أول صدمة ستنتاب القارئ لكتاب تيودور هرتزل الشهير "الدولة اليهودية" الذي يعدّ الأساس الذي قامت عليه دولة إسرائيل، هي أن ذلك العمل الذي يعدّه بعض الصهاينة في منزلة التوراة ليس في حقيقة الأمر سوى كتيب صغير لا تزيد عدد صفحاته عن 100 صفحة!، الحقيقة أنه لا يمكننا بحال أن نتحدّث عن كتاب الدولة اليهودية قبل أن نذكر شيئاً عن تلك الشخصية الفريدة.. تيودور هرتزل.. حفيف أجنحة الملائكة! ولد تيودور هرتزل في بودابست -عاصمة المجر حالياً- سنة 1860 لأب تاجر ثري، والتحق تيودور الصغير بمدرسة يهودية وعمره ست سنوات لمدة أربعة أعوام انقطعت بعدها علاقته بالتعليم اليهودي. ولذلك لم يُقدّر له أن يَدرُس العبرية، بل لم يكن يعرف الأبجدية نفسها، والتحق بعد ذلك بمدرسة ثانوية فنية، ومنها التحق بالكلية الإنجيلية 1876 وعمره 15 سنة (أي أنه التحق بمدرسة مسيحية بروتستانتية، ولعله تلقّى تعليماً دينياً مسيحياً هناك). التحق هرتزل بجامعة فيينا وحصل على دكتوراه في القانون الروماني عام 1884، وكانت النمسا والمجر إمبراطورية واحدة في ذلك الوقت وإلى نهاية الحرب العالمية الأولى بالمناسبة، وعمل بالمحاماة لمدة عام، ولكنه فضّل أن يكرس حياته للكتابة والأدب، فبعد العام الذي قضاه هرتزل في المحاماة تركها للأبد ليعمل في الصحافة، فكان يكتب في السياسة والأدب، ثم سافر إلى فرنسا سنة 1891 ليُصبح مراسلاً صحفياً ل"الجريدة الحرة الجديدة" التي كانت تصدر في النمسا، وقد ظل يعمل بها حتى وفاته، وخلال تلك الفترة نشر هرتزل مسرحيته "الجيتو الجديد" التي كانت محاولة مبكّرة للتعبير عن توجهاته في المسألة اليهودية، ومنذ سنة 1895 أخذ تيودور هرتزل يُسجل يومياته، وهي السنة التي بدأ فيها هرتزل جهوده الصهيونية، وفي تلك السنة أيضاً انتهى من كتابة "الدولة اليهودية".. وفيما بعد كتب هرتزل في يومياته: "إنني لا أذكر أنني كتبت شيئاً وأنا في حالة من النشوة العقلية كتلك الحالة التي كنت فيها وأنا أكتب هذا الكتاب، ولقد كنت أسمع حفيف أجنحة ملاك فوق رأسي وأنا أكتبه، وكنت أعكف على الكتابة كل يوم حتى يهدني الإجهاد". وخلال عمله في باريس كان تيودور هرتزل على موعد مع القضية التي ستزلزل كيانه وتُغيّر أفكاره للأبد.. قضية دريفوس في سنة 1894 اتّهم ألفريد دريفوس وهو ضابط فرنسي يهودي الديانة بتسريب وثائق ومعلومات هامة إلى الملحق العسكري الألماني في باريس، ورغم ضعف الأدلة، فقد أدانت المحكمة دريفوس بتهمة الخيانة وحكمت عليه بالتجرد من رتبته والسجن مدى الحياة في جزيرة الشيطان، الأمر الذي أثار موجة كبيرة من المشاعر المعادية لليهود في فرنسا، وبعد ذلك بعامين تعالت الأصوات بإعادة محاكمة دريفوس بعد أن ظهرت أدلة جديدة تُثبت أن ضابطاً آخر هو مَن قام بتسريب تلك الوثائق، فأصبحت قضية دريفوس قضية رأي عام قسّم فرنسا إلى فريقين ظلّا على عداء عنيف لعشر سنوات كاملة، فقد كان الملكيون والعسكريون والكاثوليك مع إدانة دريفوس، في حين كان الجمهوريون والاشتراكيون والعلمانيون يؤيدون براءته، وفي النهاية تمت تبرئة دريفوس مِن تهمة الخيانة وإعادته للجيش في سنة 1906. كان تيودور هرتزل موجوداً في باريس أثناء محاكمة دريفوس، ولمس بنفسه كيف استشرت المشاعر المعادية لليهود أثناء المحاكمة وبعدها، فكانت قضية دريفوس نقطة تحوّل في موقف هرتزل وغيره ممن كانوا يدعون إلى اندماج اليهود في الشعوب التي يعيشون فيها، خاصة وأن تيودور هرتزل قد توفي قبل تبرئة دريفوس بسنتين.
ورغم رد الاعتبار إلى دريفوس إلا أن الصهاينة بعد ذلك قد اعتبروا أن تلك القضية تؤكد -بما لا يدع مجالاً للشك- أن العداء للسامية أمر مترسخ في أي مجتمع غير يهودي. مذكرات حلاق أهم مِن كتاب هرتزل! على غير ما نعتقد، لم يكن نشر كتاب تيودور هرتزل سهلاً، فقد بحث هرتزل طويلاً عن ناشر يهودي يقبل نشر الكتاب، فعندما أرسل هرتزل نسخة مِن كتابه إلى ناشر يهودي في برلين، لم تعجبه أفكار الكتاب، بل وفضّل أن ينشر على سبيل الانتقام من هرتزل كتاباً اسمه "مذكرات حلاق" بدلاً من كتاب الدولة اليهودية! وأخيراً عثر هرتزل على ناشر من فيينا وافق على طبع 3 آلاف نسخة من الكتاب، ولم تكن ردود فعل القرّاء مشجعة، فقد اعتبر الكثير أفكار هرتزل مجرد نزوة عابرة. والحقيقة أن نشر كتاب "الدولة اليهودية" قد أثار مناقشات حادة استمرت لفترة طويلة، وكان معارضوه مِن اليهود يفوقون مؤيديه، فلقد وجد اليهود الذين نجحوا في الاندماج في مجتمعاتهم في أوروبا وأمريكا في كتاب هرتزل تشكيكاً في ولائهم لأوطانهم، أما رجال الدين اليهودي فلقد رأوا في أفكار هرتزل خروجاً عن اليهودية -فحسب العقيدة اليهودية أن المسيح المنتظر هو من سيعيد يهود العالم إلى أرض الميعاد- في حين عارض اليهود الاشتراكيون فكرة الدولة اليهودية باعتبارها "ردة حضارية" أن يتم تأسيس دولة على أساس الدين كما كان الحال في العصور القديمة.. وعلى الرغم من ذلك كله فإن تيودور هرتزل كان مؤمناً إيماناً لا يتزعزع بأن جيلاً قادماً من اليهود سيؤمن بأفكاره ويسعى لتحقيقها على أرض الواقع. 100 عام ليترجم للعربية! يبقى أن نذكر أن كتاب "الدولة اليهودية" على أهميته الشديدة لم يترجم إلى اللغة العربية إلا سنة 1994، أي بعد نحو 100 عام على تأليفه! والأدهى أنه قد تم نشره في طبعة محدودة تجعل الوصول إليه بالغ الصعوبة! وقد تولّى ترجمة الكتاب عن الإنجليزية مترجم قديم هو الأستاذ محمد يوسف عدس، وقدّمه الدكتور عادل غنيم -أستاذ التاريخ الحديث بجامعة عين شمس- والذي يُجمل في مقدّمته القيّمة لكتاب "الدولة اليهودية" أهمية كتاب هرتزل في عدة أسباب؛ أهمها أنه قد نقل المسألة اليهودية من كونها قضية محلية تخص اليهود في الدولة التي يعيشون فيها سواء كانت روسيا أو ألمانيا أو غيرها، إلى قضية سياسية عالمية ينبغي على كل الدول مناقشتها وإيجاد حلول لها. إضافة إلى أن اليهود لم يكونوا يعتبرون شعباً قبل كتاب "الدولة اليهودية"، فقد كانوا مجرد أقليات منطوية على نفسها ومبعثرة في معظم بلدان أوروبا، فجاء كتاب هرتزل كي يقضي على انعزالهم وانطوائيتهم وشتاتهم ويجعل منهم شعباً، كما حدثهم عن الدولة المرتقبة، أي أن الكتاب قد جعل منهم شعباً وجعل لهم دولة. ويضيف الدكتور عادل غنيم: لقد وجد اليهود لأول مرّة في تاريخهم في كتاب "الدولة اليهودية" دليلاً للعمل الصهيوني، حدد لهم معالم الطريق، فطرح المشكلات وقدّم لها الحلول، ولم تكن مجرد أفكار متناثرة ككتابات مفكري الصهيونية الذين سبقوا هرتزل، ولكنه كان دليلا عمليا لإقامة الدولة، فلا عجب إذن أن وضع الصهاينة كتاب "الدولة اليهودية" في منزلة التوراة، وتيودور هرتزل في منزلة موسى عليه السلام!
واقرأ أيضا اذا تعرف عن إسرائيل (8)..الجيتو والحياة في أوروبا ماذا تعرف عن إسرائيل؟ (7).. إمبراطورية الخزر ماذا تعرف عن إسرائيل؟ (6).. كذبة نقاء الجنس اليهودي!! ماذا تعرف عن إسرائيل؟ (5).. فلسطين عربية؟! ماذا تعرف عن إسرائيل؟ (4).. عودة اليهود ماذا تعرف عن إسرائيل؟ (3).. مملكة اليهود وهدم هيكل سليمان؟!! ماذا تعرف عن إسرائيل؟ (2).. خروج اليهود من مصر إلى التيه ماذا تعرف عن إسرائيل؟ (1).. الشعب المختار