يعود الكسندر باين إلي الواجهة السينمائية هذا العام بفيلم يرشحه بقوة لنيل أوسكار أحسن فيلم إلي جانب عدد كبير آخر من الترشيحات أهمها ترشيح نجم الفيلم الأول «جورج كلوني» لجائزة أحسن ممثل وهي جائزة يستحقها تماما عن أدائه المدهش لهذا الفيلم الذي امتلأ بعواطف متناقضة ومشاعر ملتهبة وأحاسيس داخلية من الصعب أن تمضي. الفيلم يحمل اسم «الأحفاد» وهو عنوان يخفي في طياته رموزا كثيرة ذات بعد سياسي واجتماعي، يمس تاريخ أمريكا ومجتمعها واختلاط الحقوق والواجبات فيها. مستويان مختلفان الأحفاد الذين نراهم في الفيلم يضعهم السيناريو علي مستويين مختلفين الأول هم الأحفاد الكبار ورثة هذه الأرض الواسعة في جزر هاواي التي جاءتهم عن طريق زواج جدهم الكبير المهاجر الأوروبي بابنة زعيم القبيلة الهندي الذي اختارته حبيبا وزوجا ضاربة عرض الحائط بالتقاليد السائدة في بلدها آنذاك .. والذي أدت بهما هذه الزيجة إلي أن يرث الأمريكي الأراضي الهندية الواسعة التي يمكن أن تتحول من خلال مشروع سياحي واقتصادي إلي «بئر» تضخ الملايين بل المليارات من الدولارات التي تلهف الأحفاد الكثيرون لهذه الزيجة القديمة بتقاسمها. أما المستوي الآخر فهو مستوي «الأبناء» وعلاقتهم بأسرهم ومجتمعهم ورؤيتهم للدنيا من خلال منظار شديد الاختلاف عن منظار أبويهم.. واستعدادهم لإصدار أحكام أخلاقية صارمة وقاسية علي سلوك الآباء دون أن يتركوا لهؤلاء الآباء الذين جرفتهم الحياة المدنية الحق في أن يصدورا أحكاما ضدهم إنها الهوة الكبيرة التي تفصل بين جيلين والتي عرف «الكسندر باين» في عذوبة كبيرة مختلطة بشجن عميق وبألم يمزق القلب أن يعبر عنها بهذا الفيلم البديع والشديد التأثير. الأمور كلها تبدو نتيجة لحادث عابر تصاب فيه الزوجة أثناء قيامها بالتزلق المائي مما يضعها في حالة بين الحياة والموت تفقد فيها الوعي تماما. مجري الحياة هذا الحادث يجبر زوجها الغارق في أعماله التجارية «جورج كلوني» من أن يعيد النظر في حياته ويكتشف أنه كان بعيدا تماما عن مجري الحياة كما كان يدور في أسرته وبيته فهو منفصل تماما عن زوجته روحيا وكذلك عن ابنتيه اللتين تعيشان حياة غير مستقرة، الأولي أودعتها أسرتها في مدرسة داخلية بعيدة والثانية الصغيرة ابنة الثامنة تعيش مع أبويها ولكنها تعاني عقدا نفسية تدفعها أحيانا إلي تصرفات عجيبة تستدعي قدوم أولياء أمرها للتشاور. حادثة إصابة الأم تجبر الأب علي أن يترك أعماله المؤقتة وأهمها بيع الأراضي الواسعة التي ورثتها الأسرة والانصراف إلي رعاية ابنتيه ويذهب إلي المدرسة الداخلية لاصطحاب ابنته الكبري لزيارة أمها المحتضرة، وهناك تقع المفاجأة الكبري التي ستقوم أحداث الفيلم كله علي نتائجها إذ ترفض الابنة زيارة أمها وتتهمها بأشنع الألفاظ وعندما يحاول الأب معرفة السبب تكشف له هذه الفتاة الصغيرة الشديدة التحرر «والتي أصرت علي أن يرافقها زميلها المراهق في رحلتها الصغيرة هذه» عن السر الذي يدفعها إلي احتقار أمها بل ورفضها.. لقد فاجأت أمها متلبسة بخيانة ابيها مع رجل لا تعرفه. هذه الحقيقة المروعة تسقط «منزل الورق» الذي كان يعيش فيه الرجل إذ إنه يكتشف أن حياته كلها قائمة علي خداع كبير وإنه ليس هناك من رابطة حقيقية تربط بين أفراد هذه العائلة التي تبدو من بعيد سعيدة ومتماسكة ولكنها في الواقع مجزأة مهترأة. عند هذا الاكتشاف المرعب لا يبقي أمام الزوج «مات» إلي أن يبحث عن العشيق المجهول وأن يعرف السبب الحقيقي الذي دفع زوجته إلي خيانته. وهنا يأخذ الفيلم إلي رحلة إلي أعماق الشخصيات الثلاث التي تكون هذه الأسرة «السعيدة» والتي تقودنا إلي رؤية أصدقاء الزوجة الذين كانوا يعلمون بالخيانة ويكتمونها عن الزوج .. وأهل الزوجة السادرين في وهمهم بأن ابنتهم كانت شديدة الإخلاص والمحبة لزوج مهمل. ومن خلال أحداث مضفورة بعناية وصدق شديدين يتوصل «مات» لمعرفة العشيق ويكتشف أنه زوج وأب سعيد وأن علاقته بالزوجة المحتضرة لم تكن إلا علاقة جنسية عابرة رغم أنها كانت بالنسبة لها هي عاطفة مدمرة كادت أن تقودها إلي الطلاق. متعة المشاهدة لا أريد أن أفسد علي القارئ متعة مشاهدة هذا الفيلم البديع والمشاهد الرائعة التي عرف السيناريو كيف يستخلصها من قصة تبدو عادية ومألوفة عن الخيانة الزوجية. ولكن هناك مشاهد لابد للمرء أن يتوقف عندها معجبا مذهولا من رقتها وشفافيتها وهذه القسوة الداخلية الممزوجة بحنان عاطفي شديد كمشهد مفاجأة الزوج لزوجته المحتضرة وهو يقول لها إنه لن يسامحها علي ما فعلت به وهذه الدمعة التي تسيل من بين جفونه والتي ربما يمكن اعتبارها من أدق وأجمل دموع الرجال التي شهدتها السينما والتي ستكون وحدها ربما الجسر الذي سيقطعه «جورج كلوني» للحصول علي جائزة الأوسكار. شاهد الصراع الداخلي والنار التي اتقدت في صدر الزوج المخدوع وعلاقته مع ابنته.. وحديثه مع المراهق المخبول صديق ابنته خصوصا من المشهد الذي يوقظه فيه ليلاً.. وقد استبد به الأرق ليحدثه عن أزمته وليسمع منه ما كان يرفض أن يسمعه من هذا الجيل الذي تجاهله طوال عمره. وكيف نسج السيناريو الحبال الرقيقة التي أعادت الصلة بين هذا الأب المهزوم وابنته المراهقة المترددة ذات الألفاظ النابية والسلوك المتحدي وابنته الصغيرة التي بدأت تعاني بوادر أزمة نفسية يمكن أن تعصف بها تماما إذا لم تتدارك في الوقت المناسب. كل الشخصيات في الفيلم رسمت بريشة رسام يعرف كيف يضع حولها الظلال وكيف يوجه لها الأنوار ومن خلال حوار قاس بعض الشيء في بعض المواقف وشديد الرومانسية بعضها الآخر تتواصل الشخصيات مع بعضها بما فيها بعض الشخصيات الثانوية التي كان يكفي مشهد واحد مثلا لكي يرسمها بريشة من نار ويجعلها «تنشب أظافرها» في ذاكرتنا كشخصية أم الزوجة المصابة بمرض نسيان الذاكرة أو الأب المتعصب المؤمن بأخلاقيات ابنته والذي يعطي درسا في الأخلاق للزوج المخدوع متهما إياه بكل الصفات السلبية أو مشهد زوجة العشيق براءتها وسذاجتها وقد عرفت بخيانة زوجها وجاءت لتودع «المحتضرة» بعد أن رفض العشيق أن يزورها للمرة الاخيرة وهمسها لها أنها تسامحها علي أنها أحبت رغم أنها كانت ستدمر لها حياتها الزوجية وتسعي إلي خطف زوجها منها. مشهد رائع في تكوينه وفي أبعاده وفي أداء الممثلين فيه. والحق أن الأداء إلي جانب السيناريو الماهر هو الذي اعطي فيلم «الكسندر باين» هذه القيمة الفنية العالية.. «جورج كلوني» في تطور شخصيته من اللامبالاة إلي الدهشة إلي الألم إلي الرغبة بالثأر إلي التفهم العميق إلي التسامح، كل ذلك بأداء سلس وشديد الإقناع وشديد العذوبة وطبعا يتوج الأداء كله بالدمعتين الرائعتين اللتين ذرفهما أمام جسد زوجته المتوفاه. درجات النجومية «كلوني» يصل في هذا الفيلم إلي أقصي درجات نجوميته بل إنه يسعي لأن يجعل وسامته الشهيرة تلعب ضده فهو يلعب دور الزوج المخدوع. ومن رجل لا يدانيه بأي شكل من الأشكال .. شكلا وروحا. وتتباري بقية الشخصيات رغم أنها لا تداني نجومية «جورج كلوني».. في تجسيد عواطف متعارضة ومتشابكة .. يصل فيها تحدي الأجيال إلي مرتبة خطيرة دون أن يضطر المخرج إلي رفع الصوت أو المبالغة في التعبير. وأخيرا هذه الخلفية التاريخية الشديدة الذكاء والإيحاء والتي ربطت بين حقيقة التاريخ وحقيقة المجتمع الذي نعيش فيه وأن زيف العواطف ثم استغلالها بشكل بشع لايزال قائما سواء علي المستوي الخاص أو المستوي العام. كل شيء في فيلم «الأحفاد» يدعوك لتأمل التاريخ الأمريكي: الأسرة الأمريكية، منظومة الزواج، علاقة الآباء بالأبناء، تمرد الجيل الجديد الظاهري واخلاقياته المتشددة التي يبني حولها مستقبله. ثم هذا الجمال الهندسي البديع الخارجي الذي يخفي اضطرابا عاطفيا داخليا لا شفاء منه . الفيلم يدفعك رغما عنك إلي أن تأخذ موقفا يرفض منطقك وعقلك وتقاليدك أن تأخذه لكن تيمة الفطرة وإمكانية البدء من جديد تبدو ماثلة في الأفق ممكنة وإن كانت تظهر للعين شبه مستحيلة. لقد رمت أسرة «مات» رماد الزوجة المحترق في ماء النهر الذي كان سببا في موتها، وعادت الأسرة لتجتمع مرة أخري علي شزلونج طويل مريح تفكر بمستقبل لا تدري كيف سيأتي .. وعواطف لا تدري كيف ستداركها وعلاقات يبدو الإصرار علي الاحتفاظ بها متنبأ رغم اهترائها وصعوبة مقاومتها للزمن الزاحف.