سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
ذات يوم.. 18 أكتوبر 2006.. وفاة الكاتب المفكر محمد عودة.. «الفقير» الذى اغتنى بلمة المريدين ومؤلفات ومواقف تحمل أمانة الكلمة وضميرا يقظا لم تخترقه أى إغراءات
فرحت والدة الكاتب، المؤرخ، المفكر، محمد عودة بقرار ابنها بالعودة إلى «الجذور» والبدء من حيث نشأ فى قرية «جهينة» مركز فاقوس، محافظة الشرقية للعمل بالمحاماة، وامتدت فرحة الأم إلى الأب، حسبما يذكر عن سنوات تكوينه فى مجلة «الهلال»، عدد مايو 1990. يتذكر عودة: «أصبح الأب مزهوا لأن فى البيت أستاذ، ويقرع الناس الباب فى الصباح أو المساء لاستشارة قانونية أو حضور تحقيق أو التوكيل فى قضية، طبعًا بلا أتعاب، وقبل كل شىء دراسة قضاياه ومشاكل شيخ البلد، واستمر «عودة» فى العمل محاميا ثلاث سنوات، لكنه وفى رحلة البحث عن ذاته يعترف: «تمنيت أن أحذفها تماما من سجل حياتى، وأفلحت بعد عناء كبير أن أدفع بها إلى أعمق أغوار السرداب المظلم المعتم، حيث يختزن الإنسان كل مرارات الفشل وعذابات وسقطات وسوءات حياته عامة». تبقى «محطة المحاماة» فى حياة «عودة» هى الفاصل بين ما كان وما سيكون فى رحلة هذا الإنسان النادر فى تاريخ الفكر المصرى، والمولود فى «جهينة» يوم 10 يوليو عام 1920، والمتوفى فى القاهرة يوم 18 أكتوبر- مثل هذا اليوم 2006، «بعد أن قضى شهره الأخير فى العناية المركزة بمستشفى «قصر العينى»، وفى خلال هذا الشهر كان تلاميذه وأصدقاؤه ومريدوه يتوقعون خبر موته بين لحظة وأخرى، لكنهم فى نفس الوقت يمنون أنفسهم بمعجزة ربانية تبقيه كى يواصل شحن بطاريات الأمل عندهم كما تعودوا، هذا الأمل الذى يستمده هو من «إيمانه المتفائل بمصر التى لا تضيع أبدا رغم الكوارث والزلازل والانكسارات» بوصف صديقه الكاتب الصحفى يوسف الشريف فى كتابه «صعاليك الزمن الجميل». يعيد صديقه الكاتب والمترجم محمد الخولى سبب طاقة عودة الهائلة فى التفاؤل إلى «استقراء عودة الدقيق ووعيه العميق بحركة تاريخ أمة العرب ودنيا الإسلام وحركات التحرر فى العالم الثالث».. يضيف «الخولى» فى كتابه «كتب فى حياتهم»: «يؤمن عودة بمقولة الشاعر التركى الكبير ناظم حكمت أن «سيكون غدنا أفضل من يومنا، وأن أروع الأعمال لم ننجزها بعد». أثمر وعى محمد عودة بحركة التاريخ عن انحيازه الفكرى والسياسى إلى ثورة 23 يوليو1952 وقائدها جمال عبدالناصر، ومؤلفات رائدة تنقب عن التأصيل التاريخى لهذه الثورة، وتدافع عنها فى مواجهة حملات الهجوم عليها بعد رحيل قائدها فى 28 سبتمبر 1970، ومن هذه المؤلفات «أحمد عرابى والثورة العرابية، 7 باشوات يحكمون مصر، ليبراليون وشموليون، ميلاد ثورة، كيف سقطت الملكية فى مصر، الصين الشعبية، رحلة فى قلب نهرو، الطريق إلى صنعاء، قصة مصر والسوفيت، الوعى المفقود «ردا على توفيق الحكيم فى كتابه «عودة الوعى»، الباشا والثورة، قصة الحزبية فى مصر، اللورد كرومر فى مصر» وغيرها من المؤلفات الأخرى. كتب «عودة» هذه المؤلفات بعقله وقلبه، وحالة لا ينفصل ظاهرها عن باطنها، بتأكيد الكاتبة عايدة الشرف التى تصفه فى كتابها «شاهدة ربع قرن» قائلة: «لا يختلف ظاهره عن باطنه، فهو يحمل ضميرا لا تستطيع أعتى موجات المناصب والإغراءات اختراقه، لذلك يعمل له رجال السياسة ألف حساب لرأيه الصريح دوما فى توجهاتهم ومواقفهم أو تراجعاتهم على البعد ومن دون الاقتراب منهم»، تضيف: «شخصية لها صفات تشبه صفات الضمير، قد لا تظهر على السطح أحيانا، وإنما تختفى فى أعماق وتتحرك فى مواجهة كل التصرفات الخاطئة والمعوجة على السطح». كان عبقريا فى الجمع بين «حب الحياة» و«أمانة الكلمة»، ولهذا عاش كالمغناطيس يجذب كل من حوله، ويؤثر فيهم بعمق، ويؤكد محمد الخولى: «كان يرى دوما أن مكانه هو الأسواق والساحات حيث حركة الناس وإيقاع الشارع»، ويذكر الكاتب محمود السعدنى فى كتابه «مسافر على الرصيف»: «محمد عودة واحد من المثقفين المصريين الذين سبحوا فى علوم الغرب، وأغلب قراءاته باللغتين الإنجليزية والفرنسية، ومع ذلك لم يبحر بعيدا عن شواطئ مصر، ولم تنقطع خيوطه بقاع المجتمع، فى الحارة وفى القرية، بالرغم من أنه كان يعيش فى وسط القاهرة وفى أرقى أحيائها، وينزل فى بنسيوناتها وفنادقها الصغيرة». تقول عايدة الشريف: «قد لا تشدك إليك هيئته، ولكن سحر شخصيته يسرى إليك، فلا تستطيع الفكاك منه مهما كنت بعيدا عنه، كان ملتقى الخيوط الثقافية والسياسية والفنية والاجتماعية فى تشابكها وافتراقها وتمزقها وايجابياتها، كان همزة الوصل بين مجالس الأفاضل والصعاليك على السواء بالمعنى الجيد لهذه الكلمة، وكان محط آذانهم وأبصارهم، بل كان هو البوصلة التى تحرك الحوار يمينا ويسارا، وإذا كانت لكل كاتب سمات مميزة، فإن كل السمات المتناقضة بين الأبيض والأسود هى ميزات عودة، وتستطيع أن تقول عنه وأنت مرتاح البال، إنه كان إيجابيا وسلبيا فى آن واحد، ثائرا وفوضويا، متواضعا ومتكبرا، كريما وبخيلا، لاه وجادا، علمانيا وغيبيا، إلى جانب كونه مخلصا وغادرا حسب الظروف». توضح: «لا تدل هذه الأوصاف جميعها على تناقض، بل عن انسجام وتكامل فى شخصيته، ذلك أن أيا منها تكتب مصداقيتها عندما تتبدى فى إطارها الزمنى وظروفها الموضوعية، لأنها تجسد الحقيقة بعينها والمقنعة فى حينها، لذلك يقولون: يا حظ من جاء عودة معه، ويا ويل من كان عودة ضده».