نقلت إلي طنطا.. فغادرت قلم حسابات القاهرة.. ورحلت وعائلتي إلي السيد البدوي .. وكأي موظف منسي لم تنقطع زياراتي لقلم مستخدمي القاهرة عسي أن أصبح من المذكورين أو أقفز بقدرة قادر إلي ذاكرة الوزارة. وفي زيارتي الأخيرة لمراقبة القاهرة عبرت بقلم الحسابات حيث زملائي القدماء( برسوم وجاد ومصطفي علي.. أو درش كما كنا نختصر اسمه.. وهاجمني الزملاء واتهموني بالتواطؤ مع الدهر في نسيانهم.. ثم قبلوا أعذاري وطلبوا لي الشاي الكشري وانهالت السجائر.. ومع الشاي والدخان عادت الذكريات.. ذكريات الأحياء والأموات والمنسيين.. وصاح برسوم فجأة: علي فكرة.. الراجل الصراف الأخنف إياه سأل عليك هنا.. ولاحقه جاد وهو يرمش بعينيه من خلف منظاره السميك. وترك لك رسالة.. أيوه.. وأردف برسوم: قلنا له نقل إلي طنطا.. فسأل علي عنوانك.. فلما لم نعرف.. كتب لك خطابا وتركه هنا.. وأكمل جاد: قال.. عسي أن يبرح به الشوق.. أو يركبه عفريت فيعود فإذا عاد إلي هنا فأعطوه هذه الورقة. وضحكت وضحك الزملاء وجاد يحاول تقليد الرجل في كلامه.. ولما سألتهم عن ذلك الخطاب.. أجابني درش بأنه ليس خطابا.. وإنما هو عدة أزجال من تخريفه التافه الذي راحت عليه... وتذكرت آخر لقاء بيني وبين خيري أفندي بقطار المناشي.. فسألتهم: تعلمون أنه بعد أن خرج إلي المعاش..؟؟ فهتف درش يقاطعني: عمل في شركة الجاز.. واشتري لابنه عربية كي يدهس بها عباد الله.. وعلق جاد: صراف جربوع.. ويشتري لابنه عربية.. وحاوره درش: من طمع الدنيا.. طلع معاش ومع ذلك زاحم الشبان في أرزاقها.. وأكمل جاد: شفته؟ والله إذا رأيته في البلطو القديم والطربوش المزيت.. وزاد برسوم في حماس: والحقيبة!! إلا حقيبة الصرف.. كله كوم وحقيبة الصرف كوم.. وقال درش: مع أن الشركة رفتته.. وصحت أنا: رفتته..؟؟ فأردف درش: بعد أن تخرج ابنه واشتغل في الإسكندرية.. استغنت الشركة عن خيري.. والولد كان بيني وبينك قرفان منه من زمان.. فقال له هذا فراق بيني وبينك.. وضحك برسوم: طبعا يفضحه وهو يدور كالمتسول بالبلطو والطربوش إياه.. ولاحقه درش: والولد إيه!! العربية والغليون والصوف الإنجليزي.. وعجبت من معلومات درش.. وعهدي به أيام زمالتنا لا يهتم بخيري ولا ابنه.. وعندما بدت الدهشة علي وجهي.. أسرع جاد لنجدتي فأخبرني قائلا: لقد أصبح جار درش الآن.. فالتفت إليه درش, وكأنه يلومه علي هذه الإهانة: جار الشوم بعيد عنك.. ثم التفت إلي مفسرا: لماذا غادره ابنه.. أجر بيته مدرسة أطفال.. وسكن في عشة.. أي والله في عشة فوق سطح بيت قرب المدبح.. عند معلمة اسمها المعلمة كرشة. وصاح الزملاء: اسمها إيه..؟؟ ورفع درش صوته هذه المرة؟؟ بقولك اسمها المعلمة كرشة.. تاجرة مشهورة في المدبح.. وتعلق برسوم بقول درش.. أن الرجل أجر بيته.. فراح يعيد ويزيد.. والبالطو ألم يؤجره؟ ولماذا لم يؤجر الطربوش؟ وتعجب جاد: ويوم حضر.. حضر ومعه الحقيبة يحتضنها هكذا تمام كأيام الصرف حتي ظننته يحضر من البنك الأهلي فإذا به يحضر.. يحضر من عند من..؟ ولاحقه درش: من عند أم كرشة: وتذكرت قول الرجل حين قابلته منذ عامين مصادفة في قطار المناشي: ( ذهبت ذات مرة.. اشتقت الي الإخوان وقلت أقبل الأعتاب فقوبلت كما تعلم من صغار النفوس..). ولم أشأ أن أحكم علي الزملاء البسطاء بأنهم صغار النفوس.. ومع ذلك عجبت كيف لا يرون في خيري ما أري.. والتفت من ذكرياتي.. فانتبهت الي درش وهو يحكي لهم: جمع الكراكيب القديمة ذات مساء علي عربة صغيرة ذات حمار اسود وسار خلفها في نفس البالطو والطربوش يحمل في يده حقيبة سفر.. وفي الأخري مصباحا أثريا يعلم الله وحده, يرجع الي أي عهد من السلاطين.. وضحك الزملاء.. هاها.. أما منظر.. وتذكرت أن آخر مرة رأيت فيها خيري لم يكن يرتدي طربوشه القديم.. فاستفسرت من درش عن ذلك.. فقال في لهجة الخبير.. ( في ذلك الصيف وابنه يستعد للامتحان.. هدده الولد بأنه سيغادره بعد أن ينجح.. فراح المغفل يسترضيه.. فترك الطربوش المزيت والبالطو.. ولكن لما نجح الولد وغادره للعمل في الاسكندرية.. عاد كل شيء كما كان.. ولاحقه برسوم في نغمات: ورجعت ريمه لعادتها القديمة.. وعلق جاد: يموت الزمار وصباعه بيلعب.. ويموت خيري والبالطو والأشعار إياها.. وغادرت الزملاء وقد تأكدت أنهم يرون خيري علي غير ما أراه أنا.. وعجبت..!! أيرجع تصور الإنسان لما يري أمام عينيه في الخارج.. أم لملكات أخري بأعماق النفس؟ وعدت الي طنطا وقد نسيت مشكلتي بسبب مشكلة خيري تلك.. وألفيتني مرارا أسأل نفسي: ألم تطربهم شاعريته..؟؟ ألم يعجبوا لحافظته..؟؟ هل يخفي علي أحد سبب تضحياته..؟؟ وحزنت أن أختلف عن أولئك الزملاء اختلافا شديدا.. يجعلني أري صواب خيري إذ وصفهم( بصغار النفوس).. ولكن عجبي أن أتصوره وقد ألقت به المقادير تحت رحمة تلك المرأة التي أسماها درش أم كرشة وقلت في نفسي.. لا يمكن أن يكون الرجل قد قبل هذا المستوي.. غير الشاعري اطلاقا وهو ابن قافية علي حد قوله إلا بعد أن أعتبر نفسه قد سقط نهائيا. بعد أن طوحت به الدعامتان اللتان تمسكانه وتحفظان له اعتبارا أدبيا حتي في نظر نفسه. فضلا عن نظر الآخرين ابنه وزميله فايق داوود رحمه الله... وانقضت الشهور وأنا ألوم نفسي أن لم آخذ عنوان خيري من درش. إذ كنت حتي أرسل له خطابا أواسيه في دنياه الجديدة التي لا شك تخلو من أي وزن أو قافية.. وعدت ذات ليلة من نوفمبر من المقهي فقالت لي زوجتي إن عجوزا أشيب يتوكأ علي عصا حضر وسأل عن عنواني.. وفي اليوم التالي.. كنت في طريق العودة الي منزلي للغداء.. وما إن انعطفت من الشارع العمومي حيث الحارة التي أسكنها حتي سمعت نداء.. وعدي يا وعدي يصدر من حانوت الخباز الذي علي رأس الحارة.. كان خيري يجلس علي أحد صناديق الكوكاكولا أمام باب الخباز.. وخفت بادئ الأمر أن أري خيري بعيني درش.. ظننت أنني سأري المخلوق الذي أعرفه أنا.. وفي موجة من الفرح احتضنت الرجل.. وبعد أن هدأت التحيات والسلامات اكتشفت لأول مرة أنه لا يحتضن حقيبة الصرف وقد لبس المعطف المشهور والطربوش إياه.. ثم ماذا.. ثم إذا به يتوكأ علي عصا.. ولم ألاحظ أنه قد جلس الي جوار شيخ سمين في جلباب من التيل الثقيل ذي أكمام واسعة وقد حمل عباءة من الصوف الخشن وأطلق لحية بيضاء غير مهذبة وجلس ساهما كمن أخذته سنة من النوم.. ولما تحرك خيري ليعرفني بالشيخ تبينت أنه يعرج بإحدي قدميه وقد تهدل البالطو القديم فكاد يصل طرف من أطرافه الي الأرض وقدم لي الشيخ الجالس قائلا: حضرته أخونا في الله!!! وأقسمت أصحبهما الي بيتي رغم محاولة خيري الإفلات مني بحجة أنه مشغول مع أخيه في الله بزيارة السيد البدوي.. وسرت بهما الي بيتي.. وكان خيري يتوكأ علي عصاه ويستند الي ذراعي.. وقبل أن أسأله ماذا جري لساقه عاجلني قائلا: وليس وقوعي عن حمار بقاتلي, وأصعبه كسر برجلي أو يدي.. آه أه.. صاحبة البيت ياسيدي أقول لها يا حاجة السلالم والمناور يلزمها درابزينات لكن.. انظر.. وأشار الي ساقه.. وقفز الي رأسي حديث درش: سكن عند واحدة معلمة في المدبح اسمها أم كرشة.. وأغراني الشيطان أن أعاتبه.. ولكني أمسكت لساني.. وكررت ترحيبي بصاحبه الشيخ.. وسألته إن كان من القاهرة؟؟ فتولي خيري الاجابة عنه.. فاخبرني أنه لا يعلم عنه ولا عن بلده شيئا.. فهو نادر الكلام ويبدو غالبا ثقيل السمع لا يذكر الماضي.. ربما لإنه لا يريد التشكي.. وربما لأنه ذهل عن نفسه والعياذ بالله. وفي حجرة الضيافة رحبت بهما وقلت لخيري: لقد نورت طنطا... فأخبرني أنه كان قد أملاني بيتا من الشعر فيما أملاه لي يوم قابلني منذ عامين بقطار المناشي وأنه قد تبين له بعد افتراقنا أنه أخطأ في تذكر البيت فأملاني البيت مكسورا.. وبحث عني ولكنه لم يعثر لي علي أثر.. فأسف أسفا شديدا.. وخاف أن أستشهد بالبيت في مجلس من مجالس الإنس.. فيجد الخلان البيت مكسورا.. وما سمعت قوله حتي تغلب علي شيطان الضحك.. وأفلت لساني فإذا بي أقول: فماذا أفعل اذا وجدوا البيت مكسورا..؟؟ ستقول طبعا إن خيري سامحه الله هو الذي كسره.. بل سأقول أن المعلمة هي التي كسرته.. وضحك خيري وقد فطن الي ما أرمي اليه.. ثم قال: لم يفضحني إلا ذلك الشقي درش سامحه الله.. أقول له إنها الحاجة وليست المعلمة.. ولكن لمن تقول..؟؟ لم أشك أنها بنت قافية عندما أخبرني درش.. آه.. الله أعلم أنها.. تحاكي نعيما زال في قبح وجهها وصفحتها لما بدت سطوة الدهر الله... ؟؟ أهذا وصفها.. لا حول ولا قوة إلا بالله.. ظننها والله ملهمة أو من أخوات القريض.. أخوات القريض؟؟ أي قريض؟؟ ولم أشك في أن أخاه في الله... ذلك الشيخ الذي يصحبه.. لم أشك أنه ثقيل السمع فقد جلس مطرقا لا يشاركنا تفكهنا بوصف خيري لصاحبة البيت التي لها وجه يحكي نعيما زال... وخرجت إلي المطبخ لأحضر لهما ما أعدت زوجتي من طعام.. وعندما عدت دهشت إذ وجدت خيري وأخاه في الله قد افترشا الأرض علي ذلك البساط القديم.. وقد اقتحم ابناي عليهما الحجرة خلسة.. وفي الحال امتطي كل منهما كتفا من كتفي خيري أفندي الذي تزحلق طربوشه إلي الخلف فراح يلحق به حتي لا تبدو صلعته... وغضب إذ نهرت الطفلين.. ولما هبطا إلي الأرض.. راح يبحث لهما في معطفه عن شيء هناك... ثم انتزع يده من أغوار جيبه فإذا بها بلحات من البلح الإبريمي قسمها بين الطفلين... بينما سقط طربوشه علي الأرض واختطف الصغير الطربوش ودس رأسه فيه حتي أذنيه.. بينما رحت ألحق الشقي أستخلص منه الطربوش... ولكني لم أسترده من الصغير إلا وقد انقطع زره... وضحك خيري ملء شدقيه كأنه يريد أن يتخلص من كثرة ما جلب له من مصائب.. وطردت الطفل ورحت أبحث عن حل لدي زوجتي للزر المخلوع.. وجلس خيري وصاحبه إلي الغداء وقد افترشا الأرض.. ولما كانت زوجتي قد تولت أمر تصليح زر طربوشه... فقد جلس حاسر الرأس... وأخذ يعزم علي صاحبه بالطعام... ويبحث لي عن قافية من قوافي المديح... ولما فتح الله عليه قال شعرا أسكت عن ذكره.. ولم يكمل خيري شعره.. بل صمت وغاب عنا بذاكرته مليا ثم همس: كان فايق داوود رحمه الله يفضل علي هذين البيتين قول الشاعر, ونسيت المقارنة إذ تذكرت رئيسي السابق فايق داوود فاندفعت اسأله: رحمه الله.. أتعرف قبره يا خيري أفندي...؟؟ زرت قبره بدير النحاس بمصر القديمة مع شقيقه ميخائيل.. صحب شقيقه قسيسا كهلا قال عليه كلمات.. بينما وقفت أنا علي قبره أحمل الخوص الذي اشتريته من علي النيل وهتفت بأبيات كان يحبها.. وانتهي الغداء... وأحضرت لهم أدوات القهوة ورحت أصنعها بنفسي.. كل هذا وصاحبه يجلس وديعا هادئا... بين المنصت لنا والغائب عنا.. وكنت قد تعودت نظراته الوديعة.. ملامحه الهادئة... وصمته الذي بدا طبيعيا غير مفتعل... وربت علي كتف الشيخ وصحت فيه: حصلت لنا البركة... فرفع يديه محييا مرتين.. وتمتم بكلمات خافتة.. وتأمله خيري ثم قال لي: إنه علي هذا الحال منذ قابلته في القطار بالأمس... ولقد صاحبته, فعجبت لحاله كأنني أعرفه منذ الأزل... ومع ذلك لا أعرف حتي اسمه.. ولا أعلم عنه شيئا سوي أنه سيقضي الليلة في السيد البدوي... ثم ينطلق مع الفجر إلي الدسوقي.. ولست أدري ماذا يجذبني إليه... ويجعل سبيله سبيلي.. فعاجلته: ولكنك ستبيت هنا.. لا.. إنما سأبيت مع أخي هذا.. لكان الله استجاب دعائي.. كفي ما أضعناه من أعمارنا.. ما أظنه يسمع شعرك... أو لديه شعر يقوله لك؟ من شدة الأسف أنني لا أحفظ شعرا صوفيا وإلا كنت فتحت مغاليق قلبه. . ولكنني أظنه مذهولا.. ذاهب العقل. والله ما يفعل هذا به إلا دستة من الأولاد, ولهذا فأنا أحمد الله.. كنت آسفا إذ لم أنجب لإبراهيم أخا ولا أختا في هذه الدنيا.. وحين ذكر ابنه لم أجد حرجا في أن أسأل عنه... فقدمت لهما القهوة.. وانتظرت حتي شربا.. ثم قلت: لقد أسفت لما أخبرني درش أنه نقل إلي الإسكندرية... وأنك لا تعيش معه هناك.. بل نقلت إلي.. إلي.. فقاطعني: إلي أم كرشة طبعا.. ولكن ما حيلتي.. سكن في الصيف الماضي في بنسيون في عماد الدين وذهبت لأسال عليه.. فعوملت.. عوملت كما تعلم.. من صغار النفوس طبعا.. لا... لا أقول صغار النفوس هنا... إنما ألفيت إبراهيم بك يقصد ابنه( كان قد أخبرهم أنه لو جاء عجوز يسأل عنه وأعطاهم أوصافي فهو فراش مكتبه... وهكذا عوملت كفراش عندما ذهبت لزيارته.. فلم أجد داعيا بعد ذلك لأن أحرجه.. أو أشتت عواطفه فتركته ينعم بدنياه.. شددت الرحال إلي أم كرشة.. وكان خيري أفندي يتكلم في لهجة طبيعية لا يشوبها حزن ولا أسي. وتذكرت الأعوام السابقة... وكيف كان يتكلم عن ابنه بفخر وعجب. أو بلهفة وجزع إذا ما توهم خطرا يتهدد صحته أو مستقبله.. فقلت آسفا: وآسفا.. هل ستعود لذلك المثل القديم, قلبي علي ولدي انفطر وقلب ولدي علي حجر؟ فأجابني: لا.. لا.. إنما نقول كما قال الشاعر..( عرف الحبيب مكانه فتدللا).. وبيني وبينك.. عاملته في زماني كسيدي.. لم يعاملني في زمانه كأبيه.. ولهذا ذم الأنبياء والجهابذة التطرف.. أي نعم ثم أردف: هذا من غضب الله... غرقت في دنياي فنسيت آخرتي.. نعم.. المال والبنون يا سيدي.. أي نعم.. أي نعم.. آه لو كنت أعرف بيتا واحدا الآن من الشعر الصوفي.. لأطلقت هذه النفس من إسارها.. و(أشار بيده إلي صاحبه الساهم..). كان هذا آخر عهدي بخيري أفندي.. ولم أذكر إلا الآن الحجة التي تذرع بها لزيارتي.. وهي أنه يبحث عني منذ عامين ليصحح بيتا مكسورا كان قد أملاه لي بقطار المناشي.. وأسفت أن قلبت الأمر هزلا.. وسخرت من ساقه المكسورة.. بينما لم يخف علي أن الرجل يبحث عني لأنني آخر من بقي من دنياه. فمن ينقذني الآن من ضميري...؟؟ ومن ينقذ البلد من صغار النفوس..؟؟ البقية الأسبوع القادم