رغيد الصلح تضمن التقرير الذي قدمته “اللجنة المستقلة لإصلاح جامعة الدول العربية وتطويرها” إلى الامانة العامة للجامعة ملاحظات ومقترحات مهمة منها ما يتعلق بالالتباس بين - المشاعر القومية الجارفة - وبين “ضرورات التعاون بين دول مستقلة وذات سيادة” . ورأى التقرير أن هذا الالتباس “أضر بالعمل العربي المشترك وبتطور الجامعة منظمةً إقليميةً فاعلةً” . فهل تنطبق هذه الملاحظة على واقعنا الراهن؟ هل هناك بالفعل مشاعر قومية جارفة في أيامنا هذه تؤثر سلباً في العمل الجماعي العربي وفي تجلياته المؤسسية؟ تنطبق هذه الصورة إلى حد بعيد على مراحل فائتة من التاريخ العربي الحديث، خاصة مرحلة الخمسينات من القرن الماضي حيث كانت الحركة القومية العربية في حالة صعود، وحين كان النظام الإقليمي العربي يعيش مراحله التكوينية . ففي تلك المرحلة كان الاعتقاد السائد لدى الكثير من العرب وغير العرب مثل المؤرخ البريطاني آرنولد توينبي أن “الوحدة العربية آتية قريباً” ولقد تحولت هذه التوقعات إلى أساس لتقييم العديد من السياسات والمواقف العربية . وهكذا لما نشأت جامعة الدول العربية، رأى الكثيرون أن الهدف من هذه المبادرة هو احتواء وإحباط مشروع الدولة العربية الواحدة، وليس التعجيل في قيامها وتهيئة الظروف لتحقيقها . استطراداً، ظن أولئك أن بريطانيا هي التي وقفت وراء تأسيس الجامعة لأنها أرادت منع تحقيق الهدف الوحدوي العربي . وتعمقت هذه المشاعر بعد الدور المحوري والمأساوي الذي أسند إلى الجامعة خلال حرب فلسطين عام ،1948 وبعد أن قام الكيان الصهيوني على أنقاض حلم التحرر الوطني الفلسطيني . كما تعمقت هذه المشاعر أيضاً بعد عقد من الزمن من قيام الجامعة عام ،1945 عندما طرح مشروع الوحدة المصرية-السورية فجرف كل تفكير بالمشاريع التعاضدية أو الاتحادية . وهكذا عندما دعت بعض القيادات العربية مثل الحكومة السورية بشخص رئيسها الدكتور ناظم القدسي أو الحكومة العراقية بشخص الدكتور فاضل الجمالي، خلال عامي 1951 و1954 على التوالي إلى تعزيز النظام الإقليمي العربي من خلال مشاريع اتحادية وتدرجية الطابع، لم تلق هذه الدعوة ترحيباً واسعاً لدى الوحدويين العرب المتحمسين . لبثت المشاعر القومية العربية التي أطلقها مشروع وحدة مصر وسوريا تهيمن على مسرح السياسة العربية، حيث كان الاعتقاد منتشراً بأن المد الوحدوي العربي، كما قال أكرم الحوراني، أحد قادة هذا التيار آنذاك، سوف يحقق أهدافه الشاملة خلال زمن قصير . لم تتغير هذه التوقعات المتفائلة إلا بعد الانفصال بين مصر وسوريا وتحول العراق إلى دولة تناوئ المشروع الوحدوي العربي، ما شكل بداية نكسات متتالية للمد القومي الجارف لم تنقطع حتى يومنا هذا . وما كان ينطبق على الأوضاع العربية خلال النصف الأول من القرن المنصرم لم يعد قائماً اليوم . وإذا كانت هناك مشاعر قومية جارفة من هذا النوع فإنها على الارجح ليست مشاعر قومية عربية وإنما مشاعر غير عربية لجماعات إثنية ودينية موجودة في الدول العربية وهي ترتدي طابعاً قومياً أو في بعض الأحيان طابعاً دينياً ما فوق القومي . وبينما كان التيار القومي العربي الذي كان يحمل المشاعر الوحدوية الجارفة التي يتحدث عنها التقرير يشكل في الماضي ما يمكن وصفه “بالكتلة الحاسمة” أو التاريخية التي تقود الجماهير العربية، فإن الموقف تجاه مسألة العلاقات العربية-العربية ومشاريع التوحيد والأقلمة العربية يتجاذبه في أيامنا هذه تياران رئيسيان: الأول هو التيار العروبي الذي يضم بدوره فريقين رئيسيين: فريق القوميين العرب من ناصريين وبعثيين وقوميين مستقلين من الذين لا يزالون يطالبون بدولة الوحدة العربية، وفريق “الإقليميين” العرب، إن صح التعبير، وهم الذين يسعون إلى تحقيق التكتل العربي الفاعل الذي يضم الدول العربية المستقلة والمفتوح على شتى الاحتمالات في المستقبل سواء كان المزيد من التكتل أو الأقل منه . الثاني، التيار اللاعروبي، وهو تيار لا يعدّ العروبة والرابطة العربية مرجعية فكرية أو سياسية له، ومن ثم فإنه غير معني بتطوير النظام الإقليمي العربي وإصلاح أوضاع جامعته العربية . ويضم هذا التيار بدوره فريقين رئيسيين: واحداً قد لا يسعى إلى تطوير علاقة بلده بالدول العربية الأخرى، ولكن في إطار هياكل دولية وإقليمية غير عربية (عقائدية-دينية، اقتصادية، ثقافية-فرعية أو أممية) . وفريقاً معادياً للعروبة يسهم في تكوين تحالفات إقليمية مناهضة للعرب وضارة بمصالحهم . قد تكون الدعوة العروبية هي الأوسع انتشاراً بين المواطنين، وقد تكون هذه الدعوة، كما يؤكد البعض، مكبوتة تنتظر الظروف المناسبة لكي تخرج إلى العلن، ولكن ظاهر الأمور يدل على أن التيار اللاعروبي هو أكثر فاعلية واندفاعاً في المنطقة العربية اليوم، والأعلى صوتاً والأوفر قدرات . ومن هنا فإنه لا يسع الذين يرغبون في إصلاح النظام الإقليمي العربي أن يحمّلوا حمالي الدعوة العروبية القسط الكبير من مسؤولية الوضع العربي الراهن وكأنهم لا يزالون في ذروة نفوذهم المعنوي والسياسي . أما الالتباس بين الدعوات العربية وبين أصحابها، فالأرجح أنه لا توجد التباسات واسعة بين هؤلاء الفرقاء، وأنهم يعرفون ما يريدونه ويسعون إلى تحقيقه . فدعاة قيام الدولة العربية الواحدة لا يغيب عنهم هدفهم . ودعاة التكتل الإقليمي العربي يعرفون متطلبات العمل على تحويل النظام الإقليمي العربي إلى تكتل فاعل . فالتجارب الإقليمية باتت جزءاً من تراث عالمي في العلاقات الدولية، وباتت دروسها معروفة في علم وأحاديث السياسة العربية . من يسعى إلى التأكد من هذه الحقيقة يكفيه أن يراجع مشاريع الإصلاح الكثيرة التي قدمتها الدول العربية نفسها للنهوض بالجامعة العربية وبمؤسسات العمل العربي المشترك . كما أن فرقاء التيار اللاعروبيين يفوقون العروبيين لناحية وضوح هدفهم وتنوع أساليبهم، والتزامهم الحاسم بالسعي إلى تحقيق تلك الأهداف سواء خارج الجامعة أو حتى داخلها . ولقد أتقن الكثيرون من هؤلاء فن المساهمة في صنع القرارات ودفنها في مقبرة النسيان والإهمال . إلا أنه في مطلق الأحوال ليس من الجائز المساواة بين اللاعروبيين “السلبيين”، أي الذين لا يستمدون أفكارهم وسياساتهم من مرجعية عربية، وبين اللاعروبيين “الإيجابيين” والفاعلين الذي يستلهمون العديد من مواقفهم وسياساتهم وأفكارهم من العداء للعروبة وللعرب . هذا الفريق الأخير مصاب بالأرابوفوبيا لأسباب كثيرة لا مجال لشرحها الآن ولكنها موجودة . لقد كانت اللجنة المستقلة لإصلاح الجامعة على حق عندما رأت أن إصلاح النظام الإقليمي العربي يقتضي التوصل إلى رؤية شاملة تعيد للفكرة العربية ألقها، وتمكن الفرقاء الثلاثة الأوائل من غير المعادين لهذه الفكرة، من الاتفاق على نظرة واستراتيجية وأهداف مشتركة بقصد النهوض بالأوضاع العربية . إن وضع هذه الفكرة في إطارها الإنساني وتأكيد الارتقاء بالمنظومة العربية ينطوي على حرص على هذا التنوع وليس على الوحدة فقط، ما يشكل بوابة مناسبة لولوج مثل هذا التفاهم، كما أشارت اللجنة . نقلا عن صحيفة الخليج