خرجت لا أنوي على شيئ غير الوصول إلى عملي الذي يبعد عن قريتي عشرات الكيلومترات، أقطعها بالقطار، حيث أنني كنت أقضي إجازتي مع أبي وأمي وعليّ أن أعود لعملي. أنتهز فترة الصبح في القراءة أو ممارسة متعة (الشوف) لأتزود بالخضرة والهواء المنعش الذي سأستنفده في المدينة حتماً. شدتني رواية "تلك الأيام" ل"فتحي غانم" ودرتٌ مع بطلها "سالم عبيد" المؤرخ الذي يبحث عن تاريخ ليكتبه. خطفتني أنا والوقت، فلم أشعر إلا بصفارة القطار تنطلق في محطة مصر، معلنة الوصول. وصلت أولاً، وغالباً ما أصل قبل الجميع مع أنهم من سكان القاهرة. مساكين... كيف لهم أن يستيقظوا مبكراً وهم لا يهنأون بنور النهار ولا بظلام الكون ليلاً المريح للأعصاب؟! وكيف لهم أن يصلوا مبكراً وعليهم أن يجاهدوا يومياً ذلك الكائن الأسود الرابض في سماء مدينتهم وحياتهم، الذي يملأ الأنوف والحلوق ويغشى الروحَ والأبصار؟!؟
أسعد دائما بتلك الدقائق التي أقضيها وحدي والمكان لا يزال ناعساً هادئاً. أطلب قهوتي وأستمتع برشفها غير آبهة بزميلي الذي يجلس بجانبي -فهو لم يصل بعد- ولا يطيق رائحتها ويفسد عليّ متعة شربها بالتأفف، فأسرع في ارتشافها وتحرقني سخونتها في الجوف. وأنتهز الفرصة لأدير ما أختاره من مجموعتي الموسيقية في الهواء بدون سماعات تحبس صوتها في أذني، لأصبح بها على المكان وأنعشه قبل أن يأتوا. تصطدم مقاطع الموسيقى بالسقف وتنزلق على الأرض السيراميك بعد أن تلامس الجدران الملساء وتتجاوب مع بعضها. وأستفتح شغلي متبركة باسم الله.
يبدأون في التساقط تترا.. أحب معظمهم، فأبادر من أحبهم بالتصبيحة "صِباح النووووووووور". مع أنهم هم القادمون ومن المفترض أن يلقوا عليّ أمنياتهم بصباح جميل، وخير، وفُل، وقشطة؛ كلٌ حسب طريقة تصبيحته. لا أسلم من تعليقاتهم اللطيفة أحياناً، والثقيلة في أحيان أخرى على اللكنة التي أنطق بها التصبيحة وكل كلامي، نظراً لأني من ريف الأقاليم. تلك اللكنة التي تظهر قوية جداً ولا تخطؤها الأذن في المدّات التي تميل لحركة الكسر.. غالباً ما أضحك معهم على نفسي، وأسخر من تلك الكسرة المحببة لهم الملازمة لكلامي، بل وأحياناً أسمع منهم كيف ينطقون الكلام مفتوحاً كما ينطقه أهل القاهرة وأضحك. لكن في أوقات كنت أختنق منها.. من تلك الكسرة.. وأسألهم: "أمال بتقولوها ازاي؟" وأحاول جبر الكسور لتصير فتحات.
طالت مدة عملي في العاصمة القاهرة.. وبعد أن كانت أسرتي رافضة تماماً فكرة الإقامة في المدينة، وبعد أن كنت أقضي ربع يومي عابرة سُبل، اعتاد أبي وأمي على ابتعادي عن البيت، وقلّت المساحات المشتركة بيننا، ووثقا في أني بنت مسئولة فسمحا لي بالإقامة مع خالتي الوحيدة، بعد أن هاجر ابنها وتزوجت ابنتها وفارقها زوجُها لحياة أخرى.
إنما لماذا أسموها "عاصمة"؟! هل يتناسب ذلك مع طبيعتها القاهرة؛ تقهر ما خارجها لتعصم ما بداخلها؟ لكن هل يتضمن الاسم مفارقة من كونها لا تعصم أبداً؟!! كيف تعصم وهي مليئة بلحوم بيضاء وحمراء و-أحياناً- سمراء تتناثر على كورنيش النيل، وفي وسط البلد، أقل ثمناً بكثير من اللحوم التي يعلقها الجزار والفرارجي وبياع السمك؟! كيف تعصم وليلها لا ينام ويحجب بريقه النجوم؟ هل عصمت أهلها من الحاجة؟ ومن الهمّ والحزن والتعب؟ وكيف تعصم والأنوار المبهرجة تنسكب في سمائها وتخطف كل بصر بريء لم يعتد غير الضوء الرباني؟!
ازداد التصاقي بالقاهرة.. فصرت أفهم كلام أصحابي من أهلها. كلامهم مخلّط، وخفيف الوزن، ولا رائحة له، ليس مثل كلامنا الذي أحس فيه برائحة الغيطان، والطين، وقوة اندفاع مياه الري. لكن لكلامهم طعم مميز لم أجد له توصيفاً حتى الآن بعد قضاء ثلاث سنوات في القاهرة. وصرت أعرف قوائم الأسعار في المطاعم والكافيهات التي لم أكن أراها إلا في المسلسلات، كنتاكي، وبيتزاهت، وهارديز، وسيلانترو، وبيكري، وبينوز.. وغيرهم. وعرفت الماركات وأستطيع الآن الاعتماد على نفسي في السير والشراء وعبور الطريق. لكنني لم أستطع التخلص من الكسرة التي تكسر كل كلامي.. مع أني، والله، أعرف كيف أتحدث.
تكونت لي دوائر فيها –في القاهرة- واتسعت. دوائر من الأماكن، والأسماء، والأحداث، والأرقام، والوجوه. وأصبحت الأوقات التي أختنق فيها من كسرتي، تزداد امتداداً كلما قضيت يوماً هنا، وتتقلص قليلاً كلما رجعت لقريتي في آخر الأسبوع. حتى جاء ذلك اليوم الذي كنت أتحدث فيه أمام قادم جديد في العمل وخرجت مني لفظة مكسورة: "قِريت في جرنان الدستور إن...."، ولم يكن يعرف هذا القادم أنني لست قاهرية، فأطرق السمع ومال ناحيتي وهو يقول: "...... ايه ف الدستور؟؟" وضحك أحد أصدقائي وقال فيما يشبه الاعتذار: "معلش أصلها مش من هنا"..
فقررت أن أجبر كلَ كسور كلامي.
واعتدت أن أفكر، وأنتظر أكثر قبل أن أنطق بأي كلمة. بل أصبح من الممكن أن أسأل أصدقائي كذا مرة في الجملة الواحدة عن الكلمات المشاركة في تكوينها: "هِي بتتنطق مفتوحة ولا مكسورة؟".. بدأت محاولاتي تحصد ثمارها شيئاً فشيئاً. لكن رغم أن أغلب كلامي صار يميل للفتح والاتساع، قلّ معدل سرعتي في الكلام وتدفق أفكاري عما عُرف عني وأعرفه عن نفسي. ومع أن الكسور اختفت تقريباً من نطقي، إلا أن الجمل تخرج أحياناً مكسورة. اعتقدت أنه عَرَض مؤقت لأنه كأنني أتعلم لغة جديدة. ويلزمني وقت كاف حتى أتأقلم عليها وهي نفسها تتماشى معي.
ألَفت الفتحة، وانكمشت فترة التفكير التي كنت آخذها للتأكد إذا كان ما أهمّ بقوله مفتوحاً أم مكسوراً. سعدت بهذا الإنجاز الكبير الذي يفوق كل ما قمت به في مجال عملي في السنوات الثلاث. لولا ذلك الاختناق والثأثأة والقلق الذي أصاب تكوينات كلامي، ولولا الضيق الذي يسحبني تحت كلما نسيت وملت بالفتحة فتصبح كسرة. لكن سعادة أمي كانت مكتملة، وكانت تتباهى بي أمام أخوتي الكبار وأختي المتزوجة وخالاتي غير المتعلمات: "شفتوا البنت بقت بتتكلم ازاي؟؟ زي بتوع مصر"، وتضحك وهي تنظر لأبي الذي أجد على وجهه تعبيراً لا أفهمه. لم يشاركها أبداً سعادتها بقاهريتي الجديدة. شاركها فقط ملاحظاته على تغيّر كلامي.. ملاحظات متحفظة.
تفتّح كل كلامي.. ولم يعد أصحابي مضطرين للتعليق، والضحك، أو الاعتذار لكل غريب يسمعني ولا يدرك أنني من ريف الأقاليم. وحلّ مكان تعليقاتهم اللذيذة أحياناً والثقيلة، نظراتُ تتراوح بين الإعجاب، والألفة، والتساؤل. تطمئنني نظرات الإعجاب والألفة، المشفوعة غالباً بقولهم: "ده إنتِ خلاص بقيتِ زينا تمام".. لكن تلك النظرة التي تباغتني من زميلي عدو قهوتي الصباحية، تشعرني بالغربة وأشياء أخرى تكاد تدفعني لأسأله لماذا ينظر لي هكذا.. لكني أخاف من الجواب الذي لا أعرفه!
لاحظ أبي الرجل الجامعي الذي رفض أن يترك بلدته أو أن يبيع الأرض التي ورثها من والده أو يحولها لأرض غير زارعية، تلعثمي والكسور التي أصابت تكويانتي. واكتفى بالإشارة لأمي: "آدي اللي عمالة تتمنظري بيها وتقولي إنها بقت زي البربند". لكنني لم أهتم، وأصررت على ألا أتخلى عن فتح كلامي حتى أثناء قضائي معهم إجازة آخر الأسبوع، أو الأعياد. أصررت لأني أعرف أن المسافات ستقل بيني وبين القاهرة ولن أقضي ربع عمري وأنا عابرة سُبل.
خرجت لا أنوي على شيئ غير الوصول إلى عملي الذي يبعد عن بيت خالتي بضع كيلومترات.. وصلت وكانوا هم قد سبقوني في الوصول، صبّحت عليهم: "صَباح الخير".. فباغتني زميلي: "الله يرحم صِباح النووووووور.. راحت فين؟"
انخرطت في الضحك معهم وهم يتذكرون كسراتي.. ضحكت لأداري كسرة أصابتني بغصة في حلقي وألجمتني عن الكلام.
استفتحت شغلي باسم الله. ولم أطلب القهوة مراعاة لزميلي الذي باغتني. واكتفيت بحشر أذني في السماعات لأسمع فيروز وهي تغني للدنيا حتى تشتي. أنا أيضاً نفسي الدنيا تشتي، وأحب المشي فيها وهي تشتي. نظرت للسماء متمنية أن تمطر لعل المطر يحلّ ما ألجمني، ويزيل الثأثأة الغائرة في روحي. صعدت إلى أعلى نقطة في قلبي.. تلك التي تدخل منها الروح، والحب، وتسكن فيها الأسماء والذكريات. ولفّني حنين غير مبرر مجهول المصدر، غير مرتبط بزمان وخارج حدود الأمكنة.
جاء الوقت المخصص لتناول الإفطار.. لم آخذه واستمررت في الصعود حتى وجدتني في جبهة السماء. تكتنفني بلونها وسحبها المخملية الناعمة. تتغلغل خيوطها داخلي وتصبغني بنفس اللون ونفس الدرجة.. الدرجة الحائرة بين الرمادي والبنفسج.
التف الزملاء حولي وألحوا عليّ في السؤال عما بي. لكن لجامي لا يزال معقوداً.
ومضى اليوم وزميلي يتأفف.. ليس من رائحة القهوة.. بل من صمتي. ولما فاض به الكيل، دفعني بصوته الأجش: مالك؟
انتبهت وهرعت مجيبة إياه: إصلي قِريت موضوع في ال.........
دعاء سمير
التعليق
الكاتبة تجيد القص، حكي رائق متسلسل بلغة سليمة وإمساك بحالة جيدة وعميقة والنهاية إضافة حقيقية للقصة. هي إذن قصة جيدة جداً.
د. سيد البحراوي أستاذ الأدب العربي الحديث بكلية الآداب، جامعة القاهرة