في "مصيدة الفئران" يمكن حل السؤال الصعب: لماذا تقدمت بريطانيا، ولماذا لن نتمكن نحن من مغادرة المكان الذي نقف فيه؟ يوم الأربعاء 5 أكتوبر، مرت 59 سنة بالتمام والكمال على بداية عرض مسرحية "مصيدة الفئران" على مسارح لندن. بدأ عرض المسرحية سنة 1952 في مسرح نيو إمباسيدورز، وانتقل بعد 22 سنة (تحديدا يوم 22 مارس 1974) إلى مسرح "سانت مارتن".. ومن وقتها وإلى الآن وأطول ماراثون مسرحي في التاريخ لا يزال مستمرا. المسرحية كتبتها "أجاثا كريستي" عن قصة قصيرة سبق أن كتبتها عنوانها "ثلاث فئران عمياء"، ومع بدء المسرحية اشترطت ألا تتم طباعتها داخل بريطانيا. تتناول المسرحية قضية مقتل طفل، يحقق فيها رقيب شرطة اسمه تروتر، ويتمكن من إثارة الشكوك في غالبية شخصيات المسرحية وبتقدم الأحداث يعرف الجمهور القاتل في النهاية.. وبعد نزول الستار وارتفاعها.. يظهر الممثلون لتحية الجمهور، فيتقدمهم الممثل الذي يلعب دور الرقيب تروتر ليطلب من الجمهور ألا يكشفوا لآخرين سر المسرحية.. ألا يخبروا أحدا لم ير المسرحية باسم القاتل. منذ بدأ عرض المسرحية وإلى الآن، والمشاهدون ملتزمون بعدم إفشاء السر ولم يكتب ناقد عن المسرحية وكشف فيها السر، ولم تشر له أي وسيلة إعلام بريطانية من قريب أو بعيد.. ولم يجرؤ ناشر على طباعة القصة أو نشرها، رغم أن العديد من مواقع الإنترنت تتيح للبريطانيين منذ سنوات شراءها، أو تحميلها مجانا. .................... الممثل لم يصدر أمرا.. لكن من شاهدوا المسرحية واستمعوا لطلبه، التزموا به لأنهم أدركوا أن كشف السر أو معرفة القاتل يفقد المسرحية أهم أسباب قوتها، ويفسد المتعة على من سيشاهدونها بعدهم. قد تقرأ السطور السابقة باستخفاف.. لكن قبل أن تستخف بها أو تستخف دمك عليك أولا أن تعرف أن التزام "الناس المحترمة" بعدم إفشاء السر، جعل هذه المسرحية مصدرا مهما من مصادر الدخل القومي البريطاني. ففي مركز لندن المعروف باسم ال"ويست إند"، يتوافد السياح القادمون من كل أنحاء العالم لزيارة برج ساعة "بيج بن" ومبنى البرلمان والمتحف البريطاني وجاليري الفن الوطني، وقد لا يفعلون كل ذلك إلا تضيعا للوقت قبل يدخلوا مسرح "سانت مارتن" لمشاهدة هذا العمل المسرحي الذي دخل موسوعة جينيس للأرقام القياسية، باعتباره أطول عرض مسرحي في التاريخ. ............... هذا هو الفارق بين بريطانيا ومصر.. في بريطانيا، التزم الشعب بطلب ممثل، وحفظوا سر "مصيدة الفئران". أما في مصر، فوجدنا للأسف من يتباهي بمخالفة قرار قضائي، ومخالفة نصوص صريحة في قانون العقوبات ويدعوا آخرين إلى مشاركته في ما اعتبره "واجب وطني"! في مصر لم يمنع قرار قضائي بحظر النشر المئات من اختراقه، والمحاسبة أو المسائلة أصبحت مستحيلة! يصعب إن لم يكن يستحيل أن يتم تطبيق القانون على مئات كسروا الحظر، فعلى موقع التواصل الاجتماعى "فيس بوك"، انطلقت حملة تحمل عنوان "الحملة الشعبية لخرق حظر النشر.. خرق حظر النشر الآن واجب وطنى". ودعا أصحاب الحملة إلى نشر تفاصيل المحاكمات فى أى قضية يحظر نشرها، حتى إذا وقعت مسئولية قانونية على مخترق الحظر تقع على الجميع، مؤكدين على أن الشعب الذى قام بثورة وضحى فيها بدمائه من حقه أن يعرف كافة التفاصيل وأن يحكم ويقرر، وأن يعرف أعداءه من أصدقائه. الشعب إذن هو من يحكم ويقرر في رأي هؤلاء فهل نعطي القضاء إجازة مفتوحة حتى ترسلوا إن شئتم في طلبه؟! .............. انهيار حظر النشر في شهادة المشير جاء استكمالا لمحاولات سابقة، صفحة "آسفين يا ريس" نشرت أجزاء من شهادة عمر سليمان.. وموقع تابع لاتحاد الإذاعة والتليفزيون نشر شهادة اللواء محمود وجدي.. ألم يفكر هؤلاء أن عدم الالتزام بقرار الحظر قد يؤثر على الشهود أو يفسد القضية بأكملها؟ والغريب أن الحقوقيين الذين انتظرنا منهم أن يطالبوا بأن يكون الاستماع إلى الشهود في جلسات سرية، انساقوا وراء المطالبات بعلانية كل شيء بلا ضابط أو رابط، متجاهلين ما قد تقود إليه العلانية من كوارث، أبسطها تدافع المحامين للوقوف أمام الكاميرات، ولن تقف المخاطر أو الكوارث عند تعريض حياة الشهود للخطر. مثلا.. اللواء حسن عبد الحميد أحد قادة وزارة الداخلية السابقين والشاهد التاسع في القضية اكتسب شعبية كبيرة بعد شهادته التاريخية في الجلسة الخامسة. اعتبرها البعض دليلا علي نزاهته وثبات موقفه.. واتهمه آخرون بادعاء دور بطولي.. بل وهناك من حاول تشويه صورة ابنه ضابط الشرطة. والأهم من رأى هؤلاء وهؤلاء أنه اضطر إلى ترك منزله بمصر الجديدة وانتقل إلي روض الفرج بعد التهديدات التي طاردته، والتي وصلت حد التهديد بالقتل. والقانون لا يحمي الشهود إلا خلال الجلسة، أما خارج المحكمة فربنا معاه! ألا يكون حظر النشر هنا واجبا لحماية الشهود؟ ولن أكرر المثال العبثي الذي ذكرته في المقدمة، ولن أفترض أن شاهدا وجد نفسه مخيرا بين إرضاء ضميره أو إرضاء ملايين الغاضبين، أو خاف من تهديد المتهمين وهم كما قلنا "تشكيل عصابي". ..ودرس آخر من بريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية، وبينما كانت القوات البريطانية تخوض حربا شرسة ضد القوات الألمانية، أقامت مديره مدرسة بريطانية دعوي أمام القضاء البريطاني تتضرر فيها من مطار حربي قريب من مدرستها لأن الطائرات عند إقلاعها وهبوطها تحدث صوتا يزعج الطلبة، ويجعلهم غير قادرين على سماع مدرسيهم إضافة إلى أن المطار الحربي يجعل المنطقة كلها هدفا للعدو بما يهدد أرواح الطلبة. وحين صدر الحكم القضائي بنقل المطار الحربي إلي مكان بعيد عن العمران، رأت وزارة الدفاع البريطانية أن تنفيذ الحكم قد يؤثر سلبا على الدفاع الجوى البريطاني فلجأت إلى تشرشل ليوقف تنفيذ الحكم.. غير أن تشرشل رد بشكل قاطع: "أن يقال أن تشرشل خسر الحرب.. أفضل من أن يقال أنه رفض تنفيذ حكم قضائي". فهل يمكن أن تتحقق مطالب الثورة، وهناك من يرى عدم احترام قرارات القضاء واجب وطني؟