يمتد تاريخ المسرح في العراق إلي بداية القرن الأول الهجري، مع (المَنَاحة) الأولي علي قبر الإمام "الحسين بن علي" رضي الله عنه بعد استشهاده، في «كَربُلاء» في العاشر من المحرم في العام 61 من الهجرة، وذلك بعد أن بدأ العراقيون يشعرون بعقدة الذنب لاغتيال ابن بنت رسول الله، ثم تكرَّس الشعور الجماعي بعقدة الذنب، وبدأ هذا الشعور يحرِّك عدة ظواهر انتهت إلي مسرحٍ ديني، لإعادة قصة استشهاد الحسين سنوياً، في الفترة من الأول وحتي العاشر من المحرم، ولا تزال الحكاية تُعاد مسرحياً، حتي يومنا هذا، علي مسارح مكشوفة في العَراءِ، أو في صحن مرقد الإمام «الكاظم» في بغداد، وأيضاً في البصرة وكربلاء . ومع أن جميع الباحثين العرب قد أنكروا هذا المسرح المتكامل، فنياً، إلا أن الكاتب العراقي الكبير "عبد الإله عبد القادر" قد أصدر كتاباً في العام 2007 م يحمل عنوان "المسرح الحسيني في جنوب العراق - دراما أم ظاهرة مسرحية"، يقدم فيه صورة متكاملة عن ولادة هذا المسرح، والدلائل التاريخية التي تؤكد وجوده التاريخي، والوقائع اليومية أيضاً التي تؤكد وجود هذا المسرح الآن، كتراث ديني يتناقله أبناء الطائفة الشيعية، منذ أربعة عشر قرناً، وقد صُدِّر إلي إيران، ومن ثم جنوب لبنان والبحرين وباكستان، وفي مناطق الطائفة الشيعية . يقول عبدالإله عبد القادر: «إن المسرح الحسيني، قد يكون ارتبط أيضاً ببعض المظاهر المسرحية التي يعود تاريخها إلي الألفية الثالثة قبل الميلاد ،في تقديم القرابين للإله "تموز"» ولما كان البعد التاريخي للمسرح العراقي، يمكن أن يدخلنا في جدلٍ ونقاش طويلين وذلك أمام رفض أو نُكران معظم أو جميع الباحثين العرب له وهذا ليس مجال دراستنا هذه، إلا أن هناك بعض المؤلفات والكتابات التي عالجت هذا الموضوع، مثل : كتاب "ألف عام وعام علي المسرح العربي" للمستشرقة الروسية "تمارا ألكساندروفا يونتسيفا" وكتاب "البحث عن النص في المسرح العربي" للدكتور - مدحت الجيار . ما نود أن نشير إليه هنا أن المسرح الحسيني قد تطور في بغداد، ابتداء من عهد الدولة البويهية، وتحديداً في زمن معز الدولة "أحمد بن بويه الديلمي" 325 ه، 963 م - كما يقول عبد الإله في كتابه "المسرح الحسيني" . المسرح العراقي الحديث والمعاصر أما بالنسبة للبعد الحديث والمعاصر للمسرح العراقي، فإننا يمكن أن نعتمد العام 1893 م، بداية لولادة المسرح العراقي الحديث، وذلك مع وجود أول نص مسرحي، ل "فتح الله السَّحار" وهو بعنوان "لطيف وخوشابا"، والذي طُبع في محافظة نينوي، في شمال العراق، في ذلك العام / 1893 م . قد استمر تقديم العروض المسرحية في محاولاته الأولي، خلال الأعوام المنبثقة من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وقد ساعدت الحملات التبشيرية والمدارس النظامية علي نشر الوعي لحب المسرح، وتقديم عروضه في الساحات المدرسية كعروض عامة . أما البداية العلمية والتي تشكِّل منعطفاً أساسياً في تحولات المسرح العراقي المعاصر، فهي تلك الزيارة التي قام بها الفنان "جورج أبيض" إلي بغداد عام 1926، وذلك لتقديم مسرحية "أوديب ملكاً"، علي مسرح سينما الوطن، واختياره لعدد من الممثلين العراقيين الهُواة، وتشجيع هؤلاء الهُواة، لتكوين فرقة مسرحية متكاملة وشبه محترفة، وكان منهم الفنان العراقي الرائد "حقي الشبلي" .. وبذلك ظهرت "الفرقة التمثيلية الوطنية" التي بدأت في تقديم أعمالها المسرحية بشكل منظَّم ومنتظم، كما بدأ بعض الكُتَّاب هناك بكتابة النصوص المسرحية، مثل الكاتب العراقي "موسي الشابندر" الذي كتب مسرحية بعنوان "وحيدة"، وقد انضم إلي هذا الفريق فنانون تشكيليون من الشباب الذين أصبحوا بعد ذلك رموزاً في الفن التشكيلي العراقي والعربي ومنهم "فائق حسن" و "حافظ الدروبي"، واستمر الفريق في العمل المتواصل وذلك حتي العام 1929 م، وأصبح "الشبلي" ورفاقه نجوماً في مسرح أيام زمان علي المستوي العراقي . عندما زارت الفنانة "فاطمة رشدي" والفنان "عزيز عيد"، وفرقتهما المسرحية العراق وذلك لتقديم بعض العروض المسرحية هناك عام 1929، وشاهدت فاطمة رشدي وعزيز عيد بعض العروض المسرحية للشبلي .. أُعجبت "فاطمة" بما قدمه الشبلي، وكان لها معرفة عميقة ومكانة خاصة لدي الملك "فيصل" ملك العراق في ذلك الوقت، فطلبت من الملك إصدار أمر ملكي بإيفاد "حقي الشبلي" إلي مصر للعمل والتدريب والاطلاع علي المسارح المصرية، فوافق الملك علي الفور . عاد الشبلي إلي العراق في نهاية العام 1930، وكوَّن فرقة مسرحية جديدة باسم "فرقة حقي الشبلي التمثيلية"، ضمت عدداً من الفنانين العراقيين، وبعض الفنانين العرب مثل: محيي الدين محمد، بشارة واكيم، عبدالرحمن البدوي ونور الدين المصري وغيرهم . تستمر فرقة الشبلي في العمل المسرحي المتواصل، حتي العام 1935 لتقرر "وزارة المعارف" العراقية إرساله إلي باريس لدراسة المسرح هناك، حيث زامل في تلك الفترة "زكي طليمات"، وتَعرَّف علي المسرح العالمي، ليعود إلي بغداد عام 1940 ويؤسس أول معهد متخصص لتدريس فن المسرح في بغداد، والذي تخرَّج فيه الكثير من الفنانين العراقيين والعرب، حيث تخرَّج في الدورة الأولي في هذا المعهد مجموعة من الفنانين الذين أصبحوا أعلاماً في المسرح العراقي، واستطاعوا أن ينقلوا المسرح العراقي والعربي إلي محطات من الإبداع سجَّلت لهم الريادة ومنهم : إبراهيم جلال، جعفر السعدي، حامد الأطرقجي، جاسم العبودي، أسعد عبد الرازق، حامد القاضي، طه سالم، خليل شوقي، سامي عبد الحميد، شكري العقيدي، بدري حسّون فريد، كارلو هاريتون وعبد الصاحب حدَّاد، وتوالت الدورات واستمرت، حتي اليوم، وتخرَّج فيها عدد كبير من المبدعين المسرحيين مثل : قاسم محمد، يوسف العاني، عوني كروبي، جواد الأسدي، عادل كاظم، سعدون العبيدي، محسن العزَّاوي، قاسم حول، ناهدة الرمَّاح وصلاح القصب . وكان "حقي الشبلي" يحلم بتأسيس سينما عراقية، بعد تأسيس مسرح حديث متطور وأكاديمي، لذا فقد بذل جهوداً كبيرة، لتحقيق أول فيلم مصري - عراقي مشترك وهو "القاهرة بغداد" وكان ذلك في العام 1947، وظل الشبلي يحلم بفن مسرحي - سينمائي عراقي، حتي توفي في شهر "يونية" من العام 1985 م. تنتهي فترة التأسيس الحديثة، للمسرح العراقي، مع تأسيس معهد الفنون الجميلة في بغداد، في نهاية الأربعينات، لتشهد فترة الخمسينات وحتي الثمانينات من القرن العشرين، وخلال ثلاثة عقود زمنية، تطوراً مذهلاً في مجال المسرح، علي مستوي الكتابة والعروض، حيث ظهرت في هذه الفترة عشرات الفرق المسرحية، التي قدمت مئات الأعمال، كما توسَّع معهد الفنون الجميلة، وتأسست معاهد مسرحية متخصصة في "الموصل، نينوي والبصرة" وأنشأت جامعتا بغداد والبصرة أكاديميات متخصصة في مجال الدراما المسرحية والنقد المسرحي، كما أُرسلت عشرات البعثات لدراسة المسرح والدراما في أوروبا وأمريكا وبريطانيا، والاتحاد السوفييتي، وقد حققت هذه البعثات نقلات كبيرة للمسرح العراقي وتطوراً عميقاً علي المستوي النوعي والكمي، ليصل المسرح في العراق إلي ذروته في النصف الأخير من السبعينات . لكن مع دخول العقد الثامن، وقيام الحرب العراقية الإيرانية، ثم سلسلة الحروب التي خاضها العراق حتي سقوط بغداد في العام 2003، نجد أن المسرح يشهد انتكاسة كبري، بل خرابا واسعا، حرق ودمر كل ما حققه المسرحيون العراقيون، عبر قرن كامل، من العمل المتواصل والمبرمج، لأعلام رحلوا إما بالموت أو النفي في واحدة من منافي الأرض . كما يقول "د. جواد الطاهر" مشيراً إلي بداية تلك المأساة .. "أما الآن - أقصد خلال العام التعس 1985 - والأعوام التي سبقته، فقد حل الهرج والمرج، محل الهدوء، وصار الابتزاز شرفاً، وعُد الفساد صلاحاً، وجري ما يخجل التاريخ من تدوينه ..!! وإذا عدنا إلي فترة الخمسينات وحتي نهاية السبعينات، فهي - كما يقول عبد الإله عبد القادر - فترة نهوض مسرحي شامل، فقد ظهرت عشرات الفرق المسرحية، في بغداد والمحافظات الرئيسية خاصة البصرة ونينوي، كما نشطت الكتابات المسرحية، نصوصاً ونقداً وتحليلات، فظهر العديد من الكُتَّاب الذين طَرَّزوا المسرح العراقي بكتاباتهم المختلفة والمتنوعة، وبرز كُتَّابٌ علي مستوي عالٍ، مثل : محي الدين زنكنة، عادل كاظم، يوسف العاني، قاسم محمد، صباح الزيدي، جواد الأسدي، شاكر ومهدي السماوي، ونور الدين فارس وغيرهم، وكان هؤلاء الكُتَّاب جزءاً من حركة النهضة المسرحية العربية التي شملت مصر وسوريا والعراق والمغرب وتونس، وأقطارا عربية أخري . أما في مجال الإخراج المسرحي، فقد ظهر مخرجون عراقيون، كان لهم منهجهم الخاص ومشروعات حيوَّية عملوا علي تحقيقها من خلال تجاربهم ومحاولاتهم الجادة لتطوير أدوات المسرح وضخ دماء جديدة في بنيته الأساسية، ومنهم "محمد قاسم" الذي اشتغل علي إعادة خلق التراث مجدداً، بأطر مسرحية متطورة، فقدم الكثير من الأعمال المسرحية، كتابة وإخراجاً وتمثيلاً مثل مسرحية "بغداد الأزل، رسالة الطير، المقامات البغدادية، حكاية من أزقة العالم الثالث والنخلة والجيران" - وغيرها، بالإضافة إلي ما قدمه من أعمال مسرحية متطورة في مجال مسرح الطفل . لقد استطاع "قاسم محمد" أن ينجح في تثبيت واستكمال منهجه المسرحي، لكونه شخصية متكاملة، فهو كاتب واعٍ ومخرج مبدع وصاحب رؤي واضحة .. ولم تقتصر جهود "قاسم محمد" علي القطر العراقي، فقد كان مخرجاً عربياً يستضاف في مصر والجزائر وتونس والمغرب والإمارات العربية، من أجل إقامة الورش المسرحية أو الدورات التدريبية في المسرح، أو لتقديم العروض المسرحية . هناك أيضاً "يوسف العاني" الذي يقول "د. جواد الطاهر" عن تجربته المسرحية "تجربة العاني مرحلة حاسمة في تاريخ هذا الفن / المسرح، في كثير من الوجوه، وهو / العاني، حدث مهم في بابه، وقد يكون أهم ما فيه، انصرافه الكلي وانسجامه التام مع مرونة وتواضع وسعة أفق وتضحية وقدرة علي التطور، وذكاء ودهاء .." يقول عنه - عبد الإله عبد القادر - "بالرجوع إلي تجربة يوسف العاني المسرحية، نجده يعمل علي مشروعه في المسرحية الشعبية الطليعية، ليجمع بين المستوي العالي للبناء الدرامي، والتعايش مع المستويات المختلفة للمتلقي، كلٌ حسب فهمه ومستوي ثقافته وقيمته الاجتماعية والطبقية .." قد أنتج "العاني" عدداً كبيراً من الأعمال المسرحية، بهذا المنهج مثل : الخرابة، المفتاح، نفوس، حبة الرمل، وحرم صاحب المعالي، وغيرها من المسرحيات الشعبية الطليعية، هذا بالإضافة إلي دوره الأساسي في السينما العراقية ورؤاه الأساسية في الدراما . هناك تجارب أخري لمخرجين عراقيين، في إطار مدارس أكاديمية ورؤي وطروحات، مما جعل من هذه التجارب مناهج واضحة، ومن هؤلاء : سامي عبد الحميد، إبراهيم جلال، سعدون العبيدي، صلاح القصب، جواد الأسدي، عوني كرومي وبدري حَسُّون فريد وغيرهم. وعن المسرح الغنائي العراقي، يقول - عبد الإله عبد القادر - "وفي نهاية الستينات وجدنا أن المسرح العراقي قد تأخر في طرحه للمسرح الغنائي، وأن الفترة الزمنية بين "سيد درويش" وتجربته بعيدة، وأن "الرحابنة" قد أغلقوا فضاء المسرح الغنائي العربي في الستينات، وظل فضاء المسرحية الغنائية العراقية ساكناً حتي عام 1968" . وفي يوليو 1969 تم عرض أول أوبريت غنائي راقص في المسرح العراقي، علي مسرح قاعة الخلد ببغداد وكان بعنوان "بيادرخير" ثم أوبريت "المِطْرَقة" عام 1970، ثم كتب عبد الإله عبد القادر، أول مسرحية غنائية للمسرح العراقي، وكانت بعنوان "العروسة بهية" وذلك في العام 1971 . في هذه الفترة تأسست أيضاً المؤسسة العامة للسينما والمسرح، التي استطاعت تنشيط المسرح العراقي بشكل مدروس ومنهجي وأن تقدم له الدعم المالي، كما استطاعت في إطار منهجها العام، أن تنشط المسرح القومي العراقي أو مسرح الدولة وجعلته لا يقتصر علي العاصمة فقط، بل امتد إلي مدن أخري مثل البصرة والموصل وإربيل والسليمانية والناصرية والديوانية والعمارة وقد عملت المؤسسة العامة للسينما والمسرح جادة في أن تكون كل هذه المراكز المسرحية بمستوي المركز الرئيس في بغداد، كما وَفْرَّت لها أجود النصوص المسرحية والدورات المتخصصة، وذلك لتطوير كل الفنون المتداخلة في العرض المسرحي، وفي مقدمتها الممثل الذي تم الاعتناء به بشكل واضح من خلال المعاهد والأكاديميات أو من خلال الورش والدورات التدريبية المسرحية، مما جعل للمسرح والسينما في العراق نجوماً كثيرة طَرَّزت سماء الدراما العراقية . لكن - للأسف الشديد - نجد أن كل هذه الإنجازات التي أشرنا إليها، وغيرها من الإنجازات الثقافية العراقية، عبر مائة عام تقريباً، من الألم والمخاض والولادة والعطاء، نجدها تنهار مع بداية العام 1980، وذلك بتحول العراق إلي بلد حربي عسكري، وقيام السلطة هناك بتخريب كل هذه الإنجازات وغيرها، وتكرِّيس السلطة لكل الأجهزة لخدمة فكر الحرب، وبطولات المقاتلين علي الجبهات، وتخريب الذائقة الفنية عند الإنسان العراقي، بتنشيط مسرح التفاهات والفنون الهابطة والأدب الهابط . تصل العراق إلي العام 2003، لتنهار المؤسسات الثقافية مع مؤسسات الدولة، باحتلال العراق من جانب 50 دولة، أرسلت جيوشها إلي هناك، لكي تقضي علي دولة عريقة، لا أن تغير سلطة حاكمة، ليشهد هذا العام تخريباً وتدميراً لثقافة عربية عمرها آلاف السنين، بسرقة كنوز من الآثار والمخطوطات والكتب واللوحات والتسجيلات والأفلام وغيرها، لا تُقدَّر بثمن، في محاولة مقصودة لمحو ثقافة عريقة باذخة وتراث أمة بأكملها، لتحل محلها ثقافات جديدة، أساسها الطائفية والإثنيات الصغيرة، التي كانت منصهرة في الثقافة الأم!