فى لحظة طال انتظارها، يقترب موعد افتتاح المتحف المصرى الكبير، أكبر صرح مكرّس للحضارة المصرية القديمة فى العالم، ليعيد تعريف الجمهور المحلى والعالمى بعظمة هذه الحضارة، لا عبر تماثيل الملوك والنقوش الهيروغليفية وحدها، بل أيضًا من خلال تفاصيل الحياة اليومية التى شكّلت روح المصرى القديم. ومن بين هذه التفاصيل المدهشة، تبرز علاقة المصريين القدماء بالقطط، تلك الكائنات التى لم تكن مجرد حيوانات أليفة، بل كانت رفيقة مقدسة حظيت بمكانة استثنائية فى المجتمع والدين والفن، حتى بلغت مكانتها حد التقديس والتمثيل الإلهى. تكشف الجداريات الفخمة، والتماثيل البرونزية، والمجوهرات الدقيقة، عن مدى حب المصريين للقطط واحترامهم لها، إذ كانت تحظى بالدلال والحماية إلى درجة أن قتل قطة كان يُعد جريمة كبرى يُعاقب مرتكبها بالإعدام، واستمر هذا التبجيل قرونًا طويلة، من العصور الفرعونية إلى البطلمية والرومانية، حتى انحسر مع انتشار المسيحية فى القرن الرابع الميلادى، لتعود القطط تدريجيًا إلى مكانتها كرفيقة منزلية تحمى البشر من الآفات. يقول الدكتور مجدى شاكر، كبير الأثريين بوزارة السياحة والآثار، إن المصرى القديم أطلق على القطة اسم «البَسّة»، وهو الاسم الذى لايزال متداولًا حتى اليوم، بينما كانت الإلهة «باستت» أشهر رموز القطط المقدسة، ووُجد معبدها فى «تل بسطة» بمحافظة الشرقية، والذى وصفه المؤرخ الإغريقى هيرودوت فى القرن الخامس قبل الميلاد بأنه من أجمل المعابد التى رآها فى حياته. وأشار «شاكر» فى تصريحات ل«أيقونة» إلى أن هذا المعبد كان يحتضن مهرجانًا ضخمًا يشارك فيه ما يقرب من 700 ألف شخص، يتخلله الغناء والرقص والموسيقى والرحلات النيلية، إضافة إلى استهلاك كبير للنبيذ احتفالًا بالإلهة. ويؤكد «شاكر» أن المتحف المصرى الكبير خصص قاعة كاملة للقطط المحنطة وتماثيلها، تقديرًا لمكانتها فى الحضارة المصرية القديمة، ويُرجع ذلك إلى دورها العملى فى مكافحة الفئران والحشرات التى كانت تُهدد الزراعة، وهو ما يفسر تقديس المصرى القديم لكل ما يحمى محصوله أو يساعده فى العمل الزراعى، مثل البقرة «حتحور» والكوبرا التى كانت تلتهم القوارض. ويرى «شاكر» أن تخصيص قاعة للقطط فى المتحف خطوة رمزية مهمة، تجمع بين البعد الإنسانى المتمثل فى الرفق بالحيوان، والجاذبية البصرية التى ستشد الزوار، خصوصًا الأطفال ومحبى القطط. ومن الأدلة الأثرية على ارتباط المصرى القديم بالقطط، اكتشاف مقابر للقطط المحنطة فى منطقة سقارة، وتحديدًا فى مقابر «البوباسطيون»، التى سُمّيت بهذا الاسم نسبة إلى الإلهة «باستيت» المعبودة فى تلك المنطقة. ومن أشهر الاكتشافات تابوت حجرى فاخر يعود إلى نحو عام 1350 قبل الميلاد، حيث دفن الأمير تحتمس، الابن الأكبر للفرعون أمنحتب الثالث، قطته المحبوبة فى تابوت مزخرف لترافقه فى الحياة الأخرى كما كانت فى الدنيا. ويضيف «شاكر» أن مكانة القطط كانت رفيعة إلى حد أن وفاة قطة فى البيت كانت تُقابل بالحزن والحداد، إذ كان أفراد الأسرة يحلقون حواجبهم تعبيرًا عن الفقد. كما أن من يقتل قطة عمدًا كان يُعاقب بالإعدام أو بالسجن، ويتابع: «نقول اليوم إن القطة بسبع أرواح، أما المصرى القديم فكان يعتقد أن لها تسع أرواح، إعجابًا بقدرتها على النجاة من السقوط والهبوط واقفة على قدميها، فضلًا عن رؤيتها الحادة فى الظلام». ومن الطرائف التى تكشف عمق هذا التقديس، ما جرى عام 525 قبل الميلاد عندما غزا الملك الفارسى قمبيز الثانى مصر. فخلال حصار مدينة الفرما، استخدم الفرس القطط فى مقدمة صفوفهم ورسموا صورها على الدروع، فتردد الجنود المصريون فى مهاجمتهم خوفًا من إيذاء الكائنات المقدسة وجلب غضب «باستيت»، مما سهّل سقوط المدينة فى أيدى الفرس. ويشير «شاكر» إلى أن هذا التقديس لم يمنع المصريين من استخدام بعض أجزاء القطط فى الطب، مثل أمعائها فى خياطة الجروح، مؤكدًا أن «القطط ظلّت جزءًا من البيوت المصرية على مر العصور، وظلت رمزًا للحميمية والأنس». وتروى أسطورة الخلق المصرية أن القطط كانت موضع احترام لأنها تجمع بين اللين والقوة، فهى صيادة شرسة ومدافعة عن صغارها، وفى الوقت ذاته حنون ولطيفة. لذا، ارتبطت الإلهة «سخمت» – إلهة الحرب وحامية الفراعنة – برأس لبؤة ترمز للقوة، بينما مثّلت «باستت» الوجه الحنون ذاته، برأس قطة أليفة بعد أن تم تدجين القطط وارتباطها بالحياة المنزلية. وكانت «باستت» تُبجَّل كإلهة الأمومة والخصوبة والأسرة، تُستدعى أثناء الولادة لحماية النساء والأطفال من الأرواح الشريرة والأمراض، تمامًا كما تحمى القطة صغارها. ولتكريمها، نحت المصريون القدماء آلاف التماثيل على هيئة قطط، من أجملها تمثال «قطة جاير أندرسون» المعروض فى المتحف البريطانى، المزينة بأقراط ذهبية وحلقة أنف، والمصنوعة بدقة فنية مذهلة تعكس فخامة القطط الملكية التى كانت تزينها المجوهرات الذهبية والمعادن الثمينة. ورغم تحريم قتل القطط، فإن آلاف القطط كانت تُضحّى بها طقسيًا فى معابد «باستيت»، وتُحنّط وتُقدّم قرابين. وكشفت حفريات القرن التاسع عشر عن مقابر ضخمة تضم أعدادًا هائلة من مومياوات القطط، لفّ بعضها بعناية بأقمشة مزخرفة ورؤوس مطرزة، فيما وُضع البعض الآخر داخل توابيت مزخرفة وفق طقوس «كتاب الموتى». أما القطط المنزلية، فقد كانت تُدفن مع أصحابها فى مقابر خاصة، حيث عُثر على رفات قطط حظيت برعاية وحنان حتى لحظاتها الأخيرة.