اسمها حنان شومان، تكتب مقالات الرأي في إحدى الجرائد. بالرغم من افتقادها للانتشار الواسع، إلا أنها بدأت في الظهور مؤخرا، في بعض برامج الحوارات التلفزيونية، بأداء مسرحي يعطي انطباعا بالحكمة، والثقافة، والقلق علي حال البلد. بالإضافة إلي كونها أما مصرية، عصرية، ودودة، وديمقراطية. صراع الميادين: حالة القلق التي تملكت حنان شومان علي البلد ومصيرها، جعلتها تتخلي عن اللغة العربية الفصحي، فقالت قبل يومين، وبانفعال: (حرام عليكوا البلد.. حرام عليكوا.. تعالوا نجيب بتوع العباسية وبتوع التحرير ويتقابلوا مع بعض في ميدان رمسيس) كان هذا هو حلها لما أسمته هي، ويسميه الكثيرون، بحالة الاستقطاب المسيطرة علي مصر حاليا. ربما تبدو حالتها كتفصيلة صغيرة – الثورة المصرية نفسها لا يمكن فهمها بعيدا عن التفاصيل الصغيرة – إلا أنها مثال جيد على النوعية الجديدة من المحاورين الذين يتم تصديرهم في الإعلام المصري مؤخرا، للحديث عن الثورة، ويسمونها بالأزمة السياسية. هذه النوعية الجديدة غير المحروقة، تحاول التوفيق بين الحكمة والثورة. ووفقا لهؤلاء فإن هناك أزمة تتمثل في أن الشعب قد وقع في أسر المتطرفين من الجانبين.. طرف يعتصم ويتظاهر ويتم قتله في ميدان التحرير. والطرف الآخر يتم استدعاؤه، للتظاهر المؤقت، في حماية الشرطة والجيش في ميدان العباسية. أما ميدان رمسيس، الذي يقع في المنتصف بين الميدانين، فيظل محطة هائلة لمن هم خارج الاستقطاب، أي الشعب. تشكل ميدان التحرير وتبلورت رمزيته خلال الأيام الأولي من الثورة. أما فكرة خلق ميدان جديد، مواز لميدان التحرير، وينافسه فى المشروعية الشعبية، ليتصور المواطن/مشاهد التلفزيون أن الشعب منقسم، وأن هذا الانقسام هو الخطر المدمر بعينه، ليست جديدة.. بل ترجع لهذه الأيام ذاتها، حين أبدع رجال مبارك تجمعات ميدان مصطفي محمود، كمواجه لميدان التحرير. وفشلت المحاولة بعد أن تبلور كملتقي للمرتزقة والبلطجية، الذين تورطوا في موقعة الجمل الشهيرة يوم 2 فبراير. فيتحول بعدها لأحد الميادين التي تخرج منها المظاهرات لإسقاط النظام، متجهة للميدان المركزي الرمزي، ميدان التحرير. بحثت السلطة العسكرية بدورها عن ميدانها لمواجهة الثورة، بعد أن قامت بالتضحية بمبارك. لم تجده، حتي منحها “الشعب” هذه الهدية فيما عرف بموقعة العباسية يوم 24 يوليو. خرج يومها الثوار من ميدان التحرير، متجهين لوزارة الدفاع. حين وصلوا لميدان العباسية، وجدوا كماشة الجيش والأهالي تحاصرهم وتهاجمهم.. الأهالي مشحونون ضد “ناس التحرير”، نتيجة لعملية الدعاية والتعبئة التي قادها اللواء الرويني، أحد أعضاء المجلس العسكري، والمعروف ب”لواء الإشاعات”، محذرا سكان وتجار العباسية من المخربين الأتين من التحرير، وأنهم سيحرقون بيوتهم ومتاجرهم أو سيحتلونها، فقاموا بضرب الثوار وقتل أحدهم. هذه الموقعة التي بدأت بين شعب خائف علي بيته الشخصي، وشعب آخر يأتي من التحرير، وخائف علي ثورته، أوجدت للمجلس العسكري رمزية العباسية، ليبدأ استخدامها كمركز ثقل مواز ومواجه للتحرير. وبغض النظر عن نوعية من يتم استدعائهم للعباسية، وطبيعة علاقتهم بالجيش، يبدو الأمر وكأن الشعب منقسم، مستقطب سياسيا، ويفتقد لحالة الإجماع التي تحققت قبل إسقاط مبارك.. وكأن هذا الإجماع قد وجد يوما. الشعب الثوري الموحد: لن أتساءل عما سيحدث إن تحقق لقاء ميدان رمسيس بين الميدانين، ولن أتساءل إذا كان من الممكن وجود شعب موحد ويعيش حالة ثورية. إلا أنه ينبغي التوقف عند مسألة أنه بالرغم من وجود حالة من القبول الشعبي لإسقاط مبارك، خلال الأيام الثمانية عشر الأولي من الثورة، فأن هذا الشعب لم يكن من الممكن تسميته بالشعب الموحد. وقفت وقتها القوي السياسية والقطاعات الثورية من الشعب في الميادين. بينما في دوائر صنع القرار، سواء كانت عسكرية أو مدنية، كان الهدف هو تقليل حجم الخسائر إلي أقل قدر ممكن. بينما جلست الأغلبية في المنازل، لتشاهد معركة دموية، تلفزيونيا. ربما تتعاطف مع هذا الطرف أو ذاك، لكنها لا تستطيع ترجمة هذا التعاطف إلي انحياز وفعل. حتي الميدان نفسه كان واعيا بأن وحدته مؤقتة. وقد انفرطت بالفعل، وبشكل طبيعي، يوم 11 فبراير مع رحيل المخلوع. أما الآن، وبعد أحد عشر شهرا من الثورة، يظهر خطاب الوحدة ورفض الاستقطاب لإجهاض الثورة ذاتها، أو لتقليل أفقها. بالرغم من الوعي السائد بأن حالة (كلنا سوا) قد انتهت، وإلي الأبد. خرج الأخوان المسلمون من لعبة الثورة إلي لعبة السياسة والمشاركة في السلطة، والتحالف التكتيكي مع مجلس مبارك العسكري، ومعهم القطاع الغالب من الإسلاميين. أما الطبقة الوسطي غير المنطوية تحت العباءة الإسلامية، ومعها نشطاؤها الديمقراطيون، بأحزابهم القديمة والجديدة، فقد خرجوا أيضا من المعركة، حين تصوروا أنه بخروج مبارك من السلطة قد تحققت مطالب الثورة. وتحالف أغلبهم مع خطاب الحكمة بقيادة المجلس العسكري، في مواجهة خطاب التجذير، الذي تتبناه بعض الشرائح الدنيا من المجتمع المصري. وبدورها فوجئت الشرائح الدنيا بقدرتها علي تحقيق انتصارات تاريخية، وحياة أفضل لأبنائها، عبر استكمال هذه الثورة في كل المجالات، وبالذات علي المستويين الاقتصادي والاجتماعي، وهما محورا حالة الفرز المنطقي والصحي، والذي يتطور الآن. استكمال الاستقطاب والثورة: الإخوان المسلمون واعون بذاتهم كبديل لسلطة مبارك، وليس نظامه. يسوقون مشروعهم السياسي باعتباره يجنب النظام الخطر والانفجارات الاجتماعية. ويشهرون في وجهك الشرعية البرلمانية والانتصار الانتخابي. وكأن عدد الأصوات التي وضعت في الصندوق هي ترجمة صادقة لموازين القوي السياسية. المجلس العسكري يشهر في وجهك سلاح الجيش، وسطوة النظام الذي لم يسقط بعد، واستفتاء مارس الذي يصوره باعتباره استفتاءا علي شرعيته. والأهم أنه يشهر سلاح القبول الدولي به باعتباره ضمانة الانتقال الديمقراطي المحدود. الأحزاب القديمة وبعض الجديدة، وقطاعات واسعة من النخب الثقافية والإعلامية والسياسية، ذات الصوت المرتفع، لا تري أصلا أن ما حدث ثورة، برغم ترديدها الدائم للمصطلح. وتحاول أن تجد لنفسها بعض المساحات الأوسع داخل النظام الذي تخلخلت أجزاء منه. وتشهر في وجهك سلاح الديمقراطية بعموميتها، وجاذبية مصطلح الدولة المدنية، دولة حقوق الإنسان، دون تحديد ماهية هذه الدولة. لكن، من هو الطرف الرابع؟ الطرف الذي يقف في الميدان بمعناه الرمزي ومعناه المباشر؟ يتم وصف هذا الطرف أحيانا بالمتمولين، فتنظم حملات التشهير بهم، مثلما حدث مع حركة 6 أبريل، فتفشل المحاولة. يتم وصفهم بعدها بالمتطرفين والداعين إلي العنف، فتبدأ الحملة ضد الاشتراكيين الثوريين، فلا تثبت التهمة، وتفشل محاولات التشويه. فيتم وصف الثوار بأنهم بلطجية أحيانا، وأطفال شوارع أحيانا أخري. الطرف الرابع هو آلاف من الشباب، في أغلبهم فقراء، الذين بدأت علاقتهم بالسياسة مع 25 يناير، وهم مصرون علي استكمال هذه الثورة. يقف بين صفوفهم بعض القوي السياسية الديمقراطية الجذرية واليسارية، وبعض القوي النقابية والعمالية، التي تتمثل أساسا في اتحاد العمال المستقل، بالإضافة إلي عشرات المجموعات الصغيرة، والائتلافات الشبابية، واللجان الشعبية. هذا الطرف الثوري، طرف الميدان، يعلم مثل الأطراف الأخري أن المعركة لم تحسم بعد، وأن هذه الثورة سوف تمتد لسنوات، وأنها ستشهد هزائم وانتصارات لكل الأطراف، حتي يحقق أحدها الانتصار الحاسم علي الأطراف الأخري، بالنقاط، أو بالاحتلال التدريجي للمواقع. وهنا تحديدا يكمن السر.. حرب المواقع، سواء في المعارك الصغيرة، أو بعض المعارك الكبيرة. يعلم الميدان أن إحدى نقاط ضعفه الأساسية تكمن في أن قطاعات مجتمعية تشاركه الشوارع حين تتصدي له الشرطة. لكنها لم تفعل نفس الشئ حين جاءت الضربات والانتهاكات وعمليات القتل والتنكيل وتعرية الفتيات من قبل الجيش، بل نظرت هذه القطاعات إلي الناحية الأخري وتجاهلت ما يحدث. لماذا؟ ربما تأتي الإجابة من كتالوج الاحترام التاريخي للجيش المصري، الراسخ في وجدان المصريين، منذ عشرات الأعوام. فجأة، يظهر الجيش علي شاشات الفضائيات كقاتل لمواطنيه! فيبدو التجاهل المؤقت كضرورة لحفظ التوازن النفسي، المؤقت أيضا. يعي الميدان أن التجاهل وتغطية العيون لن يستمرا طويلا، فيعمل علي تصعيد الاحتجاجات الاجتماعية، والتفاعل معها. يعمل أيضا علي تراكم المكاسب في المعارك، سواء اختارها أو فرضت عليه: أن يقتل مينا دانيال والشيخ عماد فيتحولا إلي أيقونات ثورية.. أن تشن حملتان متوازيتان ضد الناشر محمد هاشم لمشاركته اللافتة في الثورة، وضد الاشتراكيين الثوريين بسبب نشاطهم الملحوظ وتواجدهم الميداني، فتفشل الحملتان، وتري هزيمة السلطة وحلفائها وتراجعهما علي الهواء مباشرة.. أن يحبس ويحال للمحاكمة العسكرية الناشط والمدون علاء عبد الفتاح، فيتم كسر شرعية المحاكمات العسكرية، ويخرج من سجنه منتصرا سياسيا، ليعيد التأكيد علي الهدف الأبعد لهذا الانتصار.. إسقاط الحكم العسكري. كل هذه المعارك الصغيرة تأتي بالتوازي مع معارك أكبر، وانتصارات أهم، تحققت خلال الأسابيع الأخيرة، عبر وقوف بضعة آلاف في الشوارع: إسقاط حكومة شرف، كسر هيبة الجنرالات والهتاف العلني بمحاكمتهم وإعدامهم، وتداول الفضائيات لهذا التطور، القبول الأوسع لهدف إسقاط الحكم العسكري وتسليم السلطة فورا للمدنيين، التشكيك في شرعية الانتخابات، جزئيا، وبالتالي شرعية المجلس الذي سينتج عنها، نزع القبول الشعبي عن حكومة الجنزوري وإجبارها علي دخول مجلس الوزراء بعد مجزرة، و”هلهلة” المجلس الاستشاري وتفريغه من مضمونه وإجبار العديد من أعضائه علي الاستقالة.. إلي أخره. علي سبيل الختام.. مرة أخري، الشعب يريد: قال القائد الإخواني محمد البلتاجي، قبل شهور، أنه من الضروري ألا يكون ميدان التحرير مكانا للاحتجاج، إلا في حالة الإجماع الوطني!!! بكلمات أخري: لا يحق لك عزيزي الثوري التظاهر في التحرير إلا إن شاركك الإخوان المسلمون في مطلبك. عليك أن تبحث عن مكان آخر، وبالتالي ستكون معبرا عن وجهة نظر في مقابل وجهة نظر أخري. وهو ما يعني أن حالة (الشعب يريد) هي الحالة الثورية الوحيدة، أو أنها مازالت ممكنة. يعلم البلتاجي وتياره ومعهما المجلس العسكري، أن هذه الحالة قد رحلت وانتهت مع مبارك. فمن يبحثون الآن عن الإجماع هم من يجدون في الاستقطاب والفرز الثوريين خطرا. يعلمون أن حجة الإجماع تمنحهم امكانات استثنائية في تعويق الإرادة الثورية وتحجيمها، سواء روجوا لهذا الطريق بلغتهم الشعبية، أو روجوا له بلسان حنان شومان، بشروحاتها المطولة للمشاهدين، وبكلمات إنجليزية، لماهية الاستقطاب والمكارثية. أما الأخرون، ممن يريدون إطلاق المبادرات الشعبية الثورية إلي آخرها، فهم واعون بأهمية هذا الاستقطاب، وبأهمية تنظيف الصفوف. ولا تنفع هنا مزاعم لم الشمل الوطني.. وربما يكون أفق الثورة المصرية هو كسر هذه الفكرة نفسها.. وتعميق سيناريو تناقض المصالح الاجتماعية، والصراع المفتوح بين من يمثلون هذه المصالح. نشر في جريدة السفير اللبنانية يوم 30 ديسمبر 2011 باسل رمسيس [email protected]