جاء المخرج الأسباني الشهير بيدرو ألمودوفار بفيلمه الجديد “جوليتا” إلى مهرجان كان منافسا على السعفة الذهبية التي لم يحصل عليها، وقد قوبل باهتمام كبير رغم أنه الفيلم الوحيد في المسابقة الذي سبق عرضه في بلده أسبانيا قبل شهر من عرضه في كان وهو ما يسمح به قانون المهرجان. ألمودوفار الذي عرفه العالم كمخرج-مؤلف، يعتمد في فيلمه الجديد على أصل أدبي، ثلاث قصص قصيرة للكاتبة الكندية أليس مونرو الحاصلة على جائزة نوبل في الأدب. هذه القصص منفصلة عن بعضها البعض لكن ألمودوفار، الذي كتب سيناريو فيلمه كما يفعل عادة، نقل مناخها وشخصياتها، وقام بتوليفها معا ليصنع منها حبكة الفيلم الذي أسند بطولته إلى ممثلتين تقوم كل منهما بدور الشخصية الرئيسية، ما بين الحاضر والماضي. الانتقال بين الأزمنة من بين السمات المتكررة في أفلام ألمودوفار، كذلك الاهتمام بالشخصيات النسائية التي يجد نفسه أقرب إليها، وهي التي منحت الكثير من أفلامه السابقة أهميتها وقوّتها، فالمرأة عنده تعادل العالم بأسره. والشخصية الرئيسية في الفيلم الجديد “جوليتا”، هي امرأة في الخمسينات من عمرها، تتأهب لمغادرة مدريد مع رفيقها “لورنزو” للعيش بصفة نهائية في البرتغال، لكنها تلتقي مصادفة صديقة ابنتها “أنيتا” التي لم ترها منذ أن كانت في الثالثة عشرة من عمرها أي منذ نحو 26 عاما. وتعرف من الفتاة أن ابنتها أنجبت ثلاثة أبناء، وأنها تسأل عنها. في هذه اللحظة تقرر جوليتا إلغاء السفر والبقاء في مدريد حيث تنتقل لتقطن في نفس البناية التي كانت تقيم فيها من قبل مع ابنتها، وهناك تبدأ في كتابة رسائل إلى “أنيتا” تسترجع من خلالها ما حدث في الماضي، من خلال قصص كثيرة تخفي أكثر مما تكشف، يتجاور فيها الموت والحب والجنس والميلاد، وتعكس شعورا دفينا بالفقدان المرير، ورثاء الذات. نعود في الزمن لنرى جوليتا (شابة حسناء) تلتقي خلال رحلة لها بالقطار رجلين، الأول عجوز غريب الأطوار يتصرف بفظاظة معها، فترده بخشونة، وتغادر العربة، لينتهي بعد قليل إلى الموت انتحارا تحت عجلات القطار. وفي عربة الطعام، تلتقي بالثاني “زولان” الشاب الوسيم الذي تعرف أنه متزوج لكن زوجته ترقد في غيبوبة منذ سنوات، وتقع جوليتا في غرامه وتقيم معه علاقة جسدية، تسفر عن إنجاب “أنيتا”، ثم تذهب إليه بعد إنجاب ابنتها حيث يقيم في منزله الفخم في الريف الأسباني، في نفس يوم تشييع جنازة زوجته. ورغم أن لدى زولان عشيقة إلا أنه يرحب بجوليتا، ويستأنف علاقته بها ثم يتزوجها، على الرغم من امتعاض مدبرة المنزل الغامضة المخيفة “ماريان” التي تحاول دفع جوليتا للمغادرة، وتخفي أشياء لا يكشفها لنا الفيلم. إنها تشبه شخصيات النساء في عالم هيتشكوك المثير. ثم تتداعى المصادفات والأحداث الغريبة والقصص التي تخرج من جوف قصص أخرى، وصولا إلى ذروة الميلودراما كما جرى العرف في سينما ألمودوفار. عشيقة زولان “أفا” تصبح أقرب صديقات جوليتا، وزولان الذي كان مغرما بالصيد، يخرج ذات يوم للصيد بقارب في عرض البحر فتهب عاصفة شديدة تؤدي إلى غرقه في القارب لكننا لا نرى الحادث، كما لم نر من قبل موت رفيق القطار العجوز، فألمودوفار لا يصور الموت، بل ولا يصور أيضا كيف تأزمت علاقة جوليتا بابنتها، وما الذي دفع الابنة إلى الفرار من الأم بعد أن أصبحت في الخامسة عشرة من عمرها، وذهبت للعيش في أحد الأديرة، وتخلت عن أمها وصديقتها الحميمة. لا شك أن الأصول الأدبية المنفصلة تركت تأثيرا سلبيا على السيناريو، فجاء الفيلم رغم جاذبية السرد وجمال الصور، وتميز الموسيقى والتمثيل، غامضا على نحو يجعل المتفرج يشعر بنوع من الإحباط، فالحبكة غير مشبعة، والتفاصيل تظل مدفونة حتى النهاية. ورغم ذلك يحتفظ الفيلم بأسلوب ألمودوفار الذي يقوم على الحكي، داخل منطقة بين الواقع والخيال، وبين الحلم واليقظة، تعتمد على الشخصيات النسائية المتعددة (الأم، الابنة، صديقة الأم، صديقة الابنة، الخادمة) بينما تبدو شخصيات الرجال هامشية، كما تظهر المرأة أكثر وضوحا في مشاعرها وانفعالاتها، تعبّر عن نفسها بقوة ولو من خلال الاعتراض على لون ورق الحائط ! ظهور الفنان ألمودوفار هو بلا شك، أهم فنان سينمائي ظهر في أسبانيا بعد زوال دكتاتورية فرانكو الذي حكم البلاد بقبضة حديدية لمدة 36 عاما، ومع سقوط نظامه عام 1975، تداعت الحواجز أمام حرية التعبير، فظهر ألمودوفار في أواخر سبعينات القرن العشرين، بأفلام تبتعد عن العنصر السياسي بقدر اقترابها من البحث في الهوية، ولو عن طريق تصوير الميول الجنسية للفرد. وعلى العكس من معظم السينمائيين الأسبان الذين ارتبطوا أساسا بالسينما الفنية الأوروبية، تأثر ألمودوفار بأفلام هوليوود، وخاصة أفلام هيتشكوك ودوغلاس فيربانكس في الاهتمام بالتشويق والسرد والحبكة، لكنه تميز أيضا بالاجتراء السائد المألوف من مفاهيم أخلاقية، وإدانة القيم الاجتماعية العتيقة (في تأثر لا شك فيه بالمخرج الأسباني لوي بونويل رغم اختلاف الأسلوبين). لم يدرس ألمودوفار السينما، وقد عاش طفولة قاسية، ولجأ إلى الكتابة في وقت مبكر للغاية، ثم انتقل بين مهن عدة منها العمل لمدة عشر سنوات في شركة الهواتف الوطنية، ثم كممثل في إحدى الفرق المسرحية الصغيرة المتجولة، ثم أسس فرقة لموسيقى “الروك” حيث كان يعزف ويغني مع عدد من شباب “البانك”، وواصل كتابة القصص المثيرة المليئة بالمشاهد الفاضحة قبل أن ينتقل إلى تصوير الأفلام القصيرة بإحدى من كاميرات الهواة (مقاس 8 مم)، قبل أن يخرج فيلمه الروائي الطويل الأول (عام 1978) الولع بالأم موجود في سيرة ألمودوفار الشخصية، وهو ما يبرز في أفلامه الشهيرة مثل “كل شيء عن أمي” و”تربية سيئة” دور الأم فيلمه السابق مباشرة “إنني أشعر بالابتهاج” (2013)، اعتبر سقطة كبرى في مساره الفنّي، رغم أنه ربما يكون أكثر أفلامه تعبيرا عن ميوله ومشاعره الجنسية، ولكنّه رغم ذلك، أقلها قيمة من الناحية الفنية. ومن أكثر أفلامه تعبيرا عن أسلوبه من عالمه وشخصيته، فيلم “فولفر” (أو العودة)- 2006، وهو قريب مما يرويه في “جوليتا”. هنا قصة تقع في مدريد أيضا، محورها المرأة وأبطالها من النساء، يكاد الرجل يغيب عنها، حول شقيقتين من الطبقة العاملة، فقدتا والدتهما التي تظهر لهما على هيئة شبح للاطمئنان عليهما: الابنة الأولى (بنيلوب كروز) مضطرة للعمل في أكثر من مهنة صغيرة للإنفاق على منزل أصبح دور الزوج فيه غائبا، فهو عاطل، سكير، عدواني يعتدي أيضا على ابنة زوجته التي تربت في كنفه ويحاول اغتصابها فتقتله ثم تأتي أمها فتضع جثته داخل ثلاجة كبيرة في المطعم الذي تعمل فيه، ثم تستعين بصديقتها لدفن الثلاجة في مكان ناء. الولع بالأم موجود في سيرة ألمودوفار الشخصية، وهو ما يبرز في هذا الفيلم كما في أفلامه الشهيرة مثل “كل شيء عن أمي” و”تربية سيئة”، وهو يروي من خلال مشاهد عودة إلى الماضي، كيف شب حريق متعمد بيدي الأم أدى إلى مصرع شقيقتها أي خالة المرأتين، انتقاما منها بعد أن أقامت علاقة مع زوج شقيقتها، وقد حرق الزوج أيضا أثناء نومه مع الخالة، وأصيبت ابنة الخالة بالسرطان وليس هناك أمل في شفائها، أما الابنة الأولى فهي مصابة بالاكتئاب، وتكافح الثانية من أجل البقاء ثم تتستّر على قتل ابنتها لزوجها. حكاية من داخل حكاية، منسوجة معا بطريقة الساحر الأسباني، المولع بالمتاهات، ينسجها ويدخلنا إليها، ثم يخرجنا منها بلمسة ساحرة. وتلعب الصدفة دورا كبيرا في كل هذه القصص، كما في “جوليتا” أيضا، لكن لدى ألمودوفار القدرة على إقناعنا بها، فهي تستمر كما لو كانت من عالم الأحلام. ويصور ألمودوفار شخصياته وكأنها تعيش حالة من الفزع يدفعها لارتكاب أعمال غير عادية، وتبدو الشخصيات وكأنها تهمس لنفسها. أما حركة الكاميرا فتتسلل بخفة بين الشخصيات والأماكن، بحيث لا نشعر بها، وتساهم الإضاءة في جعل الأحداث كأنها تدور بين الحلم واليقظة. كعوب عالية وفي فيلم “كعوب عالية” (1993) يروي ألمودوفار حكاية حول فتاة تعلقت بأمها في طفولتها إلى درجة جعلتها تتشبه بها في كل شيء، لكن الأم التي كانت تسعى لتحقيق الشهرة في عالم الغناء، آثرت أن تهاجر إلى المكسيك، وأن تترك ابنتها فى رعاية أبيها الذي انفصلت عنه. وتكبر الفتاة وتتزوج ثم تعود الأم بعد خمسة عشر عاما إلى مدريد لإحياء أول حفل غنائي كبير لها وسط جمهور بلدها، لكنها تصدم عندما تعرف أن ابنتها تزوجت من رجل كان عشيقا لها من قبل، دون أن يعرف الرجل أنها ابنة تلك المرأة. إلى هنا والأحداث مبررة على أرضية التحليل النفسي، فالابنة (ربيكا) المرتبطة كثيرا بأمها، كانت تحاول العيش من خلال شخصية الأم، لدرجة أنها قامت أيضا وهي طفلة صغيرة، بتدبير مقتل زوج أمها في حادث سيارة عندما وضعت له أقراصا مخدرة، والسبب أنه كان يعارض ذهاب الأم إلى المكسيك. لا تعترف الابنة ب”الجريمة” إلا عندما تواجه الأم في النصف الثاني من الفيلم، أي بعد وقوع جريمة ثانية يذهب ضحيتها هذه المرة زوج الابنة (ربيكا) نفسها، وتكون سببا في إضافة المزيد من التعقيدات على مسار الفيلم على طريقة ألمودوفار. وما يحدث هو أن الرجل يُقتل في فراشه، ويقوم قاضي التحقيق الشاب باستدعاء الثلاثة اللاتي يشك في ارتكاب إحداهن الجريمة: الأم والابنة وامرأة ثالثة كان الزوج القتيل قد بدأ معها علاقة عاطفية مؤخرا. وبعد أن يقوم القاضي بإخلاء سبيل المرأة الثالثة بسبب عدم توفر دافع، يضيّق خناقه على الأم والابنة. لكنه يشعر بالتعاطف مع الابنة، ويميل إلى تبرئتها. أما الابنة، وهي مذيعة في محطة تلفزيون يمتلكها زوجها القتيل، فتقرأ خبر وفاة زوجها في نشرة الأخبار، دون أن تنتبه فتنهار وتعترف بأنها قتلته بعد أن شكت في محاولته استئناف علاقته مع أمها. وبعد القبض عليها يحاول المحقق الوصول منها إلى الحقيقة لكنها تفاجئه بإنكار ارتكاب الجريمة. ويقتنع الرجل الذي يشعر تجاهها بالحب بل ويبدي أيضا رغبته في مساعدتها في الخلاص من مأزقها إذا قدمت له الدليل. وتسقط الأم مريضة بعد أن تكالب المرض عليها وبعد أن أدركت كم أخطأت في حق ابنتها. وتنصلح العلاقة بين الأم والابنة، وتصرّ الأم على الاعتراف بارتكاب الجريمة حتى تكفّر عما اقترفته في حق ابنتها، وبالفعل تقوم ربيكا بإحضار المسدس الذي قتلت به زوجها لكي تترك الأم بصماتها عليه ليكون دليلا ضدها، وينتهي الفيلم والأم تنتظر وفاتها في أي لحظة.. ومع موتها سوف تختفي الحقيقة إلى الأبد. ويمتلئ الفيلم بكافة الأنماط والقوالب التي تتميز بها أفلام ألمودوفار، من الإفراط في استخدام الديكورات الصارخة والألوان المتناقضة، والملابس الغريبة، والأغاني العاطفية المثيرة للبكاء تارة وللضحك تارة أخرى، والخلط بين المواقف الحزينة التي تتفجر منها الكوميديا، وهو أسلوب مشابه كثيرا لأسلوبه في “جوليتا”. بعيدا عن الواقع عالم ألمودوفار لا علاقة له بالواقع، والتعامل مع أفلامه من خلال منهج الواقعية غير مجد، فهو يؤمن بأن السينما ليست سوى وسيلة لتضخيم الواقع والإضافة إليه من الخيال بقدر الإمكان. وفى أفلامه يبدو كل شيء ممكنا: أن يقتل المرء ثم لا ينال عقابا بل يواصل حياته كما كانت من قبل، وأن يحصل على كل ما يشاء بسهولة وبساطة متناهية. والعنف في أفلامه ليس سوى وسيلة لتفريغ المشاعر أو للتعبير عن الحب، والمرأة رغم تمتعها بموقع الصدارة، تبدو تدور في فلك الرجل، أو كأن مشكلتها الأساسية مع الرجل، فهو مصدر السعادة ومصدر الشقاء. وكل هذا مقبول وقد اعتاد عليه الجمهور، أما ما جعل فيلم “جوليتا” يقابل ببعض البرود في “كان”، فربما يعود إلى أنه نقل موضوعه وشخصياته من بيئة “أنغلوساكسونية” إلى البيئة الأسبانية قسرا، فغابت تلك اللمسة السحرية الخاصة التي تجعل عادة أكثر المستحيلات في سينما ألمودوفار، مقبولة وممتعة. جاء المخرج الأسباني الشهير بيدرو ألمودوفار بفيلمه الجديد “جوليتا” إلى مهرجان كان منافسا على السعفة الذهبية التي لم يحصل عليها، وقد قوبل باهتمام كبير رغم أنه الفيلم الوحيد في المسابقة الذي سبق عرضه في بلده أسبانيا قبل شهر من عرضه في كان وهو ما يسمح به قانون المهرجان. ألمودوفار الذي عرفه العالم كمخرج-مؤلف، يعتمد في فيلمه الجديد على أصل أدبي، ثلاث قصص قصيرة للكاتبة الكندية أليس مونرو الحاصلة على جائزة نوبل في الأدب. هذه القصص منفصلة عن بعضها البعض لكن ألمودوفار، الذي كتب سيناريو فيلمه كما يفعل عادة، نقل مناخها وشخصياتها، وقام بتوليفها معا ليصنع منها حبكة الفيلم الذي أسند بطولته إلى ممثلتين تقوم كل منهما بدور الشخصية الرئيسية، ما بين الحاضر والماضي. الانتقال بين الأزمنة من بين السمات المتكررة في أفلام ألمودوفار، كذلك الاهتمام بالشخصيات النسائية التي يجد نفسه أقرب إليها، وهي التي منحت الكثير من أفلامه السابقة أهميتها وقوّتها، فالمرأة عنده تعادل العالم بأسره. والشخصية الرئيسية في الفيلم الجديد “جوليتا”، هي امرأة في الخمسينات من عمرها، تتأهب لمغادرة مدريد مع رفيقها “لورنزو” للعيش بصفة نهائية في البرتغال، لكنها تلتقي مصادفة صديقة ابنتها “أنيتا” التي لم ترها منذ أن كانت في الثالثة عشرة من عمرها أي منذ نحو 26 عاما. وتعرف من الفتاة أن ابنتها أنجبت ثلاثة أبناء، وأنها تسأل عنها. في هذه اللحظة تقرر جوليتا إلغاء السفر والبقاء في مدريد حيث تنتقل لتقطن في نفس البناية التي كانت تقيم فيها من قبل مع ابنتها، وهناك تبدأ في كتابة رسائل إلى “أنيتا” تسترجع من خلالها ما حدث في الماضي، من خلال قصص كثيرة تخفي أكثر مما تكشف، يتجاور فيها الموت والحب والجنس والميلاد، وتعكس شعورا دفينا بالفقدان المرير، ورثاء الذات. نعود في الزمن لنرى جوليتا (شابة حسناء) تلتقي خلال رحلة لها بالقطار رجلين، الأول عجوز غريب الأطوار يتصرف بفظاظة معها، فترده بخشونة، وتغادر العربة، لينتهي بعد قليل إلى الموت انتحارا تحت عجلات القطار. وفي عربة الطعام، تلتقي بالثاني “زولان” الشاب الوسيم الذي تعرف أنه متزوج لكن زوجته ترقد في غيبوبة منذ سنوات، وتقع جوليتا في غرامه وتقيم معه علاقة جسدية، تسفر عن إنجاب “أنيتا”، ثم تذهب إليه بعد إنجاب ابنتها حيث يقيم في منزله الفخم في الريف الأسباني، في نفس يوم تشييع جنازة زوجته. ورغم أن لدى زولان عشيقة إلا أنه يرحب بجوليتا، ويستأنف علاقته بها ثم يتزوجها، على الرغم من امتعاض مدبرة المنزل الغامضة المخيفة “ماريان” التي تحاول دفع جوليتا للمغادرة، وتخفي أشياء لا يكشفها لنا الفيلم. إنها تشبه شخصيات النساء في عالم هيتشكوك المثير. ثم تتداعى المصادفات والأحداث الغريبة والقصص التي تخرج من جوف قصص أخرى، وصولا إلى ذروة الميلودراما كما جرى العرف في سينما ألمودوفار. عشيقة زولان “أفا” تصبح أقرب صديقات جوليتا، وزولان الذي كان مغرما بالصيد، يخرج ذات يوم للصيد بقارب في عرض البحر فتهب عاصفة شديدة تؤدي إلى غرقه في القارب لكننا لا نرى الحادث، كما لم نر من قبل موت رفيق القطار العجوز، فألمودوفار لا يصور الموت، بل ولا يصور أيضا كيف تأزمت علاقة جوليتا بابنتها، وما الذي دفع الابنة إلى الفرار من الأم بعد أن أصبحت في الخامسة عشرة من عمرها، وذهبت للعيش في أحد الأديرة، وتخلت عن أمها وصديقتها الحميمة. لا شك أن الأصول الأدبية المنفصلة تركت تأثيرا سلبيا على السيناريو، فجاء الفيلم رغم جاذبية السرد وجمال الصور، وتميز الموسيقى والتمثيل، غامضا على نحو يجعل المتفرج يشعر بنوع من الإحباط، فالحبكة غير مشبعة، والتفاصيل تظل مدفونة حتى النهاية. ورغم ذلك يحتفظ الفيلم بأسلوب ألمودوفار الذي يقوم على الحكي، داخل منطقة بين الواقع والخيال، وبين الحلم واليقظة، تعتمد على الشخصيات النسائية المتعددة (الأم، الابنة، صديقة الأم، صديقة الابنة، الخادمة) بينما تبدو شخصيات الرجال هامشية، كما تظهر المرأة أكثر وضوحا في مشاعرها وانفعالاتها، تعبّر عن نفسها بقوة ولو من خلال الاعتراض على لون ورق الحائط ! ظهور الفنان ألمودوفار هو بلا شك، أهم فنان سينمائي ظهر في أسبانيا بعد زوال دكتاتورية فرانكو الذي حكم البلاد بقبضة حديدية لمدة 36 عاما، ومع سقوط نظامه عام 1975، تداعت الحواجز أمام حرية التعبير، فظهر ألمودوفار في أواخر سبعينات القرن العشرين، بأفلام تبتعد عن العنصر السياسي بقدر اقترابها من البحث في الهوية، ولو عن طريق تصوير الميول الجنسية للفرد. وعلى العكس من معظم السينمائيين الأسبان الذين ارتبطوا أساسا بالسينما الفنية الأوروبية، تأثر ألمودوفار بأفلام هوليوود، وخاصة أفلام هيتشكوك ودوغلاس فيربانكس في الاهتمام بالتشويق والسرد والحبكة، لكنه تميز أيضا بالاجتراء السائد المألوف من مفاهيم أخلاقية، وإدانة القيم الاجتماعية العتيقة (في تأثر لا شك فيه بالمخرج الأسباني لوي بونويل رغم اختلاف الأسلوبين). لم يدرس ألمودوفار السينما، وقد عاش طفولة قاسية، ولجأ إلى الكتابة في وقت مبكر للغاية، ثم انتقل بين مهن عدة منها العمل لمدة عشر سنوات في شركة الهواتف الوطنية، ثم كممثل في إحدى الفرق المسرحية الصغيرة المتجولة، ثم أسس فرقة لموسيقى “الروك” حيث كان يعزف ويغني مع عدد من شباب “البانك”، وواصل كتابة القصص المثيرة المليئة بالمشاهد الفاضحة قبل أن ينتقل إلى تصوير الأفلام القصيرة بإحدى من كاميرات الهواة (مقاس 8 مم)، قبل أن يخرج فيلمه الروائي الطويل الأول (عام 1978) الولع بالأم موجود في سيرة ألمودوفار الشخصية، وهو ما يبرز في أفلامه الشهيرة مثل “كل شيء عن أمي” و”تربية سيئة” دور الأم فيلمه السابق مباشرة “إنني أشعر بالابتهاج” (2013)، اعتبر سقطة كبرى في مساره الفنّي، رغم أنه ربما يكون أكثر أفلامه تعبيرا عن ميوله ومشاعره الجنسية، ولكنّه رغم ذلك، أقلها قيمة من الناحية الفنية. ومن أكثر أفلامه تعبيرا عن أسلوبه من عالمه وشخصيته، فيلم “فولفر” (أو العودة)- 2006، وهو قريب مما يرويه في “جوليتا”. هنا قصة تقع في مدريد أيضا، محورها المرأة وأبطالها من النساء، يكاد الرجل يغيب عنها، حول شقيقتين من الطبقة العاملة، فقدتا والدتهما التي تظهر لهما على هيئة شبح للاطمئنان عليهما: الابنة الأولى (بنيلوب كروز) مضطرة للعمل في أكثر من مهنة صغيرة للإنفاق على منزل أصبح دور الزوج فيه غائبا، فهو عاطل، سكير، عدواني يعتدي أيضا على ابنة زوجته التي تربت في كنفه ويحاول اغتصابها فتقتله ثم تأتي أمها فتضع جثته داخل ثلاجة كبيرة في المطعم الذي تعمل فيه، ثم تستعين بصديقتها لدفن الثلاجة في مكان ناء. الولع بالأم موجود في سيرة ألمودوفار الشخصية، وهو ما يبرز في هذا الفيلم كما في أفلامه الشهيرة مثل “كل شيء عن أمي” و”تربية سيئة”، وهو يروي من خلال مشاهد عودة إلى الماضي، كيف شب حريق متعمد بيدي الأم أدى إلى مصرع شقيقتها أي خالة المرأتين، انتقاما منها بعد أن أقامت علاقة مع زوج شقيقتها، وقد حرق الزوج أيضا أثناء نومه مع الخالة، وأصيبت ابنة الخالة بالسرطان وليس هناك أمل في شفائها، أما الابنة الأولى فهي مصابة بالاكتئاب، وتكافح الثانية من أجل البقاء ثم تتستّر على قتل ابنتها لزوجها. حكاية من داخل حكاية، منسوجة معا بطريقة الساحر الأسباني، المولع بالمتاهات، ينسجها ويدخلنا إليها، ثم يخرجنا منها بلمسة ساحرة. وتلعب الصدفة دورا كبيرا في كل هذه القصص، كما في “جوليتا” أيضا، لكن لدى ألمودوفار القدرة على إقناعنا بها، فهي تستمر كما لو كانت من عالم الأحلام. ويصور ألمودوفار شخصياته وكأنها تعيش حالة من الفزع يدفعها لارتكاب أعمال غير عادية، وتبدو الشخصيات وكأنها تهمس لنفسها. أما حركة الكاميرا فتتسلل بخفة بين الشخصيات والأماكن، بحيث لا نشعر بها، وتساهم الإضاءة في جعل الأحداث كأنها تدور بين الحلم واليقظة. كعوب عالية وفي فيلم “كعوب عالية” (1993) يروي ألمودوفار حكاية حول فتاة تعلقت بأمها في طفولتها إلى درجة جعلتها تتشبه بها في كل شيء، لكن الأم التي كانت تسعى لتحقيق الشهرة في عالم الغناء، آثرت أن تهاجر إلى المكسيك، وأن تترك ابنتها فى رعاية أبيها الذي انفصلت عنه. وتكبر الفتاة وتتزوج ثم تعود الأم بعد خمسة عشر عاما إلى مدريد لإحياء أول حفل غنائي كبير لها وسط جمهور بلدها، لكنها تصدم عندما تعرف أن ابنتها تزوجت من رجل كان عشيقا لها من قبل، دون أن يعرف الرجل أنها ابنة تلك المرأة. إلى هنا والأحداث مبررة على أرضية التحليل النفسي، فالابنة (ربيكا) المرتبطة كثيرا بأمها، كانت تحاول العيش من خلال شخصية الأم، لدرجة أنها قامت أيضا وهي طفلة صغيرة، بتدبير مقتل زوج أمها في حادث سيارة عندما وضعت له أقراصا مخدرة، والسبب أنه كان يعارض ذهاب الأم إلى المكسيك. لا تعترف الابنة ب”الجريمة” إلا عندما تواجه الأم في النصف الثاني من الفيلم، أي بعد وقوع جريمة ثانية يذهب ضحيتها هذه المرة زوج الابنة (ربيكا) نفسها، وتكون سببا في إضافة المزيد من التعقيدات على مسار الفيلم على طريقة ألمودوفار. وما يحدث هو أن الرجل يُقتل في فراشه، ويقوم قاضي التحقيق الشاب باستدعاء الثلاثة اللاتي يشك في ارتكاب إحداهن الجريمة: الأم والابنة وامرأة ثالثة كان الزوج القتيل قد بدأ معها علاقة عاطفية مؤخرا. وبعد أن يقوم القاضي بإخلاء سبيل المرأة الثالثة بسبب عدم توفر دافع، يضيّق خناقه على الأم والابنة. لكنه يشعر بالتعاطف مع الابنة، ويميل إلى تبرئتها. أما الابنة، وهي مذيعة في محطة تلفزيون يمتلكها زوجها القتيل، فتقرأ خبر وفاة زوجها في نشرة الأخبار، دون أن تنتبه فتنهار وتعترف بأنها قتلته بعد أن شكت في محاولته استئناف علاقته مع أمها. وبعد القبض عليها يحاول المحقق الوصول منها إلى الحقيقة لكنها تفاجئه بإنكار ارتكاب الجريمة. ويقتنع الرجل الذي يشعر تجاهها بالحب بل ويبدي أيضا رغبته في مساعدتها في الخلاص من مأزقها إذا قدمت له الدليل. وتسقط الأم مريضة بعد أن تكالب المرض عليها وبعد أن أدركت كم أخطأت في حق ابنتها. وتنصلح العلاقة بين الأم والابنة، وتصرّ الأم على الاعتراف بارتكاب الجريمة حتى تكفّر عما اقترفته في حق ابنتها، وبالفعل تقوم ربيكا بإحضار المسدس الذي قتلت به زوجها لكي تترك الأم بصماتها عليه ليكون دليلا ضدها، وينتهي الفيلم والأم تنتظر وفاتها في أي لحظة.. ومع موتها سوف تختفي الحقيقة إلى الأبد. ويمتلئ الفيلم بكافة الأنماط والقوالب التي تتميز بها أفلام ألمودوفار، من الإفراط في استخدام الديكورات الصارخة والألوان المتناقضة، والملابس الغريبة، والأغاني العاطفية المثيرة للبكاء تارة وللضحك تارة أخرى، والخلط بين المواقف الحزينة التي تتفجر منها الكوميديا، وهو أسلوب مشابه كثيرا لأسلوبه في “جوليتا”. بعيدا عن الواقع عالم ألمودوفار لا علاقة له بالواقع، والتعامل مع أفلامه من خلال منهج الواقعية غير مجد، فهو يؤمن بأن السينما ليست سوى وسيلة لتضخيم الواقع والإضافة إليه من الخيال بقدر الإمكان. وفى أفلامه يبدو كل شيء ممكنا: أن يقتل المرء ثم لا ينال عقابا بل يواصل حياته كما كانت من قبل، وأن يحصل على كل ما يشاء بسهولة وبساطة متناهية. والعنف في أفلامه ليس سوى وسيلة لتفريغ المشاعر أو للتعبير عن الحب، والمرأة رغم تمتعها بموقع الصدارة، تبدو تدور في فلك الرجل، أو كأن مشكلتها الأساسية مع الرجل، فهو مصدر السعادة ومصدر الشقاء. وكل هذا مقبول وقد اعتاد عليه الجمهور، أما ما جعل فيلم “جوليتا” يقابل ببعض البرود في “كان”، فربما يعود إلى أنه نقل موضوعه وشخصياته من بيئة “أنغلوساكسونية” إلى البيئة الأسبانية قسرا، فغابت تلك اللمسة السحرية الخاصة التي تجعل عادة أكثر المستحيلات في سينما ألمودوفار، مقبولة وممتعة.