في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين اشتهر في فرنسا كاتب مسرحي اختص بتقديم نوع خاص من المسرحيات يخلط بين أكثر من نوع الفارس والفودفيل والكوميديا لاقت نجاحا شعبياً كبيرا وأغلبها يقوم علي المصادفات الكوميدية وعلي المواقف المعقدة التي يخلقها الالتباس الجنسي والتي تثير في نفسك عواطف من الضحك.. لا تخلو خلفيته من نقد اجتماعي لاذع. هذا الكاتب هو «جورج فيدو» الذي اقتبس المسرح الكوميدي المصري منه الكثير من الآثار والمواقف والذي قامت هيئة الكتاب بترجمة أعماله كاملة. لا أدري لماذا مر هذا الكاتب وأسلوبه وطريقته الضاحكة في ذهني وأنا أري الكوميديا الجديدة التي أخرجها «أكرم فريد» ومثلتها النجمة اللامعة «لبلبة». أسرة مثالية السيناريو يدور حول أسرة مثالية.. يقدمها لنا الفيلم في بدايته علي لسان ربها وربتها وهي مكونة من أم محجبة تعمل مديرة للشئون القانونية في وزارة محترمة والأب لواء في البوليس مشهود له بالاستقامة والصرامة والنظام.. الذي يطبقه في عمله كما يطبقه في حياته الخاصة وفي محيط أسرته. أما الأبناء الخمسة فهم مصطفي الأكبر وقد تخرج أخيراً في كلية البوليس وأصبح واحدا من المسئولين في قسم شرطة عابدين.. والآخر طالب في السنة الأخيرة في كلية الهندسة.. متفوق وينتظره مستقبل باهر.. أما الإبنة فهي مراهقة في الثانوية جادة ومجتهدة وتعطف علي أمها وهي صديقة لها. أما الابن الرابع فهو مازال في الإعدادي.. يحب الكرة شأن أقرانه وزملائه ويلتزم في دراسته، أما آخر العنقود فهو مختار واسم الدلع الخاص به هو ميكي، والذي يحمل الفيلم اسمه. نحن إذن أمام أسرة مثالية حقة.. تتمني أن تكون كل أسرة مصرية مثلها.. خصوصاً هذه الأم الشرقية الحنون رغم صرامتها والتي جاءت بأمها الضريرة لتعيش معها كاتمة عنها عدم اهتمام أخيها بها وعدم رغبته باستضافتها.. متحملة كل عصبيتها وشجارها وتذمرها. براعة وعفوية ولكن شيئاً فشيء .. وببراعة حلوة وعفوية.. يزيح الفيلم الستار الثقيل الذي يخفي وراءه حقيقة هذه العائلة التي لا تمت إلي المثالية بشيء. الأخ الأكبر ضابط البوليس شاب وسيم له مغامراته النسائية.. عاجز عن قمع ثورة المحجوزين في زنزانة يستغل خلو منزل أسرته في النهار لكي يجلب عشيقته.. رامياً وراء ظهره بمسئولياته الوظيفية وهو عدا ذلك اعتاد علي «سرقة» سيارة الأسرة التي تحتفظ بها الأسرة مغطاة إلي جانب البيت لكي تسهل له عملياته الغرامية الطائشة. ويشغل باله إلي جانب النساء كيف يمكنه أن يجد مائة ألف جنيه يدفعها لكي يتخلص من واجبه البوليسي، أما الأخ الجامعي المتفوق.. فتكتشف أمه مذهولة اثر وشاية أحد أصحابه.. أنه يكذب باستمرار فهو مازال في السنة الثانية من الجامعة. رغم ادعائه بأنه في سنة التخرج.. وهو مهدد بالطرد أيضاً لأنه يقضي أغلب أوقاته مع شلة فاسدة تشرب المخدرات وتقضي كل وقتها بمشاهدة مباريات كرة القدم علي شاشات التليفزيون. المراهقة الصغيرة أما المراهقة الصغيرة التي تعاني من عقدة نقص بدانتها فإنها تستغل شأن مثيلاتها هذه الأيام جهاز الإنترنت لتعقد من خلاله علاقات غرامية وجسدية. تصل إلي درجة استقبال أحد محبيها في دارها.. الذي تعتقد ألا أحد فيه كما تكتشف أن لها ماضيا أسود.. في سرقة أحباء صديقاتها أو رمي الشقاق بينهم وبين حبيباتهم.. وهي تقضي أوقاتها عندما تهرب من المدرسة في أحد المقاهي.. الذي تتجمع فيه مجموعة من المراهقات أمثالها مع رفاقهن الشبان. أما طالب الثانوية فهو إنسان عدائي محب للشجار.. لا يكف عن الشجار مع أصحابه.. وعندما يفشل في صد هجومهم.. يلتجيء إلي بلطجي لمساعدته في اخافتهم مما يسبب له في إحدي المعارك جرحا عميقا في الرأس يستدعي ذهابه للمستشفي لعمل عدة غرزات. أما ملاك البيت «ميكي» فهو العفريت الحقيقي الذي يعشق رمي البيض من الشباك علي المارة.. وتدبير المقالب وحفر أرض المدرسة مع رفاقه الأشقياء مثله. وبالطبع فإن المنزل الفارغ إلا من الجدة العمياء يمتليء بالضابط وعشيقته والمراهقة وحبيبها داخل غرف متشبعة وعلي مسمع من آذان الجدة الضريرة التي تسمع هذه الجلبة وتعتقد أن المنزل مسكون بالأشباح. بالطبع نحن أمام.. أجواء «فيدوية» نسبة إلي «جورج فيدو» يغلب عليها الطابع الجنسي الحر دون أن يسقط الفيلم رغم سخونة المشاهد في أي ابتذال حواري أو بصري وهذا ما يحسب كثيرا لكاتبه الشاب ومخرجه. تعقيدات مضحكة وتتأزم الأمور عندما تكتشف الأم المذعورة حقيقة أولادها جميعاً، وتصل الكوميديا إلي أوجها في تصوير عودة الأهل إلي البيت وصعوبة خروج عشيقة الضابط وحبيب المراهقة منه وجميع التعقيدات المضحكة التي تتوالي أمام المشاهد ولا يدري هل يضحك منها أم يرثي لحال هذه الأسرة التي ستواجه الملايين في برنامج تليفزيوني.. تنتخب فيه أقوي أسرة مثالية يمكنها أن تمثل الأسرة المصرية النموذجية؟ ويصعد الفساد إلي رأس العائلة التي كنا نظن أن الفيلم قد جنبها سهامه قليلاً مكتفياً بتوجيه هذه السهام إلي جيلها الحالي «الفاقد» تماماً، ولكننا نكتشف في المشهد الأخير تواطؤ الأسرة مع معدي التليفزيون للحصول علي الجائزة المرتجاه مقابل رشوة يدفعونها عن طيب خاطر. وينتهي الفيلم بلقطة كبيرة لوجه «لبلبة» تذكرنا باللقطة الختامية لجريتا جاربو في فيلم «الملكة كريستينا» التي أصبحت أيقونة من ايقونات السينما.. وهي تقول دامعة العين للمتفرجين إنها لا تندم علي انجابها هؤلاء الأولاد لأنهم أخيراً وآخراً هم أولادها المستعدة لقبولهم في خيرهم وشرهم. والحقيقة أن السيناريو نجح في جعلنا نتعاطف مع هؤلاء الأولاد رغم كل الشرور التي كانت تحيط بهم وذلك عن طريق عفوية سلوكهم وسذاجتهم وانجرافهم مع المد الأخلاقي السائد علي مجتمعنا اليوم والذي لا يمكن الهرب منه. إبداع مخرج أكرم فريد في «عائلة ميكي» يقدم أجمل ما قدم للسينما حتي الآن هناك استاذية في رسم المواقف وتسلسلها وإيقاعها.. «رغم تثاقل الإيقاع في الثلث الأخير من الفيلم» وشجاعة مشهودة في تصوير جهاز البوليس.. والضابط الدون جوان.. الذي يتعلم أخيراً كيف يمكنه أن يصبح ضابط بوليس نموذجياً.. عندما يقرر استخدام الأسلوب العنيف مع الموقوفين وضربهم بحزامه دون شفقة. وتجدر الإشادة بالممثل الشاب الذي لعب دور الضابط الوسيم بعفويته وتعبيراته وقدرته علي كسب ود المتفرج رغم السلوكيات الشاذة التي يمارسها. والحقيقية أن الإشادة ضرورية بجميع الأولاد سواء من عائلة «ميكي» أو من رفاقهم صبية وبنات.. وهناك مشهد لقاء المراهقات مع أصدقائهن في أحد المقاهي الشبابية وشجاراتهم ومقالبهم ودور التليفون المحمول والإنترنت في رسم علاقتهم وسلوكهم العام. فيلم مدهش.. جدير حقاً بالإشادة علي جميع المستويات أداء وكتابة وإخراجا. ويتبقي أخيراً السيدة لبلبة.. في دور الخبيرة القانونية المحجبة في عملها العام والسافرة الرأس في محيط أسرتها أداء متوازن من الكوميديا والدراما عرفت الفنانة الكبيرة كيف تعزف عليه بمهارة تعودناها منها في أفلامها الأخيرة. إنها بهذا الدور أم لخمسة أولاد واكتشافاتها المتتالية لخيبتها الحقيقية في تربية أولادها.. مثال باهر لممثلة تعرف كيف تتقمص الشخصية وتذوب فيها «وأذكر علي سبيل المثال لا الحصر، مشهد حوارها اللذيذ مع سائق التاكسي الذي يقلها إلي الجامعة التي تكتشف فيها خداع ابنها المفضل لديها لها. تفاصيل صغيرة التفاصيل الصغيرة بالفيلم كثيرة.. ورغم الضحات من المواقف الساخنة والمقالب التي نراها تتابع أمامنا.. هناك شيء من الحزن الخفي والكآبة تغمر القلب للحال الذي وصلت إليه الأسرة المصرية.. وتدهورها الأخلاقي والمعنوي حتي عندما يكون ربها لواء بوليس شريف وربتها خبيرة في الشئون القانونية تحكم بها وتعيش تحت ظلها إلي جانب هذه الجرأة الجنسية غير المعتادة في السينما المصرية في مشهدين يعتبران حدثا حقيقياً في هذا المجال. مشهد ممارسة الضابط الشاب الجنس مع عشيقته بينما اختبأت تحت السرير شقيقته المراهقة الصغيرة مع حبيبها. أو مشهد الأم المتزنة المحافظة وهي تقضي حاجتها في الحمام.. أمام انظار حبيب ابنتها المختبأ وراء ستار البانيو. إنها صورة ضاحكة باكية يقدمها فيلم ذكي في تفاصيله.. بعيد في أبعاده وتجسده مجموعة من الممثلين الشبان استطاع كل واحد منهم أن يفوز بإكليل من الغار يضعه فوق رأسه. إلي جانب هذه الموهبة الجارفة العملاقة التي تدعي «رجاء حسين» والتي لعبت دور الجدة العمياء بحنان ممزوج بشموخ وكبرياء وقدرة علي التجاوب تؤكد تجربتها الطويلة في هذا الميدان وطول باعها في الأداء وتأثيرها الذي يتجاوز كل الحدود. «عائلة ميكي» فيلم كوميدي صغير ولكنه كبير في مرماه وفي طموحه وفي تحديه للسائد، وفي رسمه نموذجاً مختلفاً كنا نتمناه دائماً للكوميديا المصرية الحقيقية التي تضحك دون اسفاف وتهدهد قلبك وتفتح عينيك واسعة لتري حقيقة ما حولها حتي لو كانت هذه الحقيقة مُرة في كثير من الأحيان.