فى عام 1979، وعقب توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل كتب أستاذ العلوم السياسية فؤاد عجمى، وهو أمريكى الجنسية لبنانى الأصل شيعى الديانة، مقالا مهما وضع له عنوان نهاية الحكومة العربية، ضمنه وجهة نظر مفادها، أن القطيعة التى تمت بين مصر والعرب وقيام مصر بتوقيع معاهدة صلح وسلام مع العدو الرئيسى للأمة العربية إسرائيل، إنما هو إعلان بوفاة دعوة القومية العربية التى ظهرت منذ أواسط أربعينيات القرن العشرين وشكلت إيديولوجية سياسية قامت عليها نظم وأحزاب وحركات سياسية من المحيط إلى الخليج. وفى عام 1990 عاد الرجل ليتحدث فى نفس الفكرة بإعادة التأكيد على صواب وجهة نظره، وذلك استنادا إلى أن ما قام به صدام حسين من غزو للكويت هو ضربة قاتلة للتيار القومى، ودليل قاطع على أن القومية العربية ما هى إلا دعوة زائفة بين الهيمنة والمصالح المتنافرة، والاقتتال من أجلها هى أساس العلاقات العربية العربية. وامتداد لنفس الطريقة التى تبناها عجمى للإجهاز على القومية العربية، كان الرجل محور تركيز الإعلام الأمريكى بوجه خاص والغربى بوجه عام، فى الحملة التى شنها جورج بوش والمحافظون الجدد فى الولاياتالمتحدة عقب أحداث 11 سبتمبر 2001، لتبرير الحرب الأمريكية على العراق، وذلك عندما أسهم عجمى بدور محلوظ فى تحقير صورة العرب عند الرأى العام الأمريكى وفى الترويج لربط الإرهاب بالإسلام السنى. ولقد بنى عجمى نظريته المعادية للقومية العربية بالتأكيد على أن الثلاثية التى تستند إليها دعوة كهذه لم تعد قائمة منذ عدة عقود، فلا المشاعر التى تدفع مواطنا عربىا فى بلد ما إلى التضامن التلقائى مع نظيره فى بلد آخر قد أصبحت قائمة بعد زيارة السادات للقدس فى نوفمبر 1977، ولا المصالح موجودة أيضا بعد أن تراجعت التجارة البينية بين الدول العربية إلى 8 أو 10٪، بينما هى قائمة أساسا مع العالم الخارجى، ولا المبادئ عليها اتفاقه وحولها التزام بالعمل بها بعد أن وضعت الأقطار العربية كل فى مكانه سياسات محلية وخارجية متباينة إلى حد كبير ولم يعد بالإمكان الثقة فى أية وعود بالتضامن العربى فى قضية ما هنا أو هناك، صحيح أن المشاعر كانت متدفقة وقوية بعد الحرب العالمية الثانية، وهو ما ظهر فى قيام الجامعة العربية عام 1945، واشتراك العرب فى الحرب ضد إسرائيل 1948 (بغض النظر عن خسارة الحرب)، وفى حرب 1956 عندما قام السوريون بقطع خطوط النفط بأراضيهم لمعاقبة الدول الأوروبية التى اشتركت فى الحرب مع إسرائيل، وذلك برغم أن تصرفا كهذا أضر بالمصالح الوطنية السورية، وفى حرب 1973 عندما قامت المملكة العربية السعودية، وبمبادرة من الملك فيصل بإيقاف تصدير النفط إلى الغرب تضامنا مع مصر، كل ذلك صحيح، ولكن الشواهد على تكرار نفس السلوك لم يكن هناك ما يستدل به عليها بعد هذه الحرب الأخيرة، بل إن ما تم رصده هو تصاعد المواقف العدائية بين مصر وشقيقاتها العربية إلى أن عادت الأمور إلى طبيعتها عام 1984، ولكن منذ ذلك الوقت فإن الثلاثية التى شكلت القواعد الراسخة للقومية العربية المشاعر، والمصالح، والمبادئ، فقدت قيمتها أو تلاشت تدريجيا إلى أن وصلنا إلى مرحلة الربيع العربى التى زادت المشهد ارتباكا وإن كانت تحتاج إلى بعض الوقت للحكم على تداعياتها الحقيقية فيما يتعلق بآفاق الدعوة إلى القومية العربية. لم يكن من السهل الاتفاق مع فؤاد عجمى على نظريته بنهاية القومية العربية، بغض النظر عن التأثير الذى أحدثته، بالفعل وقت إعلانها بنهاية سبعينيات القرن الماضى، وأتذكر أننى وقتها كنت باحثا شابا فى مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية وأكتب من وقت إلى آخر فى مجلة السياسة الدولية، وذات مرة طلبنى د. بطرس بطرس غالى رئيس تحرير المجلة، وطلب منى كتابة تقرير عن مقال فؤاد عجمى الشهير يتضمن نقدا موضوعيا له، وينشر فى السياسة الدولية وهو ما حدث بالفعل، آنذاك كان المهم هو التصدى لتداعيات الفكرة على صعيد الحياة السياسية المصرية والعلاقات بين مصر وبقية الدول العربية، لأنها تزامنت مع إحياء للتيار الانعزالى فى البلاد الذى بدأ يهتم بمصر الفرعونية من جهة، وبأنها أقرب إلى أوروبا منها إلى العرب من جهة أخرى وكان تقدير الدكتور غالى عند مناقشته للمقال المذكور أن واقعة كامب ديفيد لا تمثل اهتماما فى التوجه المصرى نحو العروبة وأن المشاكل السياسية التى ستترتب عليها مؤقتة وتزول لتعود الأوضاع إلى ما كانت عليه، ومن ثم لا يصلح بناء فكرة صارمة على هذه الواقعة مثلما فعل عجمى بالترويج لنهاية القومية العربية، ناهيك عن رسوخ المشاعر العروبية لدى المصريين على مدى الزمن ومن ثم عدم تأثيرها بعقد اتفاقية كهذه بين مصر وإسرائيل، ولا يخفى أن مصر الرسمية آنذاك لم تعتبر الاتفاقية انحرافا عن التوجه القومى، بل إن السادات أكد أنها عقدت من موقع قوة وشملت فى شقها الثانى حلا للصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين. ومثلما أوضحت فى تقريرى رفضى لنظرية عجمى عن نهاية القومية العربية، فإننى تعجبت من إصرار الرجل على متابعة نظريته العدائية هذه بعد ذلك الوقت، وقد ساعدته الأحداث العربية على ترويجها عندما وقع غزو العراق للكويت ثم الحرب الأمريكية على العراق، وفى الحالتين كتبت كثيرا بما يفيد رفضى لمثل هذه النظرية. كان عجمى قد أوضح أن المصالح المادية حلت محل المشاعر القومية كمنطلقات للأسس التى يقوم عليها السلوك السياسى سواء بالنسبة للشعوب أم للأنظمة والدول، وأن الأحداث السابقة أثبتت نظريته بأن العرب يختارون فى النهاية الاحتكام للمصالح لا للمشاعر، ولأن المصالح متغيرة فإنه لا يصبح غريبا أن تندلع نزاعات هنا أو هناك ،وأن يلجأ العرب إلى استخدام القوة ضد بعضهم بعضا دفاعا عن المصالح. إلا أن الخلاف الجوهرى مع عجمى وبالأحرى مع كثيرين مثله ممن شاركوا حتى الآن فى الحملات ضد القومية العربية، يكمن فى مواقف النظم الحاكمة ونخبها السياسية التى تفهم المشاعر والمصالح والمبادئ على طريقتها هى، وليست بالضرورة على طريقة الصالح العام للأمة العربية ككل، ولا حتى لشعوبها على وجه التحديد، فهى نظم ونخب سلطوية وانتقائية تعمل لذاتها فقط بسبب المناخ السياسى العام الذى عاشته المنطقة العربية منذ بداية مرحلة الاستقلال، وهو مناخ الاستبداد والرأى الواحد بدعوى التصدى للمؤامرات الخارجية والداخلية وغيرها من الأفكار التى أخضعت الشعوب لإرادة هذه النظم والنخب.. وفى ظل مناخ غير ديمقراطى من الخطأ إصدار أحكام على سلوك الشعوب والدول على الطريقة التى ذهب إليها فؤاد عجمى وأمثاله، لأنه فى مثل هذا المناخ يصعب القول بأن السياسات كانت تعبر عن مصالح حقيقية وليست مشاعر قومية، أو أن هذه المشاعر كانت خطأ أو غير قائمة أصلا، أو أن هناك خلافا حقيقىا حول المبادئ، حيث لم توضع كل هذه الأفكار فى موضع الاختبار من خلال نقاش ديمقراطى جاد، بل كانت السياسات يجرى إملاؤها بطرق قومية حسبما يتراءى للأنظمة الحاسمة وتقوم النخب السياسية من حولهم بالترويج لسلامة توجهاتهم فلا عبد الناصر استشار أحدا بشكل ديمقراطى فى قراره التدخل عسكريا فى اليمن أو حتى فى إقامة الوحدة مع سوريا قبل ذلك التاريخ ولا فى شن الحرب على إسرائيل، ولا السادات اتحذ نفس الطريق عندما قرر الذهاب إلى القدس والصلح مع إسرائيل وهكذا، فكيف يمكن الحكم بأن السياسات التى تم اتخاذها استندت إلى تقدير صحيح للمشاعر والمصالح والمبادرة القومية. ومن جهة أخرى فإن السياسات الوطنية على الصعيد الداخلى اتجهت إلى تعميق الفجوة فى مستويات المعيشة بين الشعوب العربية، مما أحدث اختلالا فى مسألة المكانة الاجتماعية تضاربت مع موروثات الماضى من جهة والتضامن الوطنى من جهة أخرى، مما أحدث حالة من الكراهية الصريحة أحيانا ومكتومة أحيانا أخرى بين هذه الشعوب، ومن ثم وصلت الحال إلى تشخيص المشهد القومى بالانقسام والتشتت والفتنة.