ربما مرّت عيناك سريعا على خبر مقتل 17 فردا مدنيا -بينهم 3 نساء- مؤخرا في أفغانستان على يد حركة طالبان، لكن هل قرأت سبب قتلهم؛ فوفقا لرواية أحد شهود العيان لوسائل الإعلام فإن مقاتلي طالبان قتلوا المدنيين فقط لمشاركتهم في نزهة بعد أن حظر مقاتلو طالبان الموسيقى وكل أنواع التسلية الأخرى؛ بما في ذلك مشاهدة التليفزيون والعروض المسرحية؟ قبل أن تسيء الظن وتدرج مقالي ضمن هجوم وسائل الإعلام الأعمى على الرئيس محمد مرسي وجماعته وتشويه صورة الإسلاميين؛ دعني أستبقك بتأكيدي على أن الإسلاميين الذين أنتمي معهم لنفس الدين وأحترم مَن ينتمي لسائر الأديان الأخرى، لا يقفون على الإطلاق في خندق طالبان أو يُفكّرون بتشددهم وضيق أفقهم، لكن أكثر ما يُقلقني هو الغد وليس اليوم. فأقصى ما يُثير ضيقك وحنقك اليوم من بعض الإسلاميين لن يتجاوز سبة رقيعة أو لفظا بذيئا يُكيله أصولي متشدد لمخالفيه في الرأي، دون أن يحترم آيات الدين الإسلامي الحنيف الذي يتشدّق بحمايته والذود عنه، لتجد في اليوم التالي تصريحات استهجان واستنكار من إسلاميين آخرين يتبرأون مما جاء على لسانه، ويُعلنون أن الإسلاميين ليسوا جميعا في بوتقة واحدة، بل هناك فروق واختلافات إن جازت لأحدهم أن ينتهج منهج السبّ والقذف والخوض في الأعراض؛ فإنها في الوقت ذاته تفرض على البعض الآخر منهم احترام مَن يخالفهم في الرأي والبحث عن مواطن الاتفاق لتكون أرضية يتلاقى فيها الجميع بدلا من البحث عن الخلاف والشقاق الذي لن يزيدنا إلا فرقة. لكن لماذا لا ترجع بذاكرتك إلى الخلف أكثر؛ فمع ظهور حركة الإخوان المسلمين على يد مؤسسها الشيخ حسن البنا الذي أراد قيادة حركة إصلاحية تُعيد نشر مبادئ الإسلام وتعاليمه بين المسلمين، في ظلّ ابتعاد الناس عنه أثناء الاحتلال الإنجليزي وانتشار حانات الخمر وبيوت الدعارة، أخذت الحمية بعض أتباعه ومريديه ليغالوا في غايتهم، قبل أن تتحوّل الغاية إلى تطرّف، والتطرّف إلى إرهاب، والإرهاب إلى عمليات تصفية واغتيالات لمعارضي الإخوان، قبل أن يتبرّأ الشيخ من مرتكبي هذه الجرائم قائلا مقولته الشهيرة: "ليسوا إخوانا ولا مسلمين". ومع سماح الرئيس محمد أنور السادات لجماعة الإخوان المسلمين والجماعات الإسلامية في الانتشار السياسي ليكونوا بمثابة عصا موسى التي تلقف ثعابين الشيوعيين والناصريين، بدأ الأمر بصراع سياسي بين الطرفين، قبل أن يتحوّل إلى تطرّف ديني ضد السلطة نفسها، أيّده البعض واستنكره البعض الآخر من الناس، دون أن يتخيّل أحد أن الأمر سيصل إلى درجة اغتيال رئيس الجمهورية على الهواء وسط قواته وحراسته. حتى حركة طالبان نفسها، بدأ ظهورها كحركة جهادية تقاوم الاحتلال السوفييتي لتحرير أفغانستان، وهي بالفعل غاية نبيلة ومشروعة، قبل أن يتحوّل التديّن من جديد إلى تطرّف ديني، وفرض الفهم الضيق للدين على المواطنين تحت تهديد السلاح وإلا فالموت هو الجزاء المستحقّ على مَن يخالف تعاليمهم. وإذا كنّا قد عانينا من اختصار صورة الشخص الإسلامي في جلباب ولحية و"لا تجادل ولا تناقش يا أخ على" في معظم أفلام عادل إمام، دون إظهار باقي النماذج المثقّفة ذات الفكر المستنير من الإسلاميين؛ فعلى هؤلاء المستنيرين مسئولية احتواء واحتضان تلك النماذج المتشددة الموجودة اليوم بيننا بتطرّفها الفكري واللفظي، وسحب السموم التي ملأت عقولهم طوال السنوات الماضية عندما كانوا يعيشون في عزلة عن المجتمع، ليتعلّموا التأقلم، ولغة الحوار، ونبذ التشدّد، والكف عن السبّ واللعن، قبل أن نستيقظ ذات يوم على حركة طالبان جديدة لا تفرّق بين الإسلامي المستنير والليبرالي والعلماني، وقد أعمى التطرّف أعينها وجعلها تضع كل المخالفين لها في الرأي في مرمى نيرانها. أنظر إلى حادثة مقتل المدنيين في أفغانستان وذبحهم فقط لأنهم اختلطوا في نزهة، وأقرأ الكثير من التعليقات المتطرّفة التي يكفّر أصحابها المخالفين لهم في الرأي على شبكة الإنترنت، ويكيلون لهم الاتهامات والشتائم واللعنات باسم الانتصار للإسلام والدفاع عنه، إلى جانب بذاءات وشتائم بعض شيوخ الفتنة على الفضائيات التي يُؤيّدها البعض أيضا على الإنترنت ويدافع عنها رغم أنهم يضيقون ذرعا بأي هجوم لاذع من أي تيار سياسي آخر؛ لأرى في هؤلاء بداية الاتجاه نحو التطرّف الفكري الذي يتفاقم في النفوس حتى يصل إلى حمل السلاح وإهدار الدم في لحظة غير محسوبة يسقط فيها الضحايا، وتراق بها الدماء وسط مفاجأة غير متوقّعة. باختصار الخوف ليس من الإسلاميين كتيار أو مصطلح أو فكر، لكنهم شأن أي فصيل يحمل الصالح والطالح، وبينهم بعض المتعصّبين والمتشددين الذين يأخذهم فهمهم الضيق للدين إلى الظلام الذي يريدون أن يفرضوه على الجميع، ليضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يُحسنون صنعا؛ فإما أن يتصدّى الإسلاميون المستنيرون والعلماء الحقيقيون لهؤلاء، وإما أن نعيش اليوم في أمان جزئي تقتطع الألفاظ النابية والهجوم الشرس على كل المخالفين في الرأي واحتكار فهم الدين وتفسيره جزء منه، قبل أن تنقض علينا في الغد طالبان جديدة ليسقط العديد من الضحايا الذين تصفهم وسائل الإعلام ب"المدنيين" بينما يصفهم الظلاميون ب"الكفار".