عرب بسبب السيناريو    خطيب الأوقاف يؤكد: الصدق صفة المتقين وطريق الفائزين.. والأيمانات الكاذبة للباعة لترويج السلعة تمحق البركة.. فيديو    لماذا خلق الله الخلق؟.. خطيب المسجد الحرام: ليس ليتعزز بهم من ذلة    فضل الصلاة على النبي يوم الجمعة.. أفصل الصيغ لها    مارتينيز: حصلت على بطاقة صفراء ثانية بسبب سمعتي السيئة.. ولا أفهم القواعد    استمرار غياب رونالدو.. جدول مواعيد مباريات اليوم الجمعة والقنوات الناقلة    ليفركوزن يخطط لمواصلة سلسلته الاستثنائية    غداء اليوم.. طريقة تحضير كفتة الدجاج المشوية    تعرف على موعد إجازة شم النسيم 2024 وعدد الإجازات المتبقية للمدارس في إبريل ومايو    طلب إحاطة لوزير الصحة بشأن استمرار نقص أدوية الأمراض المزمنة ولبن الأطفال    الإثنين المقبل.. وزيرا المالية والتخطيط أمام البرلمان لاستعراض الموازنة العامة وخطة التنمية الاقتصادية 2024/2025    موعد مباراة الترجي وصن داونز بدوري أبطال أفريقيا    حرب السودان.. كلفة اقتصادية هائلة ومعاناة مستمرة    والد شاب يعاني من ضمور عضلات يناشد وزير الصحة علاج نجله (فيديو)    دعاء السفر كتابة: اللّهُمّ إِنّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السّفَرِ    دعاء الضيق: بوابة الصبر والأمل في أوقات الاختناق    فيتو أمريكي يُفسد قرارًا بمنح فلسطين عضوية كاملة في الأمم المتحدة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



(الشروق) تنشر الفصول الأولى من كتاب (رحيق العمر) لجلال أمين
نشر في الشروق الجديد يوم 01 - 01 - 2010


تجربتى فى كتابة السيرة الذاتية
نشر لى فى مايو 2007 كتاب بعنوان «ماذا علمتنى الحياة؟.. سيرة ذاتية» استقبل استقبالا حسنا، وسمعت وقرأت ثناء عليه من كثيرين من قرائه.
انتقد البعض أشياء مهمة فيه، وعاب عليه البعض الصراحة الزائدة فى أمور رأوا أنها يجب أن تبقى سرا وليس من حقى إفشاؤها. كما عاب عليه البعض أنه لم يكن صريحا بالدرجة الكافية فيما يتعلق بالمرأة والجنس. ولكن الانطباع العام كان إيجابيا، مما شجعنى على اتخاذ خطوة أخرى كانت نتيجتها هذا الكتاب الذى بيد القارئ الآن.
من الممكن اعتبار هذا الكتاب الجزء الثانى من «ماذا علمتنى الحياة؟»، فهو استكمال له، ولكن ليس بمعنى أنه يبدأ من حيث ينتهى الأول، بل بمعنى أنه أيضا سيرة ذاتية، وأحاول فيه أيضا أن أستخلص «ماذا علمتنى الحياة؟». هذا الكتاب يسير موازيا للكتاب الأول، فهو مثله يبدأ من واقعة الميلاد، بل وقبل الميلاد، وينتهى إلى اللحظة الراهنة، ولكنه بالطبع لا يكرر ما سبق قوله، وكأننا بصدد شخصين يصفان حياة واحدة، ولكن ما استرعى انتباه أحدهما، واعتبره يستحق الذكر، غير ما استرعى انتباه الآخر.
فمن المدهش حقا مدى غنى حياة كل منا بالأحداث التى تستحق أن تروى، والشخصيات الجديرة بالوصف. وقد دهشت أنا، وأنا أحاول استعراض حياتى من جديد، من كثرة ما لم أذكره فى كتابى الأول، لا لأنه لا يستحق الذكر، بل لمجرد أنه لم يخطر ببالى ذكره وأنا أكتب ذلك الكتاب. فجلست لأدون ما فاتنى وأرتبه، ولكن هناك أشياء أخرى تعمدت من قبل ألا أذكرها، ثم رأيت الآن أنه قد يكون من المفيد ذكرها.
قال لى صديق عزيز، وهو مثقف ثقافة واسعة، إنه وإن كان قد أعجب بكتابى «ماذا علمتنى الحياة؟»، كان يتمنى أن يجد فيه أيضا وصفا لتطورى الفكرى. وقد اعتبرت هذه الملاحظة، إذ تصدر عن هذا الشخص، إطراء عظيما، إذ هل يعتقد هذا المثقف الكبير أن لدى حقا «تطورا فكريا» يستحق أن يوصف؟.
لم أناقشه فى الأمر، بل اعتبرت كلامه صحيحا لأنى أحب أن يكون كذلك، وحاولت فى هذا الكتاب الجديد أن أشرح بوضوح أكبر، ما اكتسبته من قراءاتى وتجاربى من أفكار أثرت فى تكوينى، ثم ضعف أثرها أو بقيت معى حتى الآن، آملا أن تكون فى هذا فائدة للقارئ، على الأقل باطلاعه على أفكار بعض الكتّاب المهمين الذين لم تكن له معرفة سابقة أو كافية بهم.
كانت تجربتى مع كتاب «ماذا علمتنى الحياة»، تجربة شيقة وسارة فى مجملها، رغم ما أصابنى قبل نشر الكتاب من قلق، وبعد نشره من بعض الأسف.
كنت أتشوق إلى ظهور هذا الكتاب أكثر مما تشوقت لظهور أى كتاب أو مقال سابق لى، كما كنت أتهيب ردود الفعل لدى القراء أكثر من خوفى من رأيهم فى أى شىء كتبته من قبل.
كان الفارق بين هذا وذاك يشبه الفرق بين أن تلقى على مجموعة من الناس خبرا، وبين أن تحكى لهم قصة ترجو أن يجدوها طريفة.
الخبر لا يهمك كثيرا ما إذا تلقاه الناس باهتمام أو بغير اهتمام، أما القصة فيتوقف نوع استجابتهم لها على مهارتك فى إلقائها، وعلى ذكائك «أو غبائك» فى اختيارها دون غيرها، وعلى خفة ظلك أو ثقله فى طريقة إلقائها.
أضف إلى هذا أن السيرة الذاتية قد تحتوى «وهى كذلك فى حالتى» على بعض الحقائق أو الفضائح المتعلقة بأشخاص قريبين إليك «وعزيزين عليك أيضا»، فيشوقك أن تعرف ما إذا كنت قد أصبت أم أخطأت بذكر هذه الفضائح أصلا، وما إذا كان من الخطأ أو الصواب البوح بآرائك الحقيقية فى آخرين، بعضهم لازال على قيد الحياة، ومن مات منهم لازال لهم أبناء وبنات على قيد الحياة. والشخصيات العامة التى تكتب رأيك فيها، لها أنصار أشداء أو أعداء أشداء أيضا، فالبوح برأيك فيها لابد أن يغضب هؤلاء أو أولئك.
فهل أخطأت فى تقييم هذا السياسى الخطير أو ذاك، وهل جاوزت الأدب فى الكلام عن هؤلاء الأشخاص المهمين؟ وإذا كان منهم من يعرفك شخصيا ويعتبرك صديقا له، أو يعتقد أنه صاحب فضل عليك، فهل يجوز أن تنتقده وتكشف عيوبه «أو ما تظن أنها عيوبه»، وكأنك بذلك تخون شخصا كان مطمئنا لك، أو تعض اليد التى أحسنت إليك؟ فإذا أغضبت بعض الناس بذكر الحقيقة «أو ما تظن أنه الحقيقة»، فهل يستحق الأمر كل ذلك؟ ألا يجب أن تُحجب بعض الحقائق عن الناس إلى الأبد؟ أو كما يقول أبى فى مقدمة سيرته هو «حياتى 1950» «إذا كنا لا نستسيغ عرى كل الجسم، فكيف نستسيغ عرى كل النفس؟».
كان هذا يقلقنى حتى بعد أن سلمت مخطوطة الكتاب إلى الناشر. ومع هذا فلابد أن أعترف للقارئ بأنى بعد أن قمت بحذف ما اعتبرت ذكره غير لائق، وأن النفع الذى قد يأتى من ذكره أقل من الضرر، كان قلقى من احتمال أن يكون ما قلته شيئا تافها، أكبر بكثير من قلقى من أن يكون ما قلته جارحا أو ظالما. إن لدى شعورا قويا بأن الأخطاء «أو معظمها على الأقل» يجب أن تكشف، وأن المخطئ لابد أن يعاقب بما يتناسب مع خطئه.
وذكر الخطأ على الملأ هو نوع من العقاب. كما أن لدى شعورا قويا بأننا كلنا قد ارتكبنا أخطاء كثيرة خلال حياتنا «ولانزال نرتكبها» إما لأننا كنا «أو مازلنا» أقل حكمة مما يجب، أو أصغر سنا من أن نستطيع التمييز بين الخطأ والصواب، أو لأننا جميعا بنا من أوجه الضعف الإنسانى ما يدفعنا دفعا إلى الخطأ مهما حاولنا تجنبه.
إنى أعتقد أيضا أن علينا، على الرغم من كل ذلك، أن نقبل هذه الحقيقة دون ضغينة ودون مبالغة فى الندم أو الشعور بالذنب.
فالفرق بيننا ليس فرقا بين شخص له أخطاء وآخر ليس له أخطاء، بل هو فقط فرق بين درجة جسامة الأخطاء التى نرتكبها. لقد انتقدت بعض الأشخاص فى كتابى وأنا أحمل لهم محبة فائقة، فما أشد أسفى إذن، لو أدى هذا النقد إلى قطع حبال المودة بيننا، أو بينى وبين أولادهم. سأذكر الآن مثالا لم أتردد قط وقت كتابته فى أن من المصلحة «بل من الواجب» نشره، ثم جاءت بعض ردود الفعل رافضة تماما لما فعلت، ولكنى لم أقتنع قط بما قيل لتبرير حذفه، ولازلت أعتقد أننى كنت على صواب فى ذكره.
كان أخى عبدالحميد يفحص بعض الأشياء الملقاة فى «سندرة» بيته، التى لم ينظر إليها منذ سنوات كثيرة، فعثر فيها على كراسة، يرجع تاريخها إلى سنة 1917، أى إلى وقت يبعد عنا بما يقرب من قرن كامل، وكان أبى قد دوّن فيها يوميات أكثرها يتعلق بعلاقته بأمى، إذ لم يكن قد مضى على زواجهما، عندما بدأ كتابة هذه اليوميات، أكثر من عام. أعطانى عبدالحميد هذه الكراسة قائلا لى: إنى ربما كنت أقدر إخوتى على الإفادة منها.
فلما قرأت المدوّن فيها تكشّفت لى أمور مهمة لم أكن أعرفها، ووجدتها تلقى ضوءا قويا على شخصية أبى، وشخصية أمى، وعلى حياة شريحتهما الاجتماعية فى مصر فى أوائل القرن العشرين، وعلى الأخص على علاقة الرجل بالمرأة فى مصر فى ذلك الوقت.
ولكن الأهم من هذا أنى وجدتها تعبر بوضوح عن بعض المشاعر الإنسانية العامة التى يشترك فيها الناس جميعا، فى أى بل وأى عصر، دون أن يكون هذا هو مقصد أبى من كتابتها على الإطلاق.
كان من الواضح، من طريقة الكتابة، أن أبى كان يدوّن هذه المذكرات لنفسه، ولنفسه فقط، إما لكى يخفف عن نفسه بعض الآلام بالبوح بمكنون نفسه، ولو للورق، أو لكى يذكّر نفسه بماضيه، إذا عاد إلى قراءتها فى يوم ما فى المستقبل. كان أبى وقت كتابة هذه المذكرات فى الثلاثين من عمره، يحمل آمالا قوية تتعلق «بالقيام بعمل عظيم فيه نفع أمتى» (كما كتب على ظهر صورة التقطت له فى دكان أحد المصورين يوم عقد قرانه).
والراجح أنه كان يشعر بأن هذا «العمل العظيم» الذى يتمنى القيام به، يتعلق بالكتابة والتأليف، ومن ثم ربما خطر بباله على نحو ما أن مثل هذه المذكرات قد تفيده فى المستقبل إذا حدث وأصبح فعلا كاتبا معروفا، وشرع فى كتابة تاريخ حياته. ولكن أبى وقت كتابتها لم يكن قد نشر أى كتاب بعد، ولا توحى لهجة المذكرات بأن نشرها على النحو الذى كُتبت به كان مما يطوف بذهنه وقت كتابتها.
كيف سمحت لنفسى إذن بأن أقتطف أجزاء من هذه المذكرات وأضمها إلى كتاب سيرتى الذاتية فى فصل بعنوان «مذكرات أبى عن أمى؟»، خاصة أن فيها أشياء خاصة جدا قد يعتبرها كثيرون من قبيل الأسرار التى لا يجوز نشرها على الملأ؟
من هذه الأشياء الخاصة جدا تعبيره عن أسفه وحزنه لأن زوجته «لم تكن جميلة» بالدرجة الكافية، وكم كان يتمنى لو كانت زوجته «أكثر جمالا». كان هذا الخاطر يلح على ذهنه بشدة بدليل أنه عبّر عنه أكثر من مرة، فى يوم بعد آخر، وإن كان قد خشى أن تقع المذكرات فى يد أمى فتقرأها فكتب هذه العبارة بالانجليزية More Beautiful، واثقا من أنها لن تفهمها إذا رأتها، إذ لم تكن لأمى أى دراية بالإنجليزية. إنه يمتدح أمى فى عدة نواح، ولكن ليس من بينها الجمال. وقد تعجبت جدا عندما قرأت هذا، إذ إن الصور القليلة التى فى حوزتى، وتظهر فيها أمى كما كانت فى وقت مقارب لوقت كتابة المذكرات، لا تبدو مؤيدة لقوله.
ولكنى وجدت فى إصرار أبى «وهو المفكر الكبير، والمشغول دوما بالقضايا الفكرية والأخلاقية» على التعبير عن أسفه لهذا الأمر، وجدت فيه شيئا طريفا لا يخلو من مغزى من الجانب الإنسانى البحت.
وهكذا وجدت أشياء كثيرة فى هذه المذكرات، فكيف أتركها وشأنها لتضيع إلى الأبد دون أن أشرك الناس معى فيها، خاصة أنه إذا لم أنشرها أنا فالأرجح أنه لن يكون هناك شخص آخر من أسرتى لديه الاستعداد أو القدرة على نشرها فى أى وقت فى المستقبل؟
تلقيت من أربعة أو خمسة أشخاص من داخل العائلة ومن خارجها لوما شديدا على أنى نشرت مثل هذا الكلام. واعتبروا أنى تسببت فيما يمكن تسميته «بالفضيحة»، وأن مثل هذه الأمور لا تنشر ولا تقال. وأبى لم يكتبها للنشر، فلماذا أعطى لنفسى الحق فى شىء يخصه ولم يرد هو نشره، وإلا لكان قد قام هو به فى حياته؟ والحقيقة أن هذا اللوم لم يترك فى نفسى أى أثر ذى شأن، إذ أكاد أكون واثقا كل الثقة بأنى لم أخطئ. فلماذا بالضبط؟
هناك أولا الحقيقة الآتية، وهى أنه ليس هناك أى شىء فيما اقتطفته من مذكرات أبى عن أمى يسىء على أى وجه من الوجوه، لا إلى أبى ولا إلى أمى. ليس هناك ما يعيب الزوج فى شعوره بالأسف لأن زوجته ليست جميلة على النحو الذى كان يتمناه، فى عصر كان الزواج فيه «كما وصفه أبى فى كتاب حياتى» كشراء ورقة يانصيب قد تربح أو تخسر، إذ لا يرى الزوج زوجته ولا تراه إلا بعد عقد القران. وليس هناك أيضا ما ينقص من قدر أمى أن يكون زوجها قد كتب عنها هذا فى مذكراته، سواء كان ما كتبه يطابق الحقيقة أو لا يطابقها.
قد يقول بعض المعترضين: «لنفرض أن هذا صحيح، فما فائدة نشر مثل هذا الكلام أصلا؟ ما النفع الذى يمكن أن يُجنى من وراء نشره؟ وإذا كان لنشره فائدة، فلماذا لم ينشره أحمد أمين فى كتابه عن حياته، وهو الأولى بذلك؟» وأنا مستعد للإقرار بأن أبى لو كان قد خطر له أن يضم هذه اليوميات إلى كتاب «حياتى»، لاستبعد الفكرة ورفضها. فلماذا إذن أقوم أنا الآن بنشرها؟
لقد مرت 57 سنة بين نشر كتاب أبى «حياتى» ونشر كتابى «ماذا علمتنى الحياة؟»، وهى مدة طويلة طرأت خلالها تغيرات كثيرة على الحياة الاجتماعية فى مصر، كان من شأنها أن تجعل بعض ما كان مستحيلا ممكنا، وبعض ما كان ممكنا مستحيلا.
كما تغيرت فيها الأذواق فجعلت بعض المكروه مستحبا، وبعض المستحب مكروها. كان أبى وهو يكتب كتاب «حياتى» يعتبر من غير الملائم بتاتا الإطالة فى الحديث عن الحب أو عن أى شىء يتعلق بعلاقة الرجل بالمرأة. كان أقصى ما سمح لنفسه بذكره مما يتعلق بشعوره بالحب، فى أى فترة من حياته، ما ذكره عن شعوره نحو السيدة الانجليزية التى كانت تعطيه دروسا فى اللغة الانجليزية فى مقابل إعطائه لها دروسا فى العربية. كانت جميلة ولكنها كانت أيضا متزوجة وسعيدة فى زواجها.
وقد شعر أبى نحوها بالحب، ولكنه لم يعبر عن ذلك فى كتاب حياتى إلا بطريقة ملتوية للغاية، ولكنها أيضا بالغة العذوبة. قال إنها كانت تقول له إن «عينكم تؤلمنى»، وكانت تقصد بذلك الصعوبة التى تجدها فى نطق حرف «العين» فى اللغة العربية، «وهى صعوبة يصادفها أى أوروبى» ثم أضاف «وكنت أقول فى نفسى مثل قولها»، ولكن العين فى حالته كانت مختلفة بالطبع عن العين فى حالتها.
حكى لى أيضا صديق مقرب للأستاذ إحسان عباس، الباحث القدير فى الإسلاميات والأدب العربى، وكان تلميذا لأبى وطلب أبى منه أن يأتى إليه فى البيت، فى أواخر عمره، ليقرأ له فى بعض الكتب، وليملى عليه أبى بعض ما يكتب، الواقعة الطريفة الآتية التى تبين أيضا موقف أبى من ذكر أى شىء يتعلق بالحب، على الملأ.
قال الأستاذ إحسان عباس: إنه بعد أن أنهى أبى إملاء الفصل الأخير من كتاب حياتى، طلب منه أن يأخذ نسخة من المخطوطة ليريها للدكتور زكى نجيب محمود ليسمع أبى رأيه فيها، مدفوعا فيما أظن بأن الدكتور زكى نجيب كان أكثر اطلاعا من أبى على أدب السيرة الذاتية كما يكتب فى الغرب، وأراد أبى أن يعرف قيمة ما كتبه بالمقارنة بكتب الأوروبيين فى هذا النوع من الكتابة.
قرأ الدكتور زكى نجيب المخطوطة وأبلغ إحسان عباس الرسالة الآتية ليوصلها إلى أبى «الكتاب جيد، ولا يعيبه إلا أنه ليس فيه أى شىء عن الحب والمرأة». وصلت الرسالة إلى أبى، فكانت إجابته «معه حق»، وطلب من إحسان عباس أن يجلس ليملى عليه شيئا عن الحب فى حياته، فإذا به لا يضيف أكثر من فقرة قصيرة جدا يقول فيها:
«أحببت وأنا فى نحو الخامسة عشرة ابنة جار لنا، والتهبت عاطفتى فأرقت كثيرا وبكيت طويلا، وكل ما كان من وصال أن أجلس أنا وهى على كرسيين أمام دارها نتحدث فى غير غرام، فلما وسوس الشيطان لأبيها حجبها عنى، وشقيت زمنا بذلك ثم سلوت».
لم يعد الكلام عن الحب الآن محظورا بنفس الدرجة التى كان بها فى مصر فى 1950. لقد تغيرت أمور كثيرة فى حياتنا خلال الخمسين عاما الماضية، مما جعلنى أعتقد أن قيامى بنشر عبارات أبى عن أمى، لابد أن يكون مقبولا الآن أكثر من نشر أبى له فى سنة 1950.
ليس سبب هذا فقط أن أمى كانت على قيد الحياة فى 1950، وكان لابد أن يؤذى مشاعرها أن تقرأ هذا الكلام، بل أظن أيضا أن القارئ لهذا الكلام الآن أكثر استعدادا لقبوله دون أن يشعر بأنه يسىء إلى أبى أو أمى، مما كان منذ أكثر من نصف قرن.
نحن الآن فيما أظن، أكثر استعدادا لقبول الحقيقة المعقدة، وللتسليم بأن الأشياء ليست فقط بيضاء أو سوداء، بل تأتى فى مختلف الألوان والظلال، وأن السعادة الكاملة والرضا الكامل مستحيلان، ولا يوجدان إلا فى الكتب أو الأفلام الممعنة فى رومانسيتها، التى لم تعد تتمتع بالقبول الذى كانت تتمتع به منذ خمسين عاما أو أكثر.
نحن إذن على استعداد الآن أن نقبل أن الأديب الكبير والمفكر العظيم يمكن أن يكون به بعض نقاط ضعف مهمة، دون أن يؤثر هذا فى احترامنا وحبنا له، وأن المرأة العظيمة لا يجب أن تكون رائعة الجمال أيضا. كما أننا الآن على استعداد للبوح بأخطائنا أكثر مما كنا منذ نصف قرن.
لهذه الأسباب، لا يكاد يخامرنى أى شك فى أن أبى لو كان مكانى لتصرف مثل تصرفى. فالسؤال المهم هو: «هل لو سئل أبى فى سنة 1917، عندما كان يكتب يومياته: هل تسمح لابنك بأن ينشر هذه المذكرات بعد مائة عام؟» وقد تخيلت أبى، بطريقة تفكيره التى أعرفها، وتصوره لما يمكن أن يطرأ على الدنيا من تغير خلال مائة عام، ووصلت إلى اقتناع بأنه كان على الأرجح سيسمح لى بنشرها.
لم أشعر أيضا بضيق شديد، عندما نشر أحد محررى جريدة «المصرى اليوم»، فى عموده اليومى، خطابا جاءه من سيدة لم يرد ذكر اسمها، ووردت فيه عبارات شديدة القسوة ضدى. كان هذا المحرر قد كتب فى عموده، قبل ذلك بعدة أيام، كلاما يثنى فيه على كتابى، وإن كان قد انتقدنى لأنى ذكرت فيه أنى فرحت فرحا شديدا عندما سمعت بمقتل الرئيس أنور السادات. وقال ما معناه إنه لا يجوز أن يفرح أى شخص لمقتل أى إنسان.
تعجبت حينئذ من هذا القول لأن السادات كان شخصية عامة، ورئيس جمهورية، وبدأ فى تطبيق سياسات مهمة فى مصر، كالانفتاح الاقتصادى، والصلح مع إسرائيل، والتبعية المطلقة للولايات المتحدة.. الخ.
ومن المتوقع جدا «بل يكاد يكون من الواجب» أن يحب المرء هذه السياسات أو يكرهها، بل وأن يحبها بشدة أو يكرهها بشدة، بسبب شدة تأثيرها على مختلف نواحى الحياة فى مصر ومستقبلها «وهو ما ظهر بوضوح مع مرور الوقت حتى بعد مقتل السادات».
فإذا فرح المرء بهذه السياسات بشدة أو كرهها بشدة، فكيف لا نتوقع أن يكون رد فعله عند سماعه خبر مقتل السادات، الحزن الشديد أو الفرح الشديد؟ إن إنكار وجود مثل هذه المشاعر تجاه شخصية عامة ومؤثرة، هو الأمر المستغرب، بل وينطوى على قدر لا يستهان به من الخداع والتظاهر بغير الحقيقة.
ثم جاء هذا الخطاب المدهش من تلك السيدة المجهولة «أو التى زعم كاتب العمود أنها سيدة مجهولة» فعبرت فيه فى البداية عن استغرابها من ثناء المحرر على كتابى الذى أثار غضبها الشديد، وقالت إنى أستحق بسببه الشنق فى ميدان عام.
انزعجت بشدة من العنوان الذى اختاره المحرر لعموده فى ذلك اليوم، إذ كان العنوان «جريمة جلال أمين»، كما أصابنى الذعر عندما قرأت دعوة صاحبة الرسالة إلى شنقى فى ميدان عام، ولكن سرعان ما هدأت نفسى عندما عرفت سبب الغضب.
فقد كان السبب هو ما رويته فى كتابى من أن أمى، وهى فى السادسة عشرة أو السابعة عشرة من عمرها، وقعت فى حب ابن خالها، وكان يبادلها حبا بحب، وتقدم إلى خطبتها من ولىّ أمرها «إذ كان أبواها قد توفيا وهى صغيرة» فرفض ولىّ الأمر رفضا باتا، إذ كان لديه بنات فى سن الزواج، ولم يرد أن تتزوج أمى قبلهن.
لم يتم الزواج إذن، وأصيب العاشقان بصدمة شديدة مرض على أثرها ابن خالها، وأرسل إلى أمى رسالة حزينة يخبرها فيه بمرضه. وقالت لى أمى إنها كانت تقرأ الرسالة وتعيد قراءتها ثم تجهش بالبكاء.
وظلت تعيد هذه الرسالة بنصها، فقد كانت تحفظها عن ظهر قلب، على سمعى المرة بعد الأخرى، حتى حفظتها أنا أيضا عن ظهر قلب، وأوردت بعض عباراتها فى كتابى. هربت أمى من بيت ولىّ أمرها بسبب هذه الواقعة، ولجأت إلى بعض أقاربها المقيمين بالقاهرة فعاشت معهم حتى تقدم أبى للزواج منها.
هذه هى القصة التى أثارت السيدة صاحبة الرسالة علىّ، وطالبت بسببها بشنقى فى ميدان عام، وكانت حجتها أن الكلام لا يجوز لأحد أن يقوله عن أمه وذلك لسببين: الأول أن الأمهات أعظم الناس طرا، «ومن ثم لا يجوز أن ينسب إليهن أى خطأ». والثانى أن الحب والجنس لا ينفصلان، «وقد فهمت هذا التفسير الأخير بمعنى أنه لا يمكن للمرء أن يحب إلا إذا مارس الجنس، ومادامت ممارسة الجنس شر فالحب أيضا شر».
ارتحت بشدة عندما قرأت سبب الغضب والتفسير الذى قدمته صاحبة الخطاب، وزال جزعى من عنوان العمود ومن المناداة بشنقى، ولكنى استغربت أن المحرر الذى نشر الخطاب فى عموده لم يرد على صاحبة الخطاب ولم يدل برأيه فى الموضوع، فأورد هذا الكلام الخطير دون أن يقول لنا ما إذا كان يوافق عليه أو لا يوافق، بل اكتفى بدعوتى للرد عليه. ولم أجد بالطبع أى سبب للاشتراك فى نقاش من هذا النوع.
لم أتوقع أن يقرأ أولادى الثلاثة كتابى «ماذا علمتنى الحياة؟» لما علمتنى إياه الحياة من أن «زمّار الحىّ لا يطرب»، وهى عبارة سمعتها من أبى أكثر من مرة، ورأيت دليلا على صحتها فى مواقف أبناء أدباء وكتاب كثيرين من أعمال آبائهم. ولهذا اكتفيت بأن أعطيت كلا من أولادى نسخة، كتبت عليها إهداء، دون أن أسأل بعد هذا عما إذا كانوا قرأوه أو قرأوا أجزاء منه.
كانت مفاجأة سارة لى أن أعلم أن اثنين منهما قرأ الكتاب، ولكن كان واضحا لى أن الثلاثة، سواء من قرأه منهم أو من لم يقرأه، لم يعلقوا عليه أهمية تقارب ما علقته أنا عليه. وقد أكد هذا لى ما كنت قد توصلت إليه من قبل، من أن من الخطأ الشديد اعتبار أولادنا استمرارا لنا، ومن ثم فلا يمكن أن نأمل أن يعتبروا هم قصة حياتنا جزءا من قصة حياتهم. كل منهم يريد أن تكون له قصة مستقلة، ومبالغتنا فى تعليق أهمية على ما فعلناه نحن وما لم نفعله، تضايقهم وتثير أعصابهم.
(2)
الجرّاح والطبّاخ
كانت أمى، من حين لآخر، تؤكد لنا أنها من أسرة طيبة جدا، وأنها من سلالة رجل عظيم كان طبيبا وجرّاحا مرموقا فى عهد محمد على باشا الكبير، واسمه، هو نفسه، محمد على باشا البقلى.
كان اسم أمى الكامل ينتهى بلقب «البقلى»، والقرية التى ولدت فيها «زاوية البقلى» وهى تقع فى منطقة بمحافظة المنوفية خرج منها بعض رجال مصر المرموقين منهم عبدالعزيز باشا فهمى، القانونى الكبير وزميل سعد زغلول.
وكانت أمى تؤكد لنا ذلك، كما تؤكد أن عبدالعزيز فهمى كلما اتصل تليفونيا بوالدى، ينتهز الفرصة دائما، إذا ردت والدتى على التليفون ليؤكد لها كم كان أبوها قاضيا عظيما. وكانت، وهى تقول لنا ذلك، تقوم بتقليد صوت عبدالعزيز فهمى المبحوح والمتقطع، لتأكيد أنها تقول الحقيقة.
لم نكن نشك فى صدق أمى، ولكننا لم نعلق على كلامها عن أصلها ونسبها، أى أهمية. فأولا لم يكن لدينا أى دليل ملموس أو غير ملموس على علاقتها بمحمد على البقلى، وهل كان باشا حقيقة أم لم يكن، طبيبا وجراحا أو شيئا آخر.
ونحن نعرف أنها تزوجت أبى وهى فقيرة معدمة لا تملك شيئا. كنا نلاحظ أيضا أنها كلما ذكرت قصة نسبها، كانت تريد أن تؤكد أن عائلتها أعرق وأكبر بكثير من العائلة التى ينحدر منها أبى، وأنه فى الحقيقة لم يحقق ما حققه من مكانة فى المجتمع إلا بسبب كتبه ومقالاته، أما أسرته فكانت متواضعة للغاية لا يمكن أن تقارن بأسرتها.
لم يكن أبى بالطبع ينكر أصله المتواضع، وقد وصفه بالتفصيل فى سيرته الذاتية، ولكنه لم يذكر فى سيرته الذاتية شيئا معينا كان معروفا لنا، «عن طريقه هو نفسه»، وهو أن اسمه الكامل هو «أحمد أمين إبراهيم حسن الطباخ».
نعم كان الاسم ينتهى ب«الطباخ»، ولكننا لم نعرف قط أصل هذا اللقب، وهل كان أحد جدودى طباخا حقا، فاكتسب هذا اللقب، أم التصق اسمه بهذا الاسم لسبب غير ذلك، مثلما يمكن أن يلتصق لقب الشحات، باسم شخص لا يعرف من بين أجداده شحاذا. لم يذكر لنا أبى أصل لقب الطباخ، ولا أذكر أنه صدر منه أى شىء يدل على أنه يعلق على الأمر أى أهمية.
على أى حال، وأيا كان أصل هذا اللقب، فقد مرت السنوات دون أن يخطر ببال أحدنا أن يحاول أن يكتشف سبب انتهاء اسم أبى بوصف الطباخ، أو أن يتحقق من صحة زعم أمى أن جدها الأعلى كان جرّاحا مرموقا، حتى حدث، بعد وفاة أمى وأبى ما كشف لنا حقائق مهمة.
ففى أثناء إقامة أخى حسين بالبرازيل، حيث كان يعمل قنصلا عاما لمصر، وجد فى مكتبة القنصلية كتبا قديمة فى التاريخ المصرى، تصفح أحدها فإذا به يجد كلاما مشرفا للغاية عن شخص يدعى محمد على باشا البقلى.
وقد أعطانى حسين بعد رجوعه من البرازيل ورقة سمّاها «شجرة العائلة»، من ناحية أمى، تبدأ بشخص اسمه محمد جويلى البقلى «ولد حوالى 1758»، ولد له على الفقيه الجويلى «ولد حوالى 1784» وهو والد محمد على باشا البقلى، الطبيب الجراح الذى كانت أمى تتكلم عنه «1814 1877»، الذى ولد له بدوره طبيب جراح «أحمد حمدى: 1844 1899» وهو والد عبدالوهاب فهمى «1873 1908».
وأضاف حسين إلى الشجرة أن عبدالوهاب فهمى هو والد أمى «زينب عبدالوهاب فهمى ولدت حوالى 1896 وتوفيت فى 1959». كما أعطانى حسين صورة فوتوغرافية لثلاث صفحات من هذا الكتاب، ذكر فيها تاريخ حياة هذا الجد الأعلى، محمد على باشا البقلى. وجدتها صفحات مذهلة من أكثر من وجه، بصرف النظر عما إذا كان هذا هو جدى الأعلى أو لم يكن، إذ تعطى صورة مشرفة للغاية لبعض ما كان يجرى فى مصر فى القرن التاسع عشر، ولما يمكن أن ينجزه فلاح مصرى ذكى لو أعطى الفرصة للتعلم والتقدم.
وقد ذكر الكتاب الذى صورّت منه هذه الصفحات أن المعلومات عن محمد على البقلى مأخوذه من كتاب «الخطط التوفيقية» لعلى مبارك باشا «الجزء 11 ص85»، ومن «تاريخ البعثات المصرية» لعمر طوسون «ص519». وجاء فى هذه الصفحات عن تاريخ هذا الرجل ما يلى:
«محمد على باشا الحكيم، هو محمد على بن السيد على الفقيه..
ولد فى زاوية البقلى «ثم عبارة غير مقرءوة» فى سنة 1228ه، ونشأ بها وترعرع فأدخله أهله مكتبا فى تلك البلدة، فتعلم مبادئ الكتابة وقرأ القرآن. فلما بلغ التاسعة من سنّه جاء به أحمد أفندى البقلى إلى القاهرة، وأدخله مدرسة أبى زعبل التى كان قد بناها المغفور له محمد على باشا الكبير فى قرية أبى زعبل، وفيها مكتب ديوانى، فمكث فيه ثلاث سنين أتم فيها قراءة القرآن وتلقى «سطر ناقص» ثلاث سنين، فأظهر من الذكاء والاجتهاد ما حبب فيه أساتذته فنقلوه إلى مدرسة الطب، وكانت تحت إدارة المرحوم الدكتور كلوت بك ففاق أقرانه.
حتى إذا صدر أمر محمد على باشا بإرسال نخبة من تلاميذ تلك المدرسة إلى باريس للتبحر فى العلوم الطبية، كان صاحب الترجمة فى جملة المنتخبين وعددهم إثنا عشر شابا، وقد أتموا دراسة الفنون الطبية وفيهم من نال رتبة اليوزباشية».
«وكان راتب السيد محمد على البقلى عند سفرته هذه مائة وخمسين قرشا فأوصى بخمسين منها لوالدته، وأبقى لنفسه مائة. دخل مدرسة باريس الطبية وبذل غاية جهده فى تحصيل علومها، فنال حظا وافرا من سائر علوم الطب والجراحة، وشهد له أساتذته بالامتياز على سائر رفاقه وقد كان أصغرهم سنا. فأتموا دروسهم وامتحنوا شفويا، وقدم فى الامتحان الخطى رسالة طبية فى الرمد الصديدى المصرى، فمنح الإجازة وعاد إلى مصر سنة 1253ه، وكانت شهرته قد سبقته إليها، فعين حال وصوله جراحا أول وأستاذا للعمليات الجراحية والتشريح الجراحى، وأنعم عليه محمد على باشا برتبة صاغقول أغاسى. ولم تمض بعد ذلك مدة حتى نال رتبة البكباشى».
«وفى ولاية عباس باشا الأول حصلت بين هوبين بعض أطباء المستشفى الأوروبى منافسة، فأمر بنقله إلى ثمن قيسون من أثمان القاهرة ليتولى التطبيب فيه على نفقة الحكومة. ولذيوع صيته تحول المرضى من مستشفى قصر العينى إلى ثمن قيسون، وزادت شهرته بالفنون الطبية لاسيما الجراحة.
ولبث يطبب فى ذلك الثمن خمس سنوات متوالية، فأنعم عليه برتبة قائمقام، وعين رئيسا لأطباء الآليات السعيدية، فلم يلبث فى منصبه هذا إلا قليلا، واعتزل المناصب ولزم منزله. ثم عين رئيسا لجراحى قصر العينى وأستاذا للجراحة ووكيلا للمستشفى والمدرسة الطبية، فقام بعمله خير قيام، وأنعم عليه برتبة أميرالاى، وكان ذلك فى عهد سعيد باشا فقرّبه منه وجعله طبيبه الخاص، وألحقه بمعيّته مع بقائه فى مناصبه المشار إليها.
ثم أنعم عليه برتبة المتمايز «...» وفى أواخر سنة 1292ه انقطع عن العمل ولزم بيته ولم يعلم السبب فى ذلك. فلما كانت الحرب بين مصر والحبشة، صحب الحملة المصرية التى وجهت إلى الحبشة برفقة الأمير حسن باشانجل الخديوى إسماعيل باشا، وأدى هناك أجلّ الخدم، ثم عاجلته المنية ودفن هناك سنة 1293ه الموافقة لسنة 1877م، ولم يعلم أحد مكان ضريحه».
«وتضاربت فيه الأقوال، ومنه ما رواه حضرة مصطفى أفندى صبرى قمندان حملة طوكر إذ قال «بلغنى من بعض الأحباش أن المرحوم الدكتور محمد على باشا البقلى قد أقيم له قبر ببلدة «كلمة غير مقروءة» جراع بين عدوى وأسمرة إلا أنه أقرب إلى هذه من تلك، وشيدت فوق القبر قبة عظيمة يزوره فيها الأحباش على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم تعظيما له وتخليدا لذكراه.
وكان رحمه الله حائزا للنشان المجيدى من الرتبة الثانية، ناله مكافأة له على جهاده فى مقاومة الهواء الأصفر سنة 1865م. وله فى الطب مؤلفات خمسة منها كتاب فى العمليات الجراحية الكبرى سماه «غاية الفلاح فى فن الجراح» طبعه سنة 1864م فى جزءين، وكتاب «غرر النجاح فى أعمال الجراح» أيضا فى مجلدين، طبع سنة 1846م، وكتاب «روضة النجاح الكبرى فى العمليات الجراحية الصغرى» طبع سنة 1843م، وله كتب أخرى غيرها لم تطبع أو لم يتم تأليفها.
وأصدر مجلة شهرية اسمها اليعسوب سنة 1865م، وكان يساعده فى تحريرها الشيخ إبراهيم الدسوقى مصحح المطبعة الأميرية، وهى أول مجلة طبية صدرت باللغة العربية. وباشر تأليف قانون فى الطب، وقانون فى الألفاظ الشرعية، والمصطلحات السياسية ولم يتمها. وكان رحمه الله عاملا على بث العلوم والمعارف بين أبناء وطنه، شغوفا بالفقراء، طويل الأناة فى علاجهم حسبة لا يلتمس منهم عليه أجرا».
بعد أن أعطانى أخى حسين هذه الصفحات بسنوات كثيرة، وقعت بالصدفة المحضة على معلومات إضافية عن هذا الرجل الفذ فى كتاب بالانجليزية أصدرته الجامعة الأمريكية بالقاهرة سنة 2005، اسمه بالعربية: «الزمالك: تطورات حياة صفوة اجتماعية فى مدينة القاهرة، 1850 1945» تأليف السيدة شفيقة سليمان حمامصى.
فقد تصادف أن الجد الأعلى للسيدة شفيقة، مؤلفة هذا الكتاب، كان تلميذا مقربا لمحمد على البقلى، وهو ما دفعها إلى البحث فى تاريخ هذا الرجل وتضمينه كتابها، فإذا بها تعطينى مادة إضافية عن جدى أنا الأعلى.
لم يأت فى كتاب السيدة شفيقة حمامصى أى شىء يتعارض مع ما ذكرته حالا عن تاريخ محمد على البقلى، كما تضمن كثيرا من المعلومات التى ذكرتها، ولكن جاء فى هذا الكتاب بعض المعلومات الإضافية والملاحظات الشيقة منها ما تذكره عن المنافسة التى جرت بينه وبين بعض أطباء المستشفى الفرنسى»، التى أدت إلى نقله من مستشفى قصر العينى إلى مستشفى أصغر، فتقول إن النقل تم بسبب «مشاجرة عنيفة بينه وبين زميل فرنسى»، وأنه رغم ما أصابه من خيبة أمل شديدة «كان يشعر بالفخر لتمسكه بموقفه.
فبعد سنوات كثيرة من هذا الحادث قال لزميل أصغر منه: «لا تدع الخوف أبدا يمنعك من الكلام، عندما يكون معك الحق، وعندما يكون رأيك مبنيا على دليل علمى، ولا تظن أبدا أن عقلك من نوع أقل من عقل الخواجة، على الرغم من أنهم يحبون أن نعتقد ذلك حتى يتمكنوا من السيطرة علينا».
أما عائلة أبى، فقد استقيت بعض المعلومات عن أصلها من ابن عمة لى، يكبرنى بنحو خمسة عشر عاما، وقد استقاها بدوره من ابن عمه «وهو الدكتور أحمد زكى عالم الكيمياء الذى صار مديرا لجامعة القاهرة».
قال إن جدنا الأعلى من ناحية أبى نشأ فى منطقة ما من آسيا الوسطى «وهو ما قد يتفق مع ما ذكره أبى فى مطلع سيرته الذاتية «حياتى» من أن صديقا له، هو أستاذ جامعى فى علم الجغرافيا نظر مرة إلى رأسى.. وحدّق فيه ثم قال: هل أنت مصرى صميم؟ قلت: فيما أعتقد، ولم هذا السؤال؟ قال: إن رأسك، كما يدل عليه علم السلالات، رأس كردى». كان هذا الجد الأعلى «طبقا لما رواه لى ابن عمتى» رجلا متبحرا فى الدين، وكان هو وشقيقه الأكبر متمردين على الأتراك ويدعوان للثورة عليهم.
حكم الأتراك على شقيقه بالإعدام فهرب إلى الجزيرة العربية وأراد هو أن يلحق بشقيقه فأخذ حماره وسار به ومعه خيمة يستريح فيها بين الحين والآخر. ولكنه بدلا من أن يصل إلى الجزيرة العربية وصل إلى مكان فى القليوبية فى مصر بالقرب من قرية طحانوب.
ولما عُرف بسعة علمه بالدين أخذ الناس يقصدونه فى قريته الصغيرة طلبا للفتوى، قائلين: «فلنذهب إلى جارنا الروسى»، ومع مرور الزمن تحولت عبارة «جارنا الروسى» على ألسنة الناس، حتى عرفت هذه القرية الصغيرة باسم «جارنوس».
لم يذكر أبى شيئا عن هذه البدايات البعيدة وإنما بدأ روايته عن عائلته بأن أباه من بلدة سمخراط من أعماق البحيرة، أسرة فلاحة مصرية، ومع هذا فمديرية البحيرة على الخصوص مأوى المهاجرين من الأقطار الأخرى. فقد يكون جدى الأعلى كما يقول الأستاذ «(يقصد صديقه عالم الجغرافيا) كرديا أو سوريا أو حجازيا أو غير ذلك.
ولكن على العموم كان المهاجرون من آبائى ديمقراطيين من أفراد الشعب لا يُؤبه بهم ولا بتاريخهم. ولكن لعل مما يؤيد كلام الأستاذ أنى أشعر بأنى غريب فى أخلاقى وفى وسطى» (كتاب حياتى لأحمد أمين، مكتبة النهضة المصرية، الطبعة السادسة، 1978، ص2).
لم تشغل بالنا، نحن الأولا والبنات الصغار، حقيقة نشأة أمى أو أبى، ولا أعرنا أى اهتمام لما إذا كان الجد الأعلى لأمى طبيبا وجراحا خطيرا، أو أن جد أبى الأعلى ذو أصل كردى أو روسى. إذ ما الذى يهم من هذا كله؟ بل ولم نتوقف قط عند لقب «الطباخ» إلا ربما لاستثارة بعض الضحك.
إلى أن حدثت الحادثة المؤسفة التالية التى مازلت أشعر بالخجل من نفسى حتى الآن كلما تذكرتها.
فعندما كاد ينقضى عام على وفاة أبى فكرنا أنا وبعض الإخوة فى أن نصدر كتابا بهذه المناسبة، نجمع فيه ما كتب من مقالات فى رثاء أبى، تخليدا لذكراه، خاصة أن معظمها كان بأقلام مرموقة ومشهورة كطه حسين والعقاد وأحمد حسن الزيات والسنهورى.. الخ.
وكان من بينها أيضا مقال، من أفضل هذه المقالات، للدكتور أحمد زكى الذى ذكرته حالا، الذى كان وثيق الصلة بأبى، ليس فقط لرابط القرابة بينهما، بل وبسبب عشقه للأدب. كان يطلب أبى أحيانا بالتليفون فى ساعة متأخرة من الليل لكى يسأله عما إذا كانت كلمة ما يريد استخدامها فى مقال له صحيحة لغويا أو غير صحيحة، وكان أبى يتلقى هذه المكالمات بصدر رحب ويبادله مودة بمودة.
كان مقال الدكتور أحمد زكى هو سبب هذه الحادثة المؤسفة، فأثناء قيامنا بإعداد المقالات للنشر فى كتاب، لاحظ أحد الأخوة عبارة وردت فى مقال د. زكى عن اسم أبى بالكامل، وجاء فى نهايته لقب «الطباخ».
كان هذا فى أوائل سنة 1955، وكنت فى العشرين من عمرى، وكان أخى حافظ يزمع الزواج، وتمت بالفعل خطبته لشقيقة أحد أصدقائه. لا أدرى ما الذى جعل بعضنا «أو كلنا» يظن أن ورود لقب الطباخ فى نهاية اسم أبى يمكن أن يسىء إلى حافظ بأى صورة من الصور، أو يسىء ظن أسرة خطيبته بأسرتنا.
كان الأمر صبيانيا وسخيفا للغاية، ولكنى أذكر أننا أخذنا الأمر مأخذ الجد، وإن كنت لا أدرى حتى الآن لماذا وقع الاختيار علىّ أنا، وأنا أصغر الأخوة، للقيام بهذه المهمة الصعبة جدا، وهى أن أتصل تليفونيا بالدكتور أحمد زكى لكى أرجوه حذف كلمة «الطباخ» من الاسم. إنى أستطيع أن أبّرئ أخى حسين من تهمة الاشتراك فى اتخاذ هذا القرار، فقد كان وقتها فى لندن يعمل فى القسم العربى بالإذاعة البريطانية، ولكنى لا أستطيع أن أبرئ أخى حافظ، إذ إن الأمر يتعلق به أكثر مما يتعلق بالآخرين، كما لا أستطيع أن أبرئ والدتى، وإن كنت لا أذكر الآن على الإطلاق أى شىء يساعدنا فى تحديد المسئول الأول عن هذا العمل.
الشىء الوحيد الذى أتذكره عن هذا الأمر هو أنى وافقت على القيام بهذه المهمة «وهو عمل ينطوى على شجاعة على أى حال، وإن كان ينطوى أيضا على حماقة كبيرة»، وأنى قمت بالفعل بالاتصال تليفونيا بالدكتور أحمد زكى.
أذكر جيدا كيف صعق الرجل عندما عرف سبب المكالمة، ولابد أنه صعق أكثر عندما ذكرت له دافعى إليها، وهو قرب زواج أخ من إخوتى. إذ ما دخل الزواج القريب أو البعيد بما إذا كان جد من جدودى طباخا أو نجارا؟
أذكر أن الرجل بدا أولا وكأنه غير مصدق لما يسمع، ثم لما تأكد منه وفهمه قال لى بحزن «إنه كان يظن أن أحمد أمين قد ربّى أولاده على نحو أفضل من هذا». ثم أضاف بحزن أيضا «أن لنا أن نفعل ما نشاء وأن نحذف من الكلام ما نريد حذفه».
وبالفعل ظهر كتاب «أحمد أمين: بقلمه وقلم أصدقائه» بدون كلمة «الطباخ».
ومضت سنوات كثيرة، قابلت بعدها الدكتور أحمد زكى فى الكويت، وكان قد جاوز الثمانين ويعمل رئيسا لتحرير مجلة «العربى»، فرحّب بى وأخذ يحكى لى ذكرياته عن أبى، ولم يبد منه أنه يذكر شيئا عن واقعة «الطبّاخ»، أما أنا فلم أنسها قط.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.