السينما الإيطالية ذات مواصفات خاصة، تعشق الاستغراق فى التفاصيل والثرثرة حول مائدة الطعام ومن تلك الأفلام فيلم «غرباء تمامًا» Perfect Stranger من إخراج باولو جنوة، سيناريو، فيليبو بولونيا، والموسيقى، ماوريتسيو. يدور الفيلم حول سبعة أصدقاء يذهبون لتناول العشاء معًا، فيبدأون بمشاركة بعضهم بعضًا رسائلهم النصية ومكالمتهم الهاتفية، فتنكشف الكثير من الأسرار... الفيلم يعتمد على أسلوب السرد المفصل والحوار المستغرق فى التفاصيل، البداية باستعراض الأبعاد الشخصية لكل واحد فيهم وعلاقته بالآخر، فنحن أمام ثلاثة نماذج مختلفة من الأزواج وأعزب واحد.. والفيلم يطرح فكرة أن التليفون المحمول أصبح بمثابة الصندوق الأسود لكل إنسان، ويمكن القول إنه من الإنصاف الاعتراف أن تلك الأدوات التى لا غنى عنها أصبحت بمثابة القنبلة الموقوتة، وجميعنا يخفى شيئًا ما بداخلها يلعب على هذا الخوف شبه العالمى السيناريو عن طريق تبادل كشف الرسائل الواردة والمكالمات أمام الضيوف.. وتدور الأحداث فى شقة إيفا وروكو أثناء تناول الأصدقاء العشاء، ويعتمد الفيلم على حالة التوتر فى المنزل بعد اكتشاف إيفا من خلال حقيبة يد ابنتها المراهقة صوفيا «واقى ذكرى»، ويركز على حالة عدم التواصل بين الأم وابنتها، بينما العلاقة قوية بين الابنة والأب.. على الجانب الآخر هناك قصة الزوجين لى لى (Mastandrea) وكارلوتا (Foglietta) اللذين لا يملكان حتى القدرة على التعبير عن القليل من الدفء تجاه بعضهم بعضاً، خاصة أن الزوج يستغل دخول الحمام ليتابع الرسائل التى ترسل إليه من فتاة يقيم معها علاقة عبر الهاتف، والزوجة تعلن تمردها الصامت على فشل العلاقة بين الاثنين من خلال عدم ارتدائها للملابس الداخلية عند الخروج من البيت، أما قصة بيانكا (Rohrwacher) وكوزيمو (إدواردو ليو)، فهناك علاقة قوية بينهما وهما جديدا العهد بالزواج ويفكران فى إنجاب طفل، أما الصديق الأعزب بيبى (جوزيبى باتيستون) فقد كان من المفترض أن يقدم فى العشاء صديقته الجديدة، خاصة أنه مطلق وتقوم مطلقته بدفع مصاريف الطلاق للمحامى، لكنه يصل بمفرده، مدعيًا أنها مصابة بالحمى. تبدأ الأحداث فى التصاعد عندما تقترح لعبة وضع جميع الهواتف المحمولة على الطاولة، ويجب قراءة الرسائل الواردة بصوت عال، بالإضافة سماع المكالمات، يبدو من انفعالات الجميع أن لا أحد مع هذه الفكرة، ولكن رفضه سيكون بمثابة الاعتراف هناك ما يخفيه، لذلك وافقوا على اللعب. كوزيمو يحصل على الرسالة الأولى، قائلًا: «أريد جسمك» إلا أنها مزحة من روكو فى المطبخ. شيئًا فشيئًا يتعرف المشاهد والحاضرون ما يخفيه كل شخص عن الآخرون، فنجد أن إيفا ستقوم بعمل عملية تجميل لثدييها، وكارلوتا تريد إيداع حماته فى دار للمسنين، أما أكثر المواقف صعوبة فكانت من نصيب لى لى، فعشيقته ترسل له كل مساء صورة لها عارية فى الساعة العاشرة لذلك يقنع بيبى، الذى لديه نفس الهاتف، بتبديل الأجهزة ولكن للأسف يتصل صديق بيبى والذى يبدو أنه على علاقة شاذة معه، فيصبح الأمر أكثر صعوبة، خاصة أن زوجة لى لى تصاب بحالة من الإحباط ويظهر أن العلاقة الجنسية بينهما متوترة. أما لحظة المكاشفة فتبدو قوية عند اكتشاف أن كوزيمو على علاقة جنسية بأخرى، فيكشف لنا السيناريو وجود علاقة جنسية بين كوزيمو وإيفا، وهذا يفسر وجهة نظر الابنة التى كانت ترى أمها مخادعة كبرى إلى جانب حالة العداء الواضحة فى سلوكيات إيفا تجاه بيانكا زوجة كوزيمو... الفيلم هنا يعزف بذكاء على حالة الخوف بين الأصدقاء بناء على اكتشاف أسرار، ووقوفهم عرايا أمامها مع عدم وجود حماية. أفضل مشهد فى «الغرباء تماماً» عندما يغطى لى لى على بيبى، إنها اللحظة الوحيدة عندما يتصرف أى شخص باسم الصداقة الحقيقية، ويتصرف مثل الكبار بدلًا من طفل فى المدرسة الثانوية، مما يدفع بيبى للاعتراف بشذوذه. ومن الجميل أن الإشارة إلى أن المخرج والسيناريست فعل ذلك عمدا لإظهار السلوك الطفولى من الشخص العادى المدافع عن ذاته، والدخول فى نقاش هل من حق الأصدقاء معرفة السلوك الجنسى للصديق إذا كان لوطياً؟.. إننا فى هذا العمل أمام أداء مميز من مجموعة من الممثلين الموهوبين تم الاستفادة القصوى من أدوارهم، واستطاع المخرج تجنب الشعور بحالة الضجر والملل من المشاهد المحتجز مع أبطاله الذين يتحركون قرابة الساعة والنصف حول الغرفة والشقة.. وللأسف أن المؤثرات الخاصة كانت فقيرة للغاية لم تستخدم كما ينبغى لإظهار التحولات الدرامية للشخصيات، ولم تستخدم فكرة كسوف القمر بالشكل الفلسفى المطلوب، إلى جانب أن الموسيقى استخدمت فى أحيان كثيرة بشكل صاخب فى لحظات مثيرة لتوجيه عواطف المشاهد. قد يرى البعض أنها مثال لقصة قاتل متسلسل، ولكنها وسيلة جريئة لمناقشة مدى مقدرة الإنسان لرفع القناع عن نفسه، الغريب أن أكثر الأشخاص اتساقاً مع ذاته كانت شخصية الشاذ.. وينتهى الفيلم باستنتاج أن الأحداث لم تحدث وهذا يستنتجه المشاهد فما زالت إيفا ترتدى قرطيها، ولم تضع بيانكى أحمر الشفاه، وما زال شعرها منسدلًا على ظهرها.. لنكتشف ما حدث من خلال سؤال إيفا لزوجها بإصراره على عدم وضع الهواتف على الترابيزة، وتكون إجابته بأنهم جميعا مكسورون، ولا يريد الدمار لهم.