منذ قرون قال الرأى العام العالمى رأيه فى تفوق المدرسة المصرية فى «تلاوة القرآن»، فالعالم كله عرف هذه المقولة ويرددها منذ زمن طويل: «القرآن نَزل فى مكة، وطُبع فى اسطنبول، وقُرِئَ فى مصر»، فى إشارة لا تخطئها عين، إلى عظمة هذا الفن التلقائى الأكثر تعبيرًا عن الروح المصرية، متعددة الطبقات والثقافات والتجليات، حيث عرف المصريون فى لحظة مبكرة جدّا من التاريخ الإنسانى، وقبل غيرهم من شعوب المنطقة، الثقافة الموسيقية بمعناها الدقيق، منذ العصور الفرعونية القديمة، كما عرفوا التراتيل والأنغام القادمة من الثقافة الروحية القبطية، كما تشبعت تلك الطريقة المصرية فى تلاوة القرآن بالانتشار الهائل للقراءات القرآنية فى ساحات التعلم فى «الجامع الأزهر»، الأمر الذى وفّر مناخًا خصبًا لنمو هذا الفن، أواخر القرن التاسع عشر. فن التجويد وعبر رحلة جاوزت قرنًا ونصف القرن تقريبًا، تميزت مدرسة التلاوة المصرية بعدة خصائص لازمة، على رأسها الحفظ التام للقرآن، والدراسة الدقيقة لفن التجويد من إدغام وإظهار وتنوين ومد وغيرها من أحكام التلاوة، بالإضافة إلى الفهم العميق والشامل للمقامات الموسيقية، من دون الإخلال بأى منها، مستندين إلى دلائل من السُّنة، تتفَّهم قيمة «الغناء فى تلاوة القرآن»، للمساهمة فى بسط معانيه وتسهيلها على أفهام السامعين، اعتمادًا على صحة الحديث الشريف الذى رواه البخارى: «ليس منّا مَن لم يتغنّ بالقرآن». الحق أن الثقافة المصرية عرفت دائمًا وأبدًا هذا الفهم العميق والواسع لروح الثقافة الإسلامية، ما ساعد فى تمصير كثير من معالمها، ووفق المفكر الراحل جمال حمدان فإن مصر لم تتحول من نافورة حضارة إلى بالوعة حضارة؛ بل إلى «بوتقة» تصهر كل حضارة جديدة، وبينما تعبر أصوات المقرئين القادمين من مناطق عربية أخرى، عن تلك الروح الصحراوية الخشنة، التى تتعامل مع قراءة القرآن بعُجالة، حيث «لا وقت للتجويد»، نجد أن المدرسة المصرية فى التلاوة تعبر عن حلاوة المناخ المصرى وطراوته وانسجامه مع بيئته الطبيعية السَّمحَة.
ريشة: كريم عبدالملاك
فى الوقت الذى تعبر فيه تمامًا عن قدرة فائقة على إتقان أحكام التلاوة، بعذوبة رقرقة ماء النيل فى ساعات العصارى بطول قرى مصر وعرضها، حيث من المُستحب الاستماع إلى تجويد بعض الآيات القرآنية، بصوت أحد المقرئين المصريين العظام، وما أكثرهم. لعل الوجدان المصرى الذى أنتج فنّا مثل «الإنشاد الدينى» وحافظ على قوامه لقرون طويلة، فى سياق التمدد الصوفى فى مصر، أنتج وحافظ أيضًا على نمو وتطور فنون التلاوة المصرية، جنبًا إلى جنب نمو تجربة الموسيقى والغناء فى مصر، وليس غريبًا أن نعود بالذاكرة إلى أوائل القرن العشرين، لنجد مؤسسة الأزهر الشريف لعبت دورًا مركزيّا فى الحفاظ على المدرسة المصرية فى التلاوة، «خصوصًا فى تدريس القراءة والتجويد»، كما لعبت دورًا كبيرًا فى تطور فن الموسيقى، فأهم عبقرية موسيقية فى تاريخ مصر الحديث هو نفسه «الشيخ سيد درويش»، الذى التحق بالمعهد الدينى فى مدينة الإسكندرية عام 1905، ثم انتقل، بكل بساطة، إلى العمل فى الغناء والتلحين، ليصبح باعث النهضة الموسيقية فى مصر، كما أن دورًا مهمّا ولا يمكن نسيانه، لعبه فريق من عباقرة الموسيقى من الأزهريين، مثل الشيخ سلامة حجازى والشيخ زكريا أحمد والشيخ أبوالعلا محمد، هؤلاء أبناء «الانتلجنسيا» المصرية، الذين درسوا علوم الأزهر الفقهية والشرعية، لكنهم تعلموا، إلى جوار ذلك، فنون الموسيقى والغناء، وباتوا يشكلون رافدًا ثقافيّا عميق الجذور، مد دولة التلاوة المصرية بأسباب كثيرة للنجاح والتميز.
ريشة: هبة المعداوى
الثابت تاريخيّا، أن الوجدان المصرى أعاد نهاية القرن التاسع عشر اكتشاف كثيرٍ من عناصر قوته ومقوماته الإبداعية، فى مواجهة المستعمر الأجنبى، الذى ادَّعى أن «الثورة العرابية» سببٌ كافٍ لاحتلال مصر عسكريّا ودخول أراضيها (1882)، ساعتها باتت الثقافة الروحية المصرية على محك المستعمر المخالف فى الدين والذى يُريد أن يمحو آثار الروح المصرية ومقوماتها، لتسهل سيطرته على خيرات الأرض، الأمر الذى يجعلنا نطالع بدء اهتمام المصريين، لا بفن «التلاوة القرآنية» فقط؛ بل بكثير من الفنون الأخرى، سواء المرتبطة منها بالدين أو المرتبطة بالحياة العامة، مثل الغناء والموسيقى والمسرح، وقد كانت هذه اللحظة من تاريخ مصر، بداية القرن العشرين، مفرخة واسعة للفنون من كل الأنواع، حيث ازدهرت السينما وتأسست دور العرض الخاصة، كما انتشرت الصحف على نطاقٍ واسع، وظهر رموز الفن التشكيلى المصرى، وبعدها بسنوات بدأ أديبنا الكبير الراحل يحيى حقى ورفاقه نشر قصصهم ورواياتهم الأدبية فى الصحف منتصف العشرينيات من القرن العشرين، قبل أن يبدأ عصر الإذاعات الأهلية، التى مهَّدت السبيل لتأسيس «الإذاعة المصرية» فى الثلاثينيات من القرن ذاته، حيث لعبت هذه المؤسسات جميعًا دورًا بارزًا فى تألق دولة التلاوة المصرية، قبل أن تصل إلينا بداية القرن الواحد والعشرين. بداية التأسيس وفى حين وُلِدَ شيخ القراء المصريين ومؤسس دولتهم الحديثة، الشيخ محمد رفعت (1882 -1950)، الملقب «بقيثارة السماء»، فى حى المغربلين بالقاهرة، لأبٍ يعمل مأمور «قسم شرطة الخليفة»، إلا أننا نستطيع أن نتلمس من حكايته الشخصية بداية تأسيس دولة التلاوة المصرية، فى مواجهة الغزو الاستعمارى الغربى، كونه وُلِدَ فى العام الذى دخل فيه الاستعمار البريطانى، من ناحية، وكان أول من أسس مدرسة للتجويد فى مصر والذى تمتع دائمًا بأسلوب قراءة يعمل على تجسيد المعانى الظاهرة للقرآن الكريم، فضلا عن إمكانية الوصول بالمعانى إلى مناطق تجلٍ للمستمع الواعى، فقد كان الشيخ رفعت، وهكذا فعل تلاميذه، مهتمّا بمخارج الحروف، ويبدأ الترتيل بهدوء وبعدها يعلو صوته «عاليًا» ليمس القلوب، حيث تمتع بصوت رخيم، يستطيع أن ينتقل من قراءة إلى أخرى ببراعة وإتقان نظرًا لدراسته مقامات موسيقية مختلفة وكان يستطيع أن ينتقل من مقام إلى آخر، من دون أن يشعرك بالاختلاف.
لكن رحيل الشيخ رفعت، منتصف القرن العشرين، جسَّد لحظة فارقة فى دولة القراءة المصرية، فبينما يرحل مؤسسها الأول كان جيل الوسط بقيادة الشيخ أبوالعينين شعيشع بدأ يعلن عن ظهوره، حيث تتلمذ الرجل على يد الشيخ رفعت، وبات واحدًا من أميز تلاميذه، بينما ظهر جيل جديد من القراء، ففى هذه اللحظة جلجل صوت شيخ شاب قادم من أرمنت فى محافظة قنا، هو الشيخ عبدالباسط عبدالصمد، فى مسجد السيدة زينب، حيث أحيا ليالى رمضانية عدة، ثم طلبت منه الإذاعة المصرية تسجيل القرآن بصوته، معلنًا عن مرحلة أكثر جمالا وتوهجًا فى مدرسة القراء المصرية. تضم هذه المدرسة العديد من الأسماء البارزة، يمكن اختصارها فى خمسة أقطاب، هم: الشيخ محمود على البنا، والشيخ محمود خليل الحصرى، والشيخ مصطفى إسماعيل، والشيخ صديق المنشاوى، بالإضافة إلى الشيخ عبدالباسط عبدالصمد، صاحب «الحنجرة الذهبية»، الذى خصصت له الإذاعة المصرية فى عقد الخمسينيات من القرن الماضى، نصف ساعة أسبوعيّا، «الثامنة مساء كل سبت»، حيث عشق المصريون والعرب صوته، وبات علامة مصرية بارزة فى قراء القرآن، جعلته الأشهر على مستوى العالم، فقد قرأ الشيخ عبدالباسط فى أغلب مساجد العالم، من أمريكاالجنوبية والشمالية إلى أوروبا وآسيا، وقرأ فى المسجد الأموى بدمشق، كما قرأ فى جنوب أفريقيا، وحقق بذلك شُهرة عالمية، جعلت الصوت المصرى نبراسًا لشباب العالم الراغب فى قراءة القرآن، حتى تم اختياره أول نقيب للقراء المصريين سنة 1984، قبل أن يرحل بأربعة أعوام. المحطة الأهم ومن بين كل المؤسسات المصرية التى لعبت دورًا فى انتشار دولة التلاوة المصرية، تأتى الإذاعة المصرية، التى تم افتتاحها بصوت الشيخ محمد رفعت، عام 1934، فى طليعة الأدوات التى سهَّلت مهمة القراء المصريين، خلال النصف الأول من القرن العشرين، حيث كانت الإذاعة المصرية هى الأولى والوحيدة فى العالم العربى، وصارت مثلا يُحتذى به فى الإذاعات العربية التى تأسست فيما بعد، وأصبحت أصوات القراء المصريين معروفة عربيّا وإسلاميّا، بسبب انتشار الإذاعات وتطور طرق التسجيل الصوتية، إلى الحد الذى أصبح معه صوت القارئ المصرى «علامة تجارية»، خاصة بتلاوة الشيخ عبدالباسط عبدالصمد الشهيرة فى المسجد الأموى، أو فى المسجد الأقصى، قبل الاحتلال الإسرائيلى. ومن بين أبرز ملامح المدرسة المصرية فى تلاوة القرآن الكريم، أن مصر عرفت لعقود طويلة قارئات القرآن من النساء، تمامًا مثلما عرفت القراء الرجال، ففى بداية القرن العشرين كان هناك عدد حافل من الأصوات النسائية المعنية بقراءة القرآن وتجويده. ورُغم أن دورًا كبيرًا بُذل، من أجل تأسيس نقابة للقراء المصريين، تكون فى خدمة هؤلاء الذين يعملون فى حقل التلاوة، ورُغم نجاح جهود عدد من كبار القراء، ومنهم الشيخ عبدالباسط عبدالصمد، الذى اختير بالإجماع أول نقيب للقراء المصريين؛ فإن المسار الذى اتخذته الأحداث فيما بعد، بات يعكس التغير الذى عاشه جزء من أبناء المجتمع المصرى فى عقدىّ السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، وترك آثارًا سيئة على أوضاع نقابة القراء. لقد انفتح المجتمع المصرى على الثقافة الصحراوية انفتاحًا واسعًا، فى عقدىّ السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، حيث لجأ ملايين المصريين إلى البحث عن «فرص عمل» فى الخليج، ما أدى إلى انتشار هذه الثقافة التى كان أبرز سماتها أصوات لقراء القرآن، وزاد الأمر سوءًا بأن انتشرت أصوات عربية داخل الثقافة المصرية، ما أدى إلى تراجع مبيعات القراء المصريين، حتى داخل مصر، الأمر الذى كان ولا يزال يستدعى من الدولة التحرك فورًا لإنقاذ «قيثارة السماء» المصرية من الانهيار، كونها واحدة من أهم عناصر القوة الناعمة المصرية وأكثرها تأثيرًا فى المحيطين العربى والإسلامى. والحق أن «نقابة القراء المصريين» لم تكن كغيرها من النقابات المصرية قادرة على فعل الكثير، أمام هجمة ثقافية شرسة إلى هذا الحد، الأمْرُ الذى أضعف دورها وتأثيرها، إلى درجة أنها باتت عرضة للانهيار كنقابة، بسبب الخلافات الهائلة التى تعيشها حاليًا. وهكذا تستغيث «قيثارة السماء» طلبًا للدعم من أهل الأرض.