سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
الدكتور بهجت قرني أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة الأمريكية بالقاهرة ل«المصري اليوم : الحديث عن السلام حاليًا في ظل حكومة نتنياهو إهدار للوقت » (1-2) حوارات مستقبل الشرق الأوسط (الحلقة الخامسة والعشرون )
وسط عالم يموج بالتحولات السياسية والاقتصادية، وفى ظل الصراعات المتزايدة التى تهز منطقة الشرق الأوسط، التى تعيش واقعًا معقدًا، بعد أكثر من عام على حرب الإبادة فى قطاع غزة دونما آفاق واضحة لإنهائها، مع تمدد النزاع إلى جنوبلبنان، ووصول أصدائه إلى اليمن والعراق، ثم إيران، نطرح فى سلسلتنا «مستقبل الشرق الأوسط» مسارات منطقتنا، عبر حوارات مع نخبة من الساسة والمنظرين والمفكرين والدبلوماسيين الحاليين والسابقين من مختلف الأطراف الإقليمية والدولية، لتقديم رؤاهم مستندين إلى تجارب الماضى ودروس الحاضر، لنستشرف معًا الطريق نحو المستقبل. وانطلاقًا من جذور الصراع العربى الإسرائيلى، مرورًا بالتدخلات الإقليمية وصعود بعض القوى الجديدة كالفواعل من غير الدول، وتعقد المشهد العربى، نفتح معًا أبواب نقاش مستنير حول الدروس المستفادة من التاريخ وتأثيرها على مستقبل منطقتنا؛ لطرح رؤى وأفكار لاستشراف الغد والدور الحاسم الذى يمكن أن تلعبه الدول العربية إذا ما أعادت إحياء روابط تاريخية فى محيطها والدفع نحو استقرار مستدام وتحقيق مصالحها. تنقسم محاور النقاش إلى جزأين، الأول أسئلة سبعة ثابتة، اعتمدناها بناء على طلب كثير من القراء، تتمركز حول مستقبل المنطقة، أما الثانى فيتضمن أسئلة تتجه نحو مساحات تتناسب مع خلفية الضيف صاحب الحوار، كى يضيف لنا أبعادا أخرى حول الرؤية التى تنتهى إليها الحوارات وصولا إلى كيف يمكن أن يكون للمنطقة مشروعها الخاص، بعيدا عن أى مخططات تستهدفها؟. يرى الدكتور بهجت قرنى، أستاذ العلاقات الدولية والاقتصاد السياسى بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، والأستاذ الفخرى بجامعة مونتريال بكندا، زميل الأكاديمية الملكية بكندا، أن مصطلح الشرق الأوسط هو تعبير وافد من الخارج لا أساس علميًا له، معتبرًا أنه تعبير نسبى فضفاض وغامض يتيح لأطراف دولية إقحام أى دولة داخله، مؤكدًا أن دولة الاحتلال تتعامل فى المنطقة باعتبارها قوة عظمى، بعد أن باتت مفروضة وقائمة ولم تعد بحاجة للتطبيع الذى كانت تسعى إليه فى السنوات الماضية حتى صار بمقدورها فعل ما يحلو لها. اعتبر «قرنى»، المؤسس والمدير الأول لمنتدى الجامعة الأمريكية، فى حواره ل«المصرى اليوم»، أن ممارسات دولة الاحتلال جعلت السلام مسألة صعبة فى الوقت الراهن، مشددًا على ضرورة توحيد الجهود العربية بغرض التصدى لقوة إسرائيل الغاشمة باعتبار ذلك السبيل الوحيد لتحقيق السلام والاستقرار بالمنطقة. وشدد «قرنى» على أهمية تقوية الجبهة الداخلية للبلاد ماديًا من ناحية التعليم والصحة والاقتصاد، ومعنويًا من ناحية علاقة السلطة بالمجتمع، باعتبار ذلك الوسيلة المثلى لمنع الانزلاق إلى هوة «الدولة الهشة الفاشلة».. وإلى نص الحوار: ■ مصطلح الشرق الأوسط هو تعبير جغرافى استعمارى.. لكنه صار المصطلح السائد للحديث عن المنطقة التى تضم الدول العربية وإيرانوتركيا ودولًا أخرى، وعانت المنطقة على مدار التاريخ من صراعات على خلفيات متعددة، تجذرت من مخططات الاستعمار حتى باتت بقعة ملتهبة دائمًا على خريطة العالم.. برأيك، كيف ترى واقع المنطقة وأثر التاريخ فى هذا الأمر؟ - إن تعبير «الشرق الأوسط» هو تعبير وافد من الخارج ولا يوجد له أى أساس علمى بالمرة، فالشرق الأوسط هو «أوسط» من وجهة نظر من؟ أحيانًا ما كان الفرنسيون يستخدمون تعبيرات الشرق الأدنى للإشارة إلى المنطقة القريبة من أوروبا، (والتى تضم تركيا ومنطقة الهلال الخصيب وبلاد الشام)، وكذلك الشرق الأقصى فى الإشارة إلى آسيا، إذن فالتعبير يعكس فقط رؤية من صاغوه دون أساس علمى، وبالتالى فإن تقسيم الشرق إلى أدنى وأوسط وأقصى هو شىء نسبى ومقيد بوجهة نظر من حدد إطاره؛ وحتى فى تطبيقاته نجد أن الحملة الفرنسية كان لها تأثير فى إرساء المصطلح، إذ كانت القيادات العسكرية هى التى تنظم العمليات من ناحية الأدنى والأوسط والأقصى، ورغم ذلك يظل ثمة غموض بشأن حدوده، أى حدود الشرق الأوسط، ففى بعض الأحيان كان يتم إقحام باكستان ضمن حدود ما يطلق عليه الشرق الأوسط، وأحيانًا أخرى قبرص واليونان، وهو ما يجعل المصطلح فضفاضًا وغامضًا فى آن واحد. وأود هنا الإشارة إلى تجربة شخصية، حين استعانت بى جامعة مونتريال، بعد إتمام الدكتوراه فى سويسرا، لتدريس نظرية العلاقات الدولية، وأوكلت الجامعة إلىَّ مهمة تطوير قسم يُعنى ب«دراسات الشرق الأوسط» على أن أتولى رئاسته، وكان ذلك فى فترة السبعينيات، رفضت فكرة التسمية، وعرضت أن يكون القسم تحت اسم «دراسات المنطقة العربية»، وهو الاسم الذى لاقى معارضة فى البداية من إدارة الجامعة باعتباره غير مُستساغ وغير معتاد، فقلت إن منطقة الشرق الأوسط هى منطقة غير واضحة الحدود، وإن الأحرى هو وضع الأسس استنادًا إلى مؤسسة قائمة على حدود واضحة، وهى حدود المنطقة العربية، وناقشت جامعة مونتريال، من منطلق أن هناك مؤسسة إقليمية للدول العربية وهى جامعة الدول العربية، بينما لا توجد منظمة دولية للشرق الأوسط. وهو ما يؤكد الأساس العلمى لفكرة «المنطقة العربية» وليس «الشرق الأوسط» التى تقوم على تقسيم ومنظور نسبى وهلامى خاضع للتغيير المطرد فقبلوا التسمية فى النهاية، وأسسوا بعدها برنامجًا آخر تحت اسم «الدراسات اليهودية». بعدها قمت بتأليف كتاب مع الدكتور، على الدين هلال، عن «السياسات الخارجية للدول العربية»، لكى نرصد الواقع العربى، نظرًا لعدم وجود الكثير من الكتابات عن السياسات الخارجية لدول الشرق الأوسط، وتحديدًا الدول العربية، وكان الهدف من تلك المساعى البحثية هو فرض الواقع العربى على المنطقة من ناحية علمية، وذلك من منطلق إدراكنا لطبيعة من الكائن داخل المنطقة العربية ومن خارجها. ■ برز مصطلح «الشرق الأوسط» فى كتابات الأمريكى ألفريد ماهان عام 1902 قبل أن تتحدث كونداليزا رايس عن «الشرق الأوسط الجديد»، وهو ما يتردد بقوة حاليًّا فى ظل الحرب الإسرائيلية والصراع مع إيران.. كيف ترى ذلك المخطط، فى ظل حكم ترامب وصعود اليمين فى الولايات المتحدة؟ - ليس هناك بجديد فى هذا الشأن، والتغيير من الشرق الأوسط القديم للجديد أساسه إدماج إسرائيل فى المنطقة، والواقع أن أول من استخدم مصطلح الشرق الأوسط الجديد هو شيمون بيريز، وتحدث عنه بعد زيارة الرئيس الراحل أنور السادات لإسرائيل، وأصدر فى ذلك كتابًا بعنوان «الشرق الأوسط الجديد»، بعدها تواتر استخدام اللفظ، ولكن المهم هنا هو أن لفظة «الجديد» تلفت النظر إلى مسألة «التغير»، وهو ما دفعنى وبعضًا من الأساتذة فى عام 2008 لإصدار كتاب بعنوان «الشرق الأوسط المتغير»، تمت ترجمته للعربية، ويدحض النظرة الاستاتيكية التى تعتقد فى ثبات المنطقة، وانتهينا من تأليف الكتاب عام 2010، لتأتى بعد صدوره موجة الربيع العربى، فاعتبرت بعض وسائل الإعلام الأمريكية أن الكتاب تنبأ بالربيع العربى ولكن فى حديثى مثلًا لشبكة «سى إن إن» أوضحت أن الكتاب ليس بتنبؤ وإنما هو تشخيص للتغيرات التى تشهدها المنطقة، وكان دورنا أشبه بدور الجيولوجى الذى يرى التغيير والاضطراب فى طبقات الأرض دون الجزم بحدوث الزلزال. وأعتقد أن المنطقة تمر فى الوقت الراهن بتغيرات جديدة لاسيما بعد توقيع الاتفاقات الإبراهيمية. ■ برأيك ماذا تفعل القوى الإقليمية الكبيرة فى المنطقة إزاء هذه المخططات، وبالتحديد مصر والسعودية، بوصفهما الدولتين الكبيرتين فى المنطقة؟ - أهمية التنسيق العربى أساسية، ففى عهد الزعيم الراحل جمال عبدالناصر وحتى الآن لايزال بعض الناصريين يتحدثون عن مصر باعتبارها الدولة الكبرى التى يتعين عليها دومًا أن تتصدر المشهد، ولكن التغيرات التى تمر بها المنطقة تجعل من غير المنطقى أن تظل القيادة فردية، فالمنطقة تغيرت، وبالتالى أصبحت القيادة الفردية صعبة، ومن ثم فإن التنسيق مع السعودية بات أساسيًا كونهما (أى مصر والسعودية) القوتين الإقليميتين الرئيسيتين الأكثر دراية بالمنطقة، ولكن ينبغى التعامل مع هذا النهج باعتباره وسيلة للحشد العربى، وليس للقيادة الفردية، بمعنى أن السعودية ومصر ركيزتان أساسيتان للحشد العربى وتشكيل جبهة عربية موحدة فقط دونما الانفراد بتصدر المشهد وقيادة منطقة لاتزال قيد التغيير. ■ يغيب أىّ مشروع عربى موحد تجاه ما يُخطط للمنطقة، خاصة مستهدفات التوسع الإسرائيلى التى ظهرت واضحة فى غزةولبنانوسوريا، والحديث عن نية ضم أراضٍ أخرى على الخريطة العربية، وهو التوجه الذى ترجمه «ترامب» عند حديثه عن إسرائيل الصغيرة التى يجب أن تتمدد.. كيف يصوغ العرب مشروعهم المواجه لهذه المخططات؟ - أؤمن بالمنهجية العلمية فى التحليل، وبالنظر للمنطقة، يمكن القول وبشكل صريح إن الدولة العظمى عسكريًا فى المنطقة هى إسرائيل، حيث بات بمقدورها أن تفعل ما يحلو لها، وأن تدخل إلى أى أراضٍ وتوجه ضربات دون أى خسائر فى سلاح طيرانها الذى ينفذ تلك الضربات. لقد دخلت قوات الاحتلال إلى سوريا ووصلت حتى القصر الرئاسى ونفذت ضربات فى محيطه، وقررت الاستيلاء على غزة، وتتمسك بأن معظم القطاع سيكون جزءًا من إسرائيل، رغم أنها فى البداية قالت إن هدفها من الحرب هو القضاء على حماس، ولكنها الآن تريد أرض غزة. إذن تشخيص المشكلة هو أننا أمام دولة تتصرف كالدولة العسكرية العظمى، ومن منطلق هذا المعطى علينا أن نبحث عن الأسباب التى مكنت إسرائيل من الوصول لتلك المرحلة. حين كنا طلبة، وذلك بعد 67، أثناء الدراسة فى سويسرا، التقينا فرنسيًا من أصل يهودى، فى عام 1968، قدم لنا أفضل توصيف للحالة الإسرائيلية وقال إنها تمثل استعمارًا استيطانيًا، وأضيف الآن إلى هذا الوصف كلمة «توسعى»، فالاحتلال الإسرائيلى جل همه هو كيف يضم أراضى جديدة، بدءًا من الضفة وغزة، ثم يطلب من «ترامب» جزءًا من سيناء، ثم يدير طرفه صوب السعودية ويحاول إقناع «ترامب» بالضغط عليها من أجل أن تقدم للفلسطينيين جزءًا من أراضيها طالما أنها مهتمة بقضيتهم. إذن، الناحية التوسعية أساسية فى الفكر الاسرائيلى الحالى، ومن هنا أرى أن الوقت لم يعد مناسبًا لأى سلام مع إسرائيل حاليًا فى ظل النخبة الحاكمة بتل أبيب، ولن يحدث سلام إلا بتغيير داخلى يحدث تهدئة ويمنح فرصة لسيادة السلام، أما الحكومة الحالية وتوجهاتها وتصريحاتها فكلها تشير إلى رغبة فى السيطرة على المنطقة. فى الماضى كان ما يهم إسرائيل هو التطبيع مع المنطقة العربية، أما الآن فلم يعد يهمها مسألة التطبيع لأنها بالفعل لديها كل ما تريد. والحل لتلك الإشكالية لا يتأتى إلا من خلال توحيد الجهود العربية وغير العربية للتصدى لتلك القوة العسكرية الغاشمة لإسرائيل، بعد ذلك فقط يمكننا أن نتحدث عن السلام، أما الحديث عنه مع الطبقة الحاكمة الحالية فهو شكل من أشكال إهدار الوقت. ■ على مدار التاريخ تلعب مصر أدوارًا رئيسية فى المنطقة.. كيف يمكن لها أن تمارسها رغم التحديات المحيطة بهذه الأدوار والاستهداف الدائم لها؟ - الواقع أن أبرز التحديات التى نواجهها حاليًا هى التحديات الاقتصادية ومسألة الإمكانيات ومحدوديتها؛ ولكن بطريقة علمية بحتة هناك مشكلات كبيرة تؤثر على الداخل وإن كان سببها خارجيًا مثل مشكلة المياه، وسد النهضة التى مضت إثيوبيا فى إنشائه، ولذا كانت نظرة بطرس غالى فى هذا الشأن مُنصبة على الاهتمام بالمنطقة العربية دون إهمال العلاقات مع إفريقيا، إذ إن حياة مصر مرتبطة بالانفتاح على القارة الإفريقية، وهذا يجرنا لتحديات السياسة الخارجية المصرية إفريقيًا وعربيًا، وإن كنت أرى أن تعدد العلاقات الدولية الذى تنتهجه مصر فى الوقت الراهن توجه جيد جدًا، ولكن لا ينبغى الاقتصار على عاصمة أو إقليم معين، وهذا أيضًا ليس معناه الامتداد المفرط أو (overstretch) بحيث نكون عاجزين عن السيطرة، فالتحديات تتطلب تحديد الأولويات والتعامل معها بما يتناسب مع الإمكانيات. مصر يميزها وضعها الجغرافى، ما يجعلها موضع اهتمام الجميع ممن ينظرون إليها باعتبارها (too expensive to fail)، بمعنى لا يمكن قبول فشل دولة مثل مصر، وهو ما يدفع صندوق النقد الدولى للتعاطى مع الدولة المصرية، والمساعدات التى تأتى لمصر ليست «منَّة» وإنما هدفها حماية حدود الدول المانحة ضد الهجرة غير الشرعية، ولكن هذا لا يمنع ضرورة تحقيق الإصلاح الاقتصادى والاكتفاء الذاتى بعيدًا عن الاعتماد على المساعدات التى تخلق التبعية، وتقوض قدرة الدول المستقبلة للمساعدات على لعب دور مستقل. بعض الوزراء فى عقود ماضية كانوا يستسهلون الاستدانة ويعتبرونها حلًا للمشكلة، والمؤسف أن تلك الديون تؤثر على الموازنة، خاصة فوائد هذه الديون. فجزء من الأموال التى نسددها هى أموال خدمة الدين، كالفوائد، وليس الدين نفسه. وتاريخيًا، أساس الاستعمار البريطانى كان الدين، فقبل 1882 قبل دخول الإنجليز مصر، كان هناك اجتماع لمجلس وزراء الحكومة المصرية، وكان يحضره خبراء من مصر وإنجلترا بهدف إقرار السياسة الداخلية المصرية نظرًا لأن البلد كان مدينًا حينها. أقول لطلابى إن صندوق النقد الدولى يحدد السياسات الاقتصادية للدول المدينة، وهو الذى يجبر الحكومات على تبنى سياسة السوق، وأن تكون كل السلع والخدمات بأسعار السوق، والواقع أننا فى وضع ضعيف، والصندوق فى بعض الأحيان محق فى أهمية الإصلاح الاقتصادى، ولكن أيضًا لابد من جانبنا الاهتمام بالصادرات وليس العقارات فقط رغم أهميتها فى جذب نقد أجنبى. لى زملاء فى صندوق النقد، أشدد عليهم بضرورة التخلى عن النظرية التقليدية، فى ظل التحديات الجديدة، التى لابد من الأخذ بها فى الاعتبار، وكذلك وضع الأفراد فى الدول المدينة، فبعض الشعوب ليست لديها قدرة على تحمل تكلفة التعليم المرتفعة، ولو لم ندعم التعليم فسيكون هناك شعب جاهل، ولذا الأحرى بنا هو اختيار النظرية الإسلامية العادية التى تنص على اختيار الضرر الأقل، وليس من الضرورة دومًا اتباع النظرية التقليدية التى تنص على رفع تكلفة كل شىء لتقليل الاستهلاك، فكيف لشعب أن يتخلى عن التعليم؟ ولذا أقدم توصيات للصندوق بتكييف النظرية التقليدية وفق أوضاع الشعوب، ومن جانبها تحاول الحكومات من الناحية الأخرى إنجاز بعض الأصلاحات. ■ لو قُدر لك أن ترسم صورة المستقبل لهذه المنطقة فى ظل الصراعات الحالية والمخاطر المحيطة بها، كيف ترى هذه السيناريوهات تفصيلًا؟ - أود هنا الإشارة إلى مسألة لا يتطرق لها الكثيرون من الزملاء العرب، فالتدخل الخارجى مشكلة لا يستهان بها، وقد عانينا من الاستعمار لسنوات طويلة، ولايزال الاستعمار موجودًا بطريقة ما، أى أن السيطرة الخارجية موجودة بشكل أو بآخر، والآن إسرائيل باتت دولة مفروضة من الخارج وقائمة باعتبارها دولة تساعد الخارج، وتبرر تل أبيب لأمريكا وجودها من منطلق أنها تفعل فى المنطقة ما تريد واشنطن أن تفعله نيابة عنها، ويمكن القول إن إسرائيل هى حاملة الطائرات الأمريكية فى المنطقة؛ إذن لاشك أن هناك عوامل خارجية تؤثر على المنطقة، ولكننا أيضًا لا ينبغى أن نهمل العوامل الداخلية، فالمنطقة محفوفة بالمشكلات بدءًا من السكان وندرة المياه، ووصولًا إلى التحديات السياسية، فبعض النظم العربية لايزال جل همها هو إحكام قبضتها على زمام السلطة مقابل إهمال المجتمع، وأكبر مثال على هذا ما حدث فى سوريا. فى العلوم السياسية هناك نظرية مهمة تسمى (F-States) وهى اختصار (Fragile Failed states)، بمعنى (الدول الفاشلة الهشة)؛ وبعض الدول العربية التى تعانى من مشكلات داخلية تُضعف من قدرة العالم العربى على فرض نفسه، ففى حرب 1967 سيطرت إسرائيل على المعركة فى أول ساعتين أو ساعة ونصف، من خلال سلاح الطيران، عبر قصف الطيران المصرى الموجود على الأرض، ومادامت تمت السيطرة على الطيران انتهت المعركة. والواقع أن هزيمة 67 لم تكن وحدها المشكلة، وإنما مستوى الهزيمة، والتى كان أحد أسبابها هو مستوى التعليم؛ فبعض المجندين لم يكونوا على علم بكيفية تشغيل الدبابات، فكانوا يقفزون منها، ولذا بعد 1967 كان التركيز فى التجنيد على الجامعيين، الذين بعد أن كان يقضون فى البداية عامًا واحدًا صاروا يواصلون بقاءهم داخل الخدمة لفترة امتدت 6- 7 سنوات. ومن ثم حين سألوا موشيه ديان بعد حرب 1973 عن أسباب خسارتهم الحرب مقارنة بما أحرزوه فى 67 وما التغير الذى حدث لقوات إسرائيل، قال «ديان» إن قواته لم تتغير ولكن الذى تغير هم العرب. إذن فالجبهة الداخلية مهمة، التعليم والصحة والحالة الاقتصادية، وبدون دعم تلك العوامل تقع الدولة فى فخ «الدولة الهشة». الكثير فى الواقع يتحدث عن العوامل الخارجية فقط، ويهمل العوامل الداخلية التى هى على قدر كبير من الأهمية. انفتاح الدولة أيضًا على المجتمع يمنحها قوة لمقاومة العوامل الخارجية، الدول السلطوية قد تنجح لفترة ولكنها تندثر بعد فترة من الوقت، فسوريا كقوة عربية باتت مُعطَّلة الآن وستبقى كذلك لفترة. «بشار» قاوم التغيير وفرض نفسه، فانعكس ذلك على المجتمع وأدى إلى تدهوره، الأمر الذى استفادت منه إسرائيل وعمدت إلى تفكيك البنية التحتية للجيش السورى، واستولت على الجولان، ثم الآن تنفذ ضربات بالقرب من قصر الرئاسة، أعتقد أنه ليس هناك رسالة أقوى من ذلك. وأؤكد أن تقوية الجبهة الداخلية ماديًا من ناحية التعليم والصحة والاقتصاد، ومعنويًا من ناحية علاقة السلطة بالمجتمع، أمر فى غاية الأهمية.