لا يبدو المخرج الاسباني بيدرو المودفار في أفضل حالاته في فيلمه الجديد الذي ينافس في مسابقة مهرجان كان السينمائي الدولي لهذا العام، إذ يفتقد تلك الهالة التي ميزت العديد من أعماله الناجحة والتي عادة ما تنتزع صيحات الاعجاب من جمهورها وتظل في ذاكرتهم منذ المشاهدة الأولى. وعلى الرغم من عودته إلى موضوعيته الأثيرة في اختيار بطلته المرأة المأزومة التي برع في تقديمها، كما في "نساء على حافة الانهيار العصبي" و"كل شي عن أمي" و"زهرة اسراري" و"عودة" أو (فولفر)،على سبيل المثال لا الحصر، إلا أن المودفار بدا في هذا الفيلم مربكا بين ترسيخ ملامحه الاسلوبية الخاصة التي عرف بها ومحاولة نقل وتطويع عمل أدبي راسخ ينهل من مصادر مختلفة عنه وله تقاليده الخاصة، ليقدمه في سياقه الاسلوبي. فالمودفار الذي عرف بتقديم سينما نابضة بالحياة، مشرقة رغم الآلام التي تعتري شخصياتها، مغرقة في ألوانها وحسيتها وعاطفيتها، ساخرة ومرحة رغم أنها تسير في عمق الميلودراما، (يحب المودفار الميلودراما كما صرح أكثر من مرة لكنه يخرج من أسوارها بسخريته الحادة)، سينما تنهل من روح وخصوصية الشخصية الاسبانية لتخرج منها بقيم إنسانية عامة، بدا في فيلمه الجديد يلعب في منطقة مختلفة كليا عما عرف عنه، ولها خصوصيتها الاسلوبية المختلفة و(محليتها) المقابلة التي يجهل المودفار الكثير من محركاتها، ونعني بها هنا عالم كاتبة القصة الكندية أليس مونرو (الحائزة على جائزة نوبل للاداب والعديد من الجوائز الأدبية الرفيعة الأخرى). تبدأ أزمة المودفار من السيناريو الذي كتبه للأصل الادبي الذي انطلق منه والمتجسد في اختيار ثلاث قصص قصيرة من مجموعة مونرو "هروب" الصادرة عام 2004. وكان هذا الاختيار لكاتبة وصفها البعض بأنها "تشيخوف امرأة" (في إشارة الى أحد رموز فن القصة القصيرة، الكاتب الروسي انطوان تشيخوف)، منبع تحد لمخرج عرف عنه ولعه بالميلودراما وتعبيريته الصارخة، التي تبدو بعيدة كليا عن امرأة اختارت القصة القصيرة فنا أساسيا لها، وظلت تحفر بهدوء ولغة حيادية في تعقيدات الوجود الإنساني فعرفت بأنها "تضمر أكثر مما تعلن، وتكشف أكثر مما تستعرض". قد تكون موضوعية المرأة، وتلك العلاقة المأزومة مع والدتها التي تتكشف في الكثير من كتاباتها هي ما جذب المودفار إليها، اذ وجد في شخصياتها ما يراه تشابها مع بطلاته، لكنه في الحقيقة وقع في مأزق التعامل مع كاتبة عميقة تنهل كثيرا من محليتها، وبالتحديد من تلك البلدة التي عاشت فيها ريف مقاطعة هيورن في اونتاريو بكندا. وفي الوقت الذي تزخر فيه أفلام المودفار بحبكات معقدة تحفل بتقاطع مسارات شخصيات ومصائر مختلفة، وتلعب المصادفة في الغالب دورا اساسيا فيها، نرى أن الحبكة في قصص مونرو تحتل موقعا ثانويا لا تراهن عليه كثيرا مقابل لحظة الكشف لدى شخصياتها المعزولة والحائرة وسط جريان الزمن فتسبر غور أحداث أو لحظات مقتطعة من الحياة وتغوص في غموضها، لتمنحها عبر تجربة الكشف معنى. قدمت مونرو في مجموعتها القصصية "هروب" ثلاث قصص لها بطلة واحدة طالبة دكتوراه ، سمتها جوليت هِندرسون، وهي ثلاث حكايات أو مشاهد مقتطعة من حياة، لكن سيدة القصة القصيرة لم تجازف في وضعها في رواية واحدة على الرغم من أن بطلتها واحدة، وهذا ما تصدى المودفار للقيام به في سيناريو فيلمه. وهنا منبع الارباك الأول في فيلم "خوليتا" والذي عمقته التعقيدات التي رافقت العملية الانتاجية والتحولات التي فرضتها على المشروع الاساسي، إذ كانت خطة المودفار الاولى أن يصور فيلمه في كندا ونيويورك ويكون ناطقا بالانجليزية، مع اختيار الممثلة ميريل ستريب لتؤدي دور شخصية جوليت (خوليتا) في مراحلها العمرية المختلفة. بيد أنه عدل عن ذلك لاحقا ليصور فيلمه في اسبانيا كما اختار ممثلتين لأداء دور خوليتا في مرحلتين عمريتين مختلفتين. الشعور بالذنبImage copyrightReutersوهذه ليست المرة الأولى التي يعتمد فيها المودفار على نص عالمي، إذ سبق أن اعتمد في فيلمه "لحم حي" عام 1997 على رواية جريمة للكاتب البريطاني، روث ريندل، وعلى رواية للكاتب الفرنسي تييري جونكيه في فيلم "الجلد الذي أعيش فيه" 2011. بيد أن الروايتين كانتا من روايات الاثارة والجريمة المشوقة لا من الأعمال الأدبية الراسخة، وعُرف اعداد المودفار لهما سينمائيا بحريته الكبيرة في التعامل معهما وعدم السعي لتقديم تجسيد حرفي لحبكتيهما وتطورات الاحداث والشخصيات فيهما. ولبناء حبكة فيلمه أخذ المودفار من قصة "مصادفة" لمونرو المشهد التأسيسي في قصته وهو تعرف خوليتا على حبيبها شوان وعقدة الذنب التي رافقتها لانتحار الرجل الذي شاركها عربة القطار، ومن قصة "مبكرا" زيارة خوليتا الى عائلتها مع طفلتها التي تحمل اسم "بينلوبي" في القصة، ومن القصة الثالثة التي تحمل اسم "صمت" أخذ المودوفار في البداية عنوان الفيلم لكنه غيره لاحقا الى "خوليتا"، فضلا عن قصة انتظار خوليتا وأملها في سماع اخبار من ابنتها التي هجرتها. وبنى المودفار حبكته على عقدة الشعور بالذنب التي رافقت الأم في القصة الأولى والأبنة لاحقا، واضطر إلى أن يتنقل في الزمن عبر مشاهد الفلاش باك ليبني مساره السردي، فالفيلم الذي يفتتح بصورة رداء أحمر يذكر بالستارة الحمراء في مفتتح فيلمه "تحدث معها" 2003، والذي استعار منه أيضا ممثله داريو غراندينيتي ليؤدي دور لورينزو حبيب خوليتا (تؤدي دورها وهي كبيرة الممثلة إيما سواريز) حيث نراهما يعدان نفسيهما للسفر للانتقال من مدريد إلى البرتغال، لكن كل شيء يتغير عندما ترى خوليتا مصادفة صديقة ابنتها في الطفولة، فتقرر البقاء وعدم مرافقة لورينزو، وتبدأ بالكتابة إلى ابنتها الغائبة وينتقل معها المخرج في فلاش باك ليسرد لنا حكايتها. فخوليتا (تؤدي دورها وهي شابة الممثلة أدريانا أوغارتي) تلتقي في رحلة قطار بمن سيصبح حبيبها لاحقا، شوان (الممثل دانيال غراو) بعد ان تترك عربتها بسبب ما تراه مضايقة رجل جلس في عربتها وحاول التحدث اليها، لكنها تعاني لاحقا من عقدة ذنب بعد أن تشهد مع شوان انتحار هذا الرجل. بين ممثلتين Image copyrightGettyفي رحلة القطار تقع خوليتا في حب شوان الذي يعمل في صيد السمك، ويمارسان الحب في القطار في مشهد يصوره المودفار بجمالية عالية في انعكاسات ظليهما على نافذة القطار، وتنتقل للعيش معه بعد وفاة زوجته التي كانت في غيبوبة لأكثر من خمس سنوات، ويرزقان بطفلة يسميانها انتيا (بينلوبي في القصة الاصلية)، وننتقل إلى حكاية ثانية عندما تزور خوليتا مع طفلتها عائلتها في الريف الاسباني، لتجد أن أباها على علاقة بالفتاة (ذات الاصول المغربية) التي تعنى بأمها المريضة. ويقدم المودفار شخصية مديرة المنزل الصارمة غريبة الأطوار (تؤدي دورها الممثلة روسي دي بالما، التي ظهرت في عدد من أفلام المودفار الأخرى) لتخبر خوليتا أن شوان كان في غيابها عند صديقته النحاتة ايفا، التي ستصبح لاحقا من اعز صديقاتها وتتعرف عندها على لورينزو الناقد الفني وحبيبها اللاحق، فتتشاجر مع شوان بسبب ذلك الذي يقرر الذهاب الى البحر على الرغم الجو العاصف حيث يفقد هناك. لنبدأ بعقدة ذنب جديدة لدى خوليتا وابنتها انتيا عندما تكبر بعد أن تبلغها مديرة المنزل بما جرى بين امها وابيها قبل موته، فتحملها مسؤولية موته، (استخدم المودفار ممثلتين أيضا لأداء دور الابنة)، وتقرر الفتاة إثر ذلك هجر أمها، التي تظل في بحث دائم عنها. في الانتقال بين الممثلتين اللتين أديتا دور خوليتا، يقدم المودفار مشهدا طريفا حيث تقوم الابنة وصديقتها بأخذ خوليتا الكئيبة (الممثلة أوغارتي) من الحمام وتنشيف شعرها، وبعد رفع المنشفة نرى وجه الممثلة سواريز وليس اوغارتي التي أدت دور خوليتا الشابة، لقد بدت سواريز أكثر اقناعا في تجسيد شخصية خوليتا في أزمتها وكآبتها من اوغاريتي الشقراء التي لم توح لنا بشخصية مورنو الأصلية جوليت طالبة الدكتوراة الحالمة والمأزومة. وتعاون المودفار في هذا الفيلم مع مدير التصوير جان- كلود لاريو (الذي عمل في معظم افلام المخرجة الاسبانية ايزابيل كويسيت)، والذي قدم لنا صورا مشرقة في ألوانها تتناسب مع روح أعمال المودفار، على الرغم من كآبة الشخصيات وأزماتها. كما التقطت كاميرته مشاهد خارجية بالغة الجمال في تصوير الريف الاسباني، في مشاهد الرحلة إلى عائلة خوليتا في الريف او العيش في المدينة الساحلية مع شوان فضلا عن مشهد ممارسة الحب وانعكاسه على نافذة القطار. ويعود المودفار في هذا الفيلم للتعاون مع موسيقاره المفضل البرتو أغليسياس، الذي وضع الموسيقى التصويرية لعدد من ابرز أفلامه وهو خير من يفهم روح المودفار ويجسدها في موسيقاه التصويرية المرافقة لنمو الشخصيات وتطوراتها الدرامية في هذه الافلام، وقد قدم في هذا الفيلم موتيفات لحنية فيها استثمار واضح لموسيقى الجاز والبلوز تظل حاضرة في اذن المشاهد بعد خروجه من صالة العرض.