كتب:خيرى حسن كتب أول أشعاره وعمره 12 سنة فى رثاء أستاذه مات وعمره 58 عامًا بعد رحلة مرض قضاها فى أمريكا ليعود ويدفن فى الزقازيق كان يذهب للجبهة مع الفنانين ليدعم الجنود فى حرب الاستنزاف كان أبوه من كبار التجار وشجعه على حب الشعر والقراءة والخطابة «ياللى ظلمتوا الحب وقلتوا وعدتوا عليه قلتوا عليه مش عارف إيه العيب فيكم.. يا فى حبايبكم أما الحب.. يا روحى عليه» فى عام 1935 كانت شوارع مدينة الزقازيق، خالية من المارة، وهدوء مدن الأقاليم فى ذلك الزمان، عنوان بارز لها، عدد السكان قليل، لا ضجيج، لا زحام، ولا أبواق سيارات مزعجة تقلق أهالى المدينة، وسط هذه الحالة، ترك الحاج جميل عزيز باب الوكالة مفتوح، فى حراسة العمال، فهو من أكبر تجار المديرية «مديرية الشرقية أو محافظة الشرقية فيما بعد» وعاد إلى بيته للغذاء مع أولاده، سأل عن ابنه «مرسى» قالت الأم: فى حجرته.. قبل أن يجلس الأب على المائدة، تحرك إلى حجرة ابنه، وفتح الباب عليه، فوجده يجلس وأمامه ورقة وقلم رصاص، سأل الأب: هل تذاكر دروسك التى أخذتها اليوم فى المدرسة؟ سكت الطفل قليلاً، بعدما وقف مكانه حتى يرد على أبيه وقال: لا.. ثم بكى، سأل الأب ابنه، ما الذى يبكيك؟ رد: اليوم مات أستاذى الذى يعلمنى فى مدرسة الزقازيق الابتدائية، وأنا الآن أكتب عنه قصيدة رثاء، حضن الأب ابنه وقال له: اكتب ما تشاء، ثم تركه وأغلق عليه باب الحجرة، وعاد ليتناول الغداء مع باقى أفراد الأسرة، عاد الأب وهو يدرك أن ابنه كتلة من المشاعر والأحاسيس. فى اليوم التالى.. ذهب الطفل مرسى إلى مدرسته، يقف فى طابور الصباح وفى يده كلمات الرثاء التى كتبها فى رحيل أستاذه، مدرس اللغة العربية، يلاحظ حالة التوتر والترقب على وجه التلميذ، يقترب منه، يسأله: «ماذا عندك يا مرسى»؟ يرد بهدوء ويقول: معى لمات رثاء، أريد قولها، يبتسم توفيق أفندى مدرس اللغة العربية، ويأخذه من يده، ويصعد به إلى منصة الطابور الصباحى، ويقف «مرسى» -صاحب ال12 سنة- يلقى كلماته الصادقة، المعبرة عن إحساس جارف، ومشاعر ساخنة، كشفت عن ملامح هذه الشخصية مبكراً، بعدما انتهى من إلقاء قصيدته.. وجد نفسه وسط عاصفة من التصفيق هزت جدران المدرسة من طلاب المدرسة، تحية له، وإعجابًا بما كتب. مرت السنون، وتعاقبت الأيام، وكبر الطفل «مرسى»، وكبر بداخله الإحساس المرهف، والمشاعر الجارفة، التى ترجمت بعد ذلك إلى كلمات أغانى عاشت -وما زالت- فى وجدان الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج ومن النهر إلى البحر. فى سلسلة «أبى.. الذى لا يعرفه أحد» توقفت أمام أحد أهم فرسان الأغنية فى مصر والوطن العربى.. الشاعر مرسى جميل عزيز، صاحب ال1000 أغنية، لم يكتب «مرسى» الأغنية فقط، بل إنه كتب القصة القصيرة، والسيناريو والشعر، وضع لنفسه -رغم عمره القصير الذى لم يمتد كثيرًاً- مكانة خاصة وسط المبدعين الكبار، اتصلت بابنه اللواء مجدى - أحد أبطال حرب أكتوبر 1973- واتفقنا على الحوار، فى الموعد المتفق عليه بيننا، ذهبت اليه، مواعيده مضبوطة، كلماته محددة، وحاسمة، وتخرج منه قوية، جلسنا وتحدثنا قليلًا فى الشأن العام، ثم قلت له: لماذا اتجهت إلى الحياة العسكرية.. وأنت ابن فنان ومبدع كبير؟ رد وهو يبتسم: الحياة العسكرية - أيضاً - بها إبداع، نصر أكتوبر إبداع، بناء الشخصية المصرية العسكرية هو فى حد ذاته إبداع، الإبداع هو أن تصنع شيئاً مختلفاً، متميزاً، له تأثيره وقوته، وأنا أعتقد أن الإنسان فى أى مجال يستطيع أن يكون مبدعاً، لكن متى يحدث ذلك؟ يحدث عندما نجتهد ونكافح ونعمل بجد وهمة ونشاط، فى أى عمل نحن نقوم به، أما إذا كنت تتحدث عن لماذا أنا لم أتجه للفن؟ قلت: هذا ما أقصده؟ قال: بالفعل أنا كان لدىّ ميول بعد مرحلة التوجيهية - الثانوية العامة حاليًا - فى أن ألتحق بمعهد السينما لكن:«أبى» وقتها لم يكن مرحبًا بذلك. قلت: لماذا يرفض وهو فنان ومبدع؟ قال: أظن أنه وقتها -بإحساس الأب- كان يريد لى أن ألتحق بطريق أكثر استقرارًا وأمناً، لأن معهد السينما وقتها كان فى بداية عمله، وكان هذا هو سرعدم حماس أبى للالتحاق به، وبالفعل ونزولًا على رغبته غيرت مسار حياتى والتحقت بالقوات المسلحة، وكان هذا بعد حرب 67 مباشرة، أنت كنت ابناً وحيداً وأخواتك بنات ألم يقلق هذا أباك عليك خاصة والبلد وقتها كان فى حالة حرب مع إسرائيل؟ رد قائلاً: لم يفكر أبى فى ذلك، بالعكس أظن أنه لو كان لى أخ آخر، كان أبى وافق، بل دفعه للالتحاق بالجيش، لأن أبى نفسه، كان يذهب للجبهة مع الفنانين والشعراء والصحفيين بعد حرب 67، لشد همم الجنود، والمساهمة بالكلمة واللحن والغنوة فى التهيئة النفسية لهم استعدادًا لمعركة استرداد الأرض. وهذا ما تحقق بالفعل فى نصر أكتوبر الذى شاركت فيه. اسمه مرسى جميل عزيز، ولد فى 9 يونية 1921 بمدينة الزقازيق فى محافظة الشرقية، والده الحاج جميل مرسى عزيز من كبار التجار فى ذلك الزمان، ساعده أبوه فى أن يشبع ميوله الثقافية والأدبية، حصل على شهادة البكالوريا -الثانوية العامة حالياً- من مدرسة الزقازيق، مارس فيها هواياته للأدب والشعر والموسيقى، التحق بكلية الحقوق، تزوج فى سن مبكرة عام 1946، له أربعة أبناء: مجدى لواء قوات مسلحة سابق.. وثلاث بنات «محامية - أستاذة جامعية - طبيبة أطفال» حصل على وسام الجمهورية للآداب والفنون من الرئيس جمال عبدالناصر 1965. - وعايزنا نرجع زى زمان قول للزمان ارجع يا زمان وهات لى قلب.. لا داب ولا حب ولا انجرح ولا شاف حرمان هذه الكلمات من أغنية «فات الميعاد» التى لحنها العبقرى بليغ حمدى وتغنت بها أم كلثوم.. والذى يتوقف قليلًا أمام هذه الكلمات، يجد أنها حملت فلسفة الحياة التى نحياها، أو بمعنى أدق لخصت الحياة، الحياة.. تعنى فيما تعنى، أنها الزمن، والزمن هو القاهر، والقادر، والعاصف الذى لا يقدر على مواجهته أى شىء، الزمن هو الذى يحكمنا ويحركنا، ويجلس معنا أحياناً، ويهرب أمامنا أحياناً.. مرسى جميل عزيز فى تلك الأغنية وبالتحديد بهذه الكلمات القليلة وضع علامة استفهام أمام حياتنا، أمام الحب، أم العمر، أم الماضى، أم الحاضر. وضع علامة الاستفهام وهو يسأل: «عايزنا نرجع زى زمان.. قول للزمان ارجع يازمان؟ » وهل الزمان يعود؟ عدت أنا من عند فلسفة المبدع الأب عن جدلية الحب والزمن إلى الابن الرجل العسكرى الذى تربى فى بيت كله فن، قلت له: كيف كان أسلوبه فى تربية أولاده؟ قال: أبى كان زوجًا مثالياً، أحب فكرة البيت، بكل ما تحمله الكلمة، تزوج مبكراً، وحافظ على حالة توازنه النفسى، وهو داخل الوسط الفنى، كان حريصًا على تعليمنا جيداً، ولم تشغله أعماله عن متابعة أحوالنا الدراسية مع والدتى التى تحملت -كأى أمة مصرية خاصة فى ذلك الزمن- المهام الأكبر فى متابعة شئوننا الدراسية. قلت للابن: متى بدأت رحلة الشهرة؟ رد: فى عام 1939 بدأ رحلة شهرته بعد أغنية «يا مزوق يا ورد فى عود» التى غناها المطرب الراحل عبدالعزيز محمود، بعدها انطلق إلى نجومية كتابة الأغنية، ثم توقف الابن قليلًا وقال: بالمناسبة، أبى لم يكتب الأغنية فقط لكنه كتب القصائد والموشحات والمواويل الشعبية، وكذلك حصل على دبلوم فى «فن كتابة السيناريو» من دورة شهيرة درس له فيها خبراء أجانب عام 1963، وبالفعل كتب وشارك فى كتابة سيناريوهات بعض الأفلام وهو الشاعر العربى الوحيد الذى غنى له الخمسة الكبار «أم كلثوم، عبدالوهاب، فريد الأطرش عبدالحليم، فيروز» أما فى الشعر فكتب الشعر العمودى، وهذا يعد نقلة فى الشعر بعد مرحلة أحمد شوقى، ولقد اهتم بخطاب شعرى موجه لكل الناس وركز فى أعماله على الصورة الشعرية حيث -كما قال النقاد والكتاب- تمتاز الكلمة عنده بأنها السهل الممتنع بحق، فهى محملة بالصور الجمالية، لذلك ظلت كلماته الرقيقة ومعانيه الشاعرية الدافئة باقية فى وجدان المستمع العربى فى كل مكان. على البر التانى وعدينا حملتنا الفرحة وعدينا ولاقينا العيد مستنينا ع البر التانى يا سينا ورسينا ع البر التانى كانت هذه كلمات بعد نصر أكتوبر لحنها كمال الطويل وغنتها نجاة.. ومن البر التانى عدت للابن الذى كان على الجبهة.. على البر التانى.. قلت له: هل التقيت به عندما كان يزور الجبهة وانت ضابط، قال: فى البداية لم نلتق.. كان يذهب للجبهة ليلقى الشعر الحماسى للجنود، ولم يكن يعرف إلى أى جبهة ذاهب، لكن صادف أنه زار الكتيبة التى كنت فيها، وأنا فى إجازة، وهناك التقى مع زملائى من الجنود والضباط.. وأدخلوه إلى دبابتى حيث كنت أنا نقيب قائد سرية دبابات فى حرب أكتوبر، لكن بعد ذلك فى مرات أخرى، التقيت به على الجبهة، هنا توقفت وقلت له: ألم يكن فى حالة قلق عليك؟ قال: بالطبع كان كذلك وكانت أمى أيضاً، فأنا الابن الوحيد لهما، وهما فى بداية التحاقى بالجيش، لم قلت لك آنفاً تركوا لى حرية الطريق الذى أسلكه، وأنا التحقت فى البداية بالكلية البحرية، لكن بعد ذلك حولت إلى الكلية الحربية، والمؤكد أنهما كانا لا يرغبان فى دخول الجيش خوفًا على ابنهما الوحيد، لكن أظن أن الحس الوطنى لأبى، جعله لا يعارض رغبتى، بدليل أنه هو نفسه كان يذهب للجبهة ويجلس مع الجنود بالساعات وحتى عندما أصبت فى يوم 14 أكتوبر 1973 ونقلت إلى المستشفى العسكرى، طلبت من زميل لى أن يبلغه ليزور صديقاً مصاباً وليس أنا، لكن أبى أدرك أن المصاب ابنه.. وجاء للمستشفى فى هدوء ودخل حجرتى وهو يعلم أنى مصاب، جلس معى واطمأن على الإصابة وظل يتنقل بين الجنود والضباط المصابين، ويجلس معهم أكثر من جلوسه معى أنا بغرض رفع روحهم المعنوية. قلت له: مرحلة مرضه ورحلة العلاج فى أمريكا كيف كانت؟ رد: عندما بدأ معه المرض، قمنا بنقله إلى المستشفى العسكرى، لكن بعد فترة قررنا سفره إلى أمريكا للعلاج.. وهناك قضينا 4 أشهر فى العلاج.. لكن فى نهاية هذه الفترة.. مات. وفى 9 فبراير 1980 رحل الشاعر الكبير مرسى جميل عزيز، بعد رحلة عطاء كبيرة، كتب خلاله للحب والحياة.. رحل وهو يدرك أنه بإبداعه وفنه وكلماته سوف يحيا.. لقد كتب ذات يوم كلمات غنتها فيرور قال فيها: - ليس سرًا يا رفيقى أن أيامى قليلة - ليس سراً.. إنما الأيام بسمات طويلة - إن أردت السر.. فاسأل عنه أزهار الخميلة - عمرها يوم.. وتحيا اليوم حتى منتهاه - سوف أحيا.. سوف أحيا.. فى أمان الله