يوم الخميس الماضي شرعت في رواية ملخصة لحكاية أحدث تطبيقات تكنولوجيا «النشل» الوطني التي تدور حالياً في دهاليز الحكم المظلمة وتستهدف نهب وتدمير ما تبقي لهذا البلد من عافية وقدرة علي معاودة النهوض (عندما تحل رحمة ربنا قريباً إن شاء الله) من الحضيض السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي نتردي ونهبط إلي أعماقه السحيقة يوماً بعد يوم منذ ثلاثين عاماً علي الأقل. وشرحت في سطور المقال السابق بإشارات موجزة، كيف أن الخطة التكنولوجية المعقدة «لنشل» مدخرات الشعب المصري المتراكمة في أوعية شركات التأمين الوطنية الثلاث («مصر للتأمين» و«الشرق» و«الأهلية») بدأت قبل أربع سنوات باستجلاب جيش جرار من الخواجات لهف في عامين اثنين 400 مليون جنيه مقابل العربدة والتجول الحر في أحشاء الشركات الثلاث (لصالح شركات دولية تعمل في المجال نفسه) والاطلاع علي تفاصيل ومعلومات ثمينة تجاوز بعضها في الأهمية والخطورة حدود الأسرار التجارية وبلغ حد انتهاك أسرار لها علاقة وثيقة بالأمن القومي للبلاد (عندي نماذج منها)!! وأشرت إلي أن جيش المرتزقة الأجانب كتب في نهاية رحلته السياحية الممتعة تقريراً طويلاً عريضاً التقطت منه عصابة «القط الأسود» المتحصنة في مغارة السلطة كلمة «دمج» فقط، ثم قامت علي الفور بتفصيل تشريع قانوني مررته من مجلسها المزور الموقر قضي بدمج الشركات العامة الثلاث واخترع «شركة قابضة» قبضت عليها و«قبض» الحبايب المعينون في إدارتها (ومازالوا يقبضون) عشرات الملايين!! أما الحجة المعلنة التي روجها «القابضون الدامجون» فهي جمع وحشد الإمكانات والقدرات والأصول والاستثمارات الهائلة (تقدر بمئات المليارات) التي تحت يد الشركات الثلاث لخلق كيان عملاق قادر علي تحقيق المزيد من الانطلاق والمنافسة في الأسواق الخارجية بعدما حققت هذه الشركات شبه احتكار للسوق التأميني المحلي. طبعاً هذا الكلام يبدو من بعيد شكله ظريف ولطيف ولا يخلو من معقولية، لكنه عن قرب قد لا يكون كذلك بالمرة؛ إذ ليس كل «دمج» في المشروعات الاقتصادية عملاً إيجابياً دائماً، بل ربما يكون العكس أحياناً هو الأفضل سواء لأسباب تتعلق بطبيعة النشاط أو البيئة السوقية وتأثيرات حافز المنافسة علي فاعلية وكفاءة الإدارة.. إلخ، وعموماً فإن أخيب الدارسين لعلوم الاقتصاد وإدارة الأعمال يعرفون أن أي قرار بتغيير الهياكل المستقرة للمشروعات (بتوسيعها أوتضييقها) لابد أن يكون منطلقاً من احتياج فعلي وهدف واضح ومدروس وقابل للتحقق (فضلاً عن كونه هدفاً مشروعاً أصلاً) ومعززاً ببحث معمق للظروف والمعطيات المحيطة، أي باختصار ليس قراراً عشوائياً واعتباطياً ويبتغي أهدافاً ومآرب وأطماعاً أخري غير تلك المعلنة. والحقيقة أن تلك «المآرب» الأخري سرعان ما أطلت برأسها وفضحت نفسها رويداً رويداً، فرغم أن القرار والخطة كلاهما قائم علي «الدمج» فإن ماحدث فعلا كان «التفتيت» و«التمزيق» وبهدلة شركات قطاع ناجح ومتفوق و«تخسيرها» وإلحاق الضرر بالمواطنين المتعاملين معها.. ويكفي هنا (لتوضيح معالم الجريمة وكشف النوايا النهبوية) مجرد الإشارة إلي بعض القرارات والممارسات التي أعقبت اختراع «الشركة القابضة» وإطلاق مشروع الدمج في العام 2008. أولا : بدأت المسيرة بتخفيض عائد الربح السنوي علي أموال المواطنين أصحاب وثائق التأمين من (95) في الألف إلي (85) ثم (65) علي التوالي خلال العامين اللذين مرا علي مشروع «الدمج». ثانياً: انتزاع الأصول والممتلكات العقارية الهائلة من الشركات الثلاث (بعض العقارات لايقدر بثمن وتلامس القيمة السوقية لأغلبها حدود التريليون جنيه)، وإسناد إدارتها لشركة جديدة جري اختراعها وتسكين قطيع ثان من «الحبايب» فيها لكي «يقبضوا» هم أيضاً عشرات الملايين مقابل وضع أياديهم الكريمة علي هذه «التورتة» الرهيبة التي تثير لعاب العصابة التي يعرفها القاصي والداني والتي استطاعت بالفعل أن تفوز(حتي الآن) بقطع معتبرة من هذه «التورتة» بعدما باعت الشركة المخلوقة من العدم عشرات العقارات بأسعار «تشجيعية جداً» بينما فرضت علي الشركات المالكة المندمجة (في شركة مصر للتأمين) أن تدفع سنوياً نحو 78 مليون جنيه قيمة إيجار مقراتها الكائنة في هذه العقارات!! ثالثاً: قررت الست «القابضة» دمج الشركة المصرية لإعادة التأمين في «شركة مصرللتأمين»، وكان من نتيجة هذا القرار أهدار مكسب وطني حققه قانون شركات التأمين الصادر قبل أكثر من نصف قرن عندما ألزم شركات التأمين العاملة في السوق المحلي بإيداع النسبة الأكبر من مبالغ إعادة التأمين في شركة وطنية بهدف إبقاء مدخرات الشعب داخل البلاد والحيلولة دون تسربها إلي الخارج عبر شركات إعادة التأمين الأجنبية.. فما حدث. أن شركات التأمين الأجنبية والخاصة (22 شركة) أحجمت بعد القرار المذكور عن تنفيذ التأمين المعاد في «شركة مصر» بحجة لا ينقصها المنطق، وهي أن هذه الأخيرة شركة منافسة تعمل في ذات المجالات التأمينية ولا تستقل بنشاط إعادة التأمين فحسب كما حال الشركة القديمة!! رابعاً: بيد أن التفتيت والتخريب والفوضي التي جرت كلها تحت لافتة «الدمج» لم تتوقف عند هذا الحد، وإنما بلغت المهزلة مداها عندما قررت «القابضة هانم» فصل وتقطيع الأنشطة التأمينية النوعية عن بعضها البعض وتجزيء شركة مصر العملاقة التي جري «الدمج» تحت اسمها إلي شركتين منفصلتين إحداهما تعمل في مجال التأمين علي الحياة والثانية في التأمين علي الممتلكات(!!) علامتا التعجب الأخيرتان لا تتعلقان فقط بالتناقض بين «الدمج» و«التجزيء»، لكنهما التعليق الوحيد المهذب علي العشوائية القاتلة التي رافقت محاولة تنفيذ هذا القرار علي أرض الواقع والتي من مظاهرها المضحكة المبكية، إهدار ملايين الجنيهات (في أقل من أسبوع واحد) في رفع مئات اليفط واللافتات التي كانت معلقة علي مقار الشركة المنتشرة في طول البلاد وعرضها، واستبدالها بلافتات ويفط جديدة تحمل اسمي الشركتين المخترعتين (قبل إتمام الإجراءات القانونية لتسجيلهما) ثم أزالت هذه اليفط مرة أخري. خامسا : أما آخر تقليعة تخريبية يجري طبخها الآن فهي خطة «إلغاء» شركة مصر للتأمين واستئصال شأفتها تماما من الوجود، وحشر مكوناتها الضخمة حشراً في حوصلة شركة «الشرق» لقتلهما وخنقهما معاً بسبب عدم التناسب المروع في حجم كل منهما، إذ بينما تدير الشركة المحشورة محفظة عقود تأمينية تحتوي علي أكثر من 750 ألف وثيقة، فإن محفظة الشركة المستهدفة بالحشر لا يزيد حجمها علي 17 ألف وثيقة فقط لاغير !! سادساً: أدي هذا كله إلي بدء ظهور أعراض خراب مستعجل وبشاير تنبئ بأن عصابة «القط الأسود» المذكورة تقف خلف الستار متأهبة للانقضاض و«نشل» الجمل التأميني بما يحمله من ثروة أسطورية.. ولعل أوضح إشارة إلي ذلك أن شركة خاصة مجهولة الهوية (ومعلومة النسب) فازت مؤخراً بعقود التأمين علي ثلث أسطول شركة «مصر للطيران» لأول مرة في تاريخ هذه الأخيرة وتاريخ شقيقتها «مصر للتأمين»!! هل يوجد ابن حلال عنده خط تليفون دولي ومستعد يعمل فينا معروف ويبلغ الأستاذ «أوكامبو» المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بما يحدث لنا؟!