كشفت دراسة صادرة عن مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية أن بوادر صراع قابل للتحول إلى صدام واسع بين تيارات الإسلام السياسى من ناحية وتيارات الدولة المدنية. من ناحية أخرى كصدى لصراع أعمق على هوية الدولة والمجتمع، مؤكدة أن هذا الصراع متعدد الأبعاد تغلب عليه التحالفات الهشة والآنية بسبب رغبة التيار الإسلامى فى تحديد مسار المستقبل للصراع على السلطة، وأن لعبة الحكم لم تعد مرهونة بالصراع الفوقى بين النخب الاجتماعية والسياسية كما كان الأمر فى الماضى البعيد والقريب، مشيرة إلى أن الضربة القاسمة التى وجهتها الجموع البشرية التى احتشدت فى ميادين مصر فى يناير من عام 2011 للشرطة، ومن بعدها لجهاز أمن الدولة، ومع انتشار شعار «يسقط حكم العسكر» تراجعت قوة المؤسسات التى احتكرت العنف ووظفته لصالح بقاء النظام، وخلق ذلك مساحة من الفراغ قام بملئها جزئيا قطاع من معسكر القوى المحافظة والقوى الثورية فيما تحاول أربع قوى هامشية وغير منظمة بالإضافة لقوة نظامية جديدة السيطرة على حركة الشارع وتوجيهه صوب أهدافها. وأكدت الدراسة التى أعدها سعيد عكاشة الباحث فى المركز بعنوان «ثورة 25 يناير بين القوى المحافظة والقوى الثورية» أن اندلاع احتجاجات واسعة في مصر منذ الخامس والعشرين من يناير أدى إلى فرز القوى السياسية إلى تيارين وهما: تيار محافظ غايته إحداث تغييرات طفيفة فى نظام مبارك السابق بهدف احتواء ثورة الشباب ومنع استمرار الاحتجاجات والاعتصامات والمواجهات مع الجيش والشرطة، والتيار الآخر ثوري يهدف إلى اقتلاع نظام مبارك وورثته من القوى التقليدية وعلى رأسها المجلس العسكري الحاكم وتبديل علاقات القوى الاجتماعية وإحلال طبقة جديدة محل طبقة رجال الأعمال المتحالفة مع السلطة بكل هيئتها إبان حكم مبارك. وكشفت الدراسة أن الصراع بين الجانبين مازال محتدماً وقد يطول لفترة ليست بالقليلة في ضوء القوة التي بات الشارع يتمتع بها ودخوله كمتغير أساسى فى الصراع المحتدم على السلطة وتأرجح العلاقة بين جماعة الإخوان والرئيس مرسى من ناحية والمؤسسة العسكرية من ناحية أخري واتخاذها أشكالاً غير منتظمة من الوفاق الحذر إلى الصدام المعلن. وأشارت الدراسة إلى أن هناك تيارات قادرة على البقاء في الشارع وإفشال أي محاولات للالتفاف على الثورة مثل تلك التي جرت بين المجلس العسكري وقوى الإسلام السياسي (الإخوان والسلفيين). وترى الدراسة أن الأغلبية الصامتة هى الوحيدة القادرة أن تؤثر في الصراع القائم بين الاتجاهين الثوري والمحافظ فهى لا تعلن رأيها بوضوح ولا تتمتع بفاعلية ظاهرة حتى اليوم رغم كونها تشكل ما يقرب من 80% من المواطنين ويبقى حدود هذا التأثير مرهوناً بمدى استطاعة الأغلبية الصامتة تحمل الأوضاع المنفلتة أمنياً وتدهور مستوى معيشتها وأيضاً مدى قدرة تيار الدولة الرسمي ممثلاً في المجلس العسكري ومؤسسة الرئاسة التى يقودها الإخوان عبر محمد مرسى على إخراج هذه الكتلة من حالة السلبية التي تتخندق داخلها حتى الآن. بيئة الصراع وأكدت الدراسة أن الأسباب التى كانت وراء غضب أغلبية المصريين من نظام حكم مبارك مازالت قائمة حتى اليوم، وهى مع عوامل أخرى تشكل بيئة ضاغطة على أطراف الصراع الدائر على السلطة متمثلا فى انتشار الفساد والمحسوبية فى أغلب أجهزة الدولة وتحفز البيروقراطية المصرية للدفاع عن بقائها سواء فى مواجهة مطالب التقليص الإصلاح أو إدخال ملايين المطالبين بحق العمل إلى مؤسساتها. وأكدت الدراسة أن ارتفاع تكاليف المعيشة لأغلب المصريين وسقوط نسبة كبيرة منهم في جحيم الفقر وهو ما كشفه تقرير (الاتجاهات الاقتصادية) الصادر عن مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية عام 2011، مؤكدا أن 21.6% من السكان الذين بلغ عددهم حوالي 84 مليوناً عام 2010 كانوا يعيشون تحت خط الفقر وفقاً لأرقام وإحصاءات رسمية حكومية ويذهب هذا التقرير إلى أن حجم الفقر يتجاوز حتى هذه البيانات وفقاً للمعايير الدولية التي تحدده عند مستوى دخل أقل من دولارين يوميا، وأنه وفقاً لهذه المعايير فإن قرابة 40% من المصريين يعيشون تحت خط الفقر وأغلبهم من سكان الريف وصعيد مصر. وأضافت الدراسة أن الصراع بين التيار المحافظ والتيار الثوري يحمل خليطاً من الثقافة القديمة، ثقافة الخوف من التغيير والارتكان إلى الدولة الأبوية والثقافة الجديدة، وثقافة تحدى السلطة وتفعيل الشارع في مواجهة النظام والاستعداد لتحمل قدر من الفوضى لأمد طويل من أجل تحقيق مطالبه، ولا يدور الصراع بين التيارين فقط على السلطة وشكل الدولة والنظام المنتظر، بل أيضاً على من بوسعه اجتذاب الكتلة الصامتة لجانبه، فهي العنصر الذي يمكنه حسم المعركة وفقاً لحساباته الدقيقة القائمة على تحقيق معادلة صعبة يمكن صياغتها على الوجه التالى وهى الاستقرار = الحد الأدنى من الأمن + الحد الأدنى من الحياة الكريمة. وأشارت الدراسة إلى أن في ثورة 25 يناير وقفت الكتلة الصامتة خلف التيار الثوري دون أن تشارك في تظاهراته حيث بدا لها نظام مبارك وقد أخل تماماً بالمعادلة السابقة، فقد ركز على أمنه الشخصي تاركاً أمن المواطن نهباً لفساد الشرطة وقمعها بالمشاركة مع العصابات الإجرامية، كما كان انحيازه للطبقات الثرية ومصالح رجال الأعمال سبباً في انهيار الركن الثاني من معادلة الاستقرار. وعقب سقوط مبارك مالت الكتلة الصامتة للوقوف في مواجهة التيار الثوري دون أن يعنى ذلك تأييدها للتيار المحافظ حيث بدا أن كليهما يهدد حدي المعادلة السابقة، مضيفة أن الثوار يهددون الأمن ببقائهم في الشارع والدخول في مواجهات مستمرة مع الشرطة والجيش، والتيار المحافظ غير موثوق به لعدم مواجهته لأركان النظام السابق وتواطئه في إطالة محاكمات الفساد وإخفاء الأدلة الدامغة التي تدين قتلة الثوار وناهبي الأموال العامة. صراع الإخوان والسلفيين وأكدت الدراسة أن انصراف كلا المعسكرين الإخوان المسلمين والسلفيين لإدارة معركة تقسيم تركة النظام السابق بالتركيز على قضايا لا تمس الجمهور الواسع ولا الشارع بقواه التى هي قيد التبلور مثل قضية النظام الانتخابى والدستور وصلاحيات الرئيس ووضع المؤسسة العسكرية فى النظام الجديد، مضيفة انه رغم أولوية هذه القضايا كونها الأساس الذى ينبغى أن تقام عليه الدولة منطقيا، إلا أن الشارع لم يهتم بها إلا من زاوية ارتباطها اللحظى بمصالحه العاجلة (استعادة الأمن والانضباط، تحسين الخدمات، معالجة البطالة وانخفاض مستوى العيش). الشارع وقواه الخفية وذكرت الدراسة أن هناك أربع قوى هامشية وأخرى منظمة تشكل معا كتلة خماسية الأضلاع تضغط بقوة على التيارين الثورى والمحافظ لتحديد الأولويات وتشكل تحديا هائلا للاستقرار الذي يقل عمرهم عن ثلاثين عاما والحاصلين على مؤهلات تعليمية متوسطة وفوق متوسطة وجامعية وفوق الجامعية وأطفال الشوارع الذين يقدر عددهم ب 2 مليون طفل منهم نحو نصف مليون في القاهرة وحدها والجماعات الهامشية التي يتشكل أغلبها من الباعة الجائلين المحرومين من أية حقوق اجتماعية ولا يوجد لديهم نقابة تدافع عن مصالحهم والتشكيلات العصابية التي جندتها الشرطة على مدى ثلاثين عاماً ووظفتها في قمع التيارات السياسية وقوامها حسب بعض التقديرات يصل إلى نصف مليون شخص. وتشير الدراسة إلى أن هذه القوى الأربع ليست لديها مصلحة حقيقية في الاستقرار وإنهاء وضع الصدام فى الشارع مع الجيش والشرطة فقد خلقت الثورة لها مجالا للتنفيس عن حرياتها المكبوتة واكتساب الرزق بدون مطاردة من الشرطة، بل إن الثورة مكنت بعضا منها من التخلص من وضع اجتماعى مهين فالعاطلون عن العمل على سبيل المثال شاركوا فى اعتصامات الميدان للهروب من المواجهة مع ذويهم الذين يعيرونهم بعدم قدرتهم على كسب عيشهم، وظلوا أثناء الثورة وبعدها يقدمون أنفسهم كثائرين تستضيف الفضائيات بعضهم مضفية عليهم وضعا اجتماعيا لائقا ومعترفا به، فهم ليسوا عاطلين بل ثوار يعيشون فى ميدان تحول إلى ما يشبه «الكميونة»، فالكل يتعاون من أجل البقاء والدفاع عن الميدان والكل يتقاسم الطعام وساعات الترفيه وأيضا خطر المواجهة مع الشرطة والجيش وفى هذا الإطار مضيفة أنهم لن يتنازلوا عن الميدان وسيظلون يبحثون عن شعارات ومطالب تبقى سيطرتهم عليه، فإما أن تتحقق أهدافهم بالحصول على عمل وحد أدنى للدخل وإما البقاء فى الميدان كثوار دائمين. وأكدت الدراسة أن هذه الفئة وجدت ضالتها فى الجماعات اليسارية التى تتبنى أيدولوجيات تخدم هذه الأهداف مثل الأناركيين والاشتراكين الثوريين وأدى التحالف بينهما إلى إجبار المجلس العسكرى على تقديم التنازل تلو الآخر بدءاً من إقالة آخر حكومة عينها مبارك قبل رحيله (حكومة أحمد شفيق) مرورا بانتزاع قرار حل مجلسى الشعب والشورى وتقديم مبارك وعدد من رجاله للمحاكمة، وأخيرا إلغاء قانون الطوارئ وتقصير فترة بقاء المجلس العسكرى فى السلطة عبر الإسراع ببدء عملية انتخاب رئيس الجمهورية التى وصلت إلى نهايتها بتولى محمد مرسى الرئاسة كأول رئيس مدنى منتخب منذ الخمسينيات من القرن الماضى. وينطبق الأمر ذاته على القوى الثلاث الأخرى فالباعة الجائلون الذين تعرضوا باستمرار لمطاردة الشرطة ومنعهم من بيع بضائعهم فى ميادين القاهرة والإسكندرية أو السماح لهم بذلك مقابل تقديم رشاوى من رزقهم القليل لرجال الشرطة الفاسدين رأوا فى ميدان التحرير وفى غيره من الميادين سوقا واسعة تم تحريرها من قبضة الدولة ولا يجب التفريط فيه إلا بأن تعترف الدولة بهم وتعطيهم أماكن ثابتة لعرض بضاعتهم ومن ثم فقد كانوا فى حاجة إلى خطاب اليساريين المصريين حول اجتثاث نظام مبارك لكى يحتموا به ويبرروا بقاءهم فى الميدان عبر تبنيه وترديد شعارات إطلاقية. وأشارت إلى أن أطفال الشوارع الذين حصلوا على تعاطف واهتمام الثوار فى فترات كثيرة أثناء الثورة وبعدها ووفر لهم ميدان التحرير الفرصة للحصول على الطعام وبعض المعاملة الإنسانية وبدورهم أصبحوا يعون مصلحتهم فى الإبقاء على ميدان التحرير والميادين الأخرى التى يعيشون داخلها وحولها محررة من قبضة الشرطة والدولة. وأن التحالف بين هذه القوى الأربع وبين الجماعات الثورية لا يمكن فصمه بسهوله ما لم يقم أى نظام حكم حالى أو محتمل بمعالجة مشكلات هذه الفئات الأربع وإقناعها بالتخلى عن دعم الثوار. وبمعنى آخر لقد وجد الثوار فى القوى الأربع المشار إليها جمهوراً يكفل لهم الحماية من بطش الأمن أثناء المواجهات التى وقعت والتى ستقع لاحقا من أجل إخلاء الميدان ووقف الثورة عند الحدود التى وصلت إليها، بينما وجدت هذه القوى الأربع المهمشة فى خطاب الثوار وقدرتهم على مخاطبة الإعلام فرصة للبقاء فى ساحات توفر لها فرص كسب العيش وبعض الحرية والكرامة، ولا يستطيع الطرفان البقاء فى الميدان دون الاستمرار فى هذا التحالف ومن العبث أن يبحث أى نظام حكم عن حل لمواجهة هذا التحالف بدون التوجه للقوى الأربع المذكورة وتلبية مطالبها وليس عبر التفاهم مع القوى الثورية التى لن تقبل أى مهادنة معه إلا عبر تحقيق أهدافها باستكمال الثورة حتى النهاية. وخلصت الدراسة إلى إن فوز الإسلاميين بأغلبية البرلمان (قبل حله)، وحتى بعد فوزهم بمنصب الرئيس واستعدادهم للتفاهم مع العسكريين لن يؤدى إلى عودة الاستقرار سريعا فشرعية المطالب الاجتماعية وروح التحرر التى ميزت الميادين وفى القلب منها ميدان التحرير لن تعطى لأية جهة القدرة على تهدئة ثورة بدأت ولم تنته من أجل تحقيق شعارها الأول: حرية، كرامة، عدالة اجتماعية. ولن يتمكن الإسلاميون ومعهم العسكريون من الحكم إلا بتلبية هذه المطالب أو على الأقل الحد الأدنى منها والبديل الآخر هو استخدام الترهيب الدينى والقمع الأمنى بأعنف صوره لاستعادة السيطرة على الأمور وإن كان من المشكوك أن تنجح هذه السياسة أيضا فى ظل انكشاف الأنظمة القمعية سريعا أمام الضغوط الدولية وفى ظل هذه القدرة على الصمود التى ميزت شوارع الثورات العربية ولا تزال.