مسار لا تخطئه العين. فما من انتخابات حرة جرت في مرحلة الثورات العربية إلا وأظهرت حجم الثقل الشعبي الذي يتمتع به الإسلاميون. فمن تونس إلى مصر والمغرب حقق الإسلاميون نتائج باهرة أكدت ما كان معلوما من قبل بأنه لو جرت انتخابات حرة ونزيهة لفاز الإسلاميون فيها بشكل حاسم. الدلائل على ذلك كانت بادية للعيان منذ عقود طويلة، فرغم التزوير والتلاعب وحملات الترهيب والقمع كان الإسلاميون يحققون نتائج لافتة للنظر. كان ذلك في مصر والأردن والجزائر والكويت والمغرب واليمن.. الخ. وعندما أتيحت الفرصة لإجراء انتخابات حرة ونزيهة بشكل مقبول في مرحلة ما قبل الثورات العربية حقق الإسلاميون نجاحات حاسمة في كل من الجزائر والأراضي الفلسطينية المحتلة، في الضفة الغربية وقطاع غزة. ولكن النخب الإستئصالية المرتهنة للخارج ولإيديولوجيا معاداة الدين ما كانت تقبل بأي تغيير سلمي يتم عبر صناديق الاقتراع، ومن ثمّ كانت تلجأ إلى الانقلاب على إرادة الشعب على أساس أن الشعوب غير مؤهلة لتعرف ما ينفعها. اليوم تزعم النخب العلمانية في نسختها المعادية للدين والمتحسسة منه أن الفوز الكاسح للإسلاميين عبر صناديق الاقتراع إنما هو حصيلة أمرين، الأول: توظيفها للدين وتدثرها بلبوسه. والثاني: التنظيم الكبير الذي تتمتع به. طبعا، لا يقدم أولئك لنا تفسيرا مقنعا عن سبب نجاح الإسلاميين في الحفاظ على تنظيمات قوية ومتماسكة حتى في أحلك الظروف وفي أقسى سنوات القمع والتنكيل بهم، في حين أن تياراتهم هم وأحزابهم، والتي كانت دوما من "أحزاب الشرعية" و"مرايا" النظام بقيت هياكل دون مضمون وثقل. يلومون الإسلاميين لأنهم جاهزون ومنظمون بما فيه الكفاية لخوض أي انتخابات وفي أي وقت ويطالبون بالمزيد من الوقت للاستعداد والتحضير لها، وكأن الإسلاميين هم من كانوا يعيشون الدعة والرغد السياسي لا هم!؟ أما مسألة توظيف الدين والتدثر به، فتلك حجة سمجة. فمن دفع ثمن تمسكه بمبدأ يؤمن به دما وحرية وقمعا واعتقالا وتنكيلا وتعسيرا.. الخ، لا يمكن أن يكون منتفعا متسلقا، بل هو مؤمن بما يضحي من أجله وتهون عنده الحياة دونه. لا يريد أولئك المتحسسون من فوز الإسلاميين أن يعترفوا بأن شعوبنا بفطرتها وسجيتها محبة لدينها، والمتدين فيهم وغير المتدين سواء في هذا الأمر. فحتى غير المتدين سلوكا وفكرا، يبقى متدينا فطرة وسجية، ويعلم أن التدين خير وإن عجز عن إدراك سبله وبلوغ مرامه. أما بعض من يصفون أنفسهم بالعلمانيين تارة وبالليبراليين تارة أخرى فإنهم في وعي جلّ شعوبنا معادون للدين مرتبطون بالخارج ومرتهنين له، كما أنهم كانوا، وكثير منهم لا زال-إلا من رحم ربك-من مساحيق تجميل الأنظمة القائمة أو تلك التي بادت أو تلك التي في طور الاندثار. قد يقول البعض محقا بأن بعضا من رجال الدين والتيارات الإسلامية تمارس دور مساحيق تجميل هي الأخرى لأنظمة القمع، وهذا صحيح. ولكن الأمة لا تستسيغها وتلفظها كما تلفظ القاذورات. فوعي الأمة الجمعي قادر على تمحيص الصحيح الطيب من العليل السقيم. الشعوب تختار المنحازين إلى الإسلام، لا المخاصمين له. فالإسلام ليس دينا فحسب، بل هو تاريخ وحضارة وهوية، كما هو حاضر ومستقبل. ومشكلة بعض ذلك النفر من العلمانيين والليبراليين أنهم يريدون إخضاع الإسلام لمقاييس مفهوم التدين الغربي. هذا لا يعني أن الإسلاميين سيفوزون في كل انتخابات، كما أنه لا يعني أنهم سيحظون دوما بالقبول الشعبي، ولكن الإسلام في أي حال وتحت أي ظرف سيبقى حاضرا في حياة الناس وضمائرهم، ومن سيعاديه سيجد نفسه، إن عاجلا أو آجلا، بلا قيمة أو وزن. إن فشل الإسلاميون في أي انتخابات قادمة فإن فشلهم لن يعزى إلى تراجع تعلق الناس بالإسلام، بقدر ما سيعزى إلا ما قد يراه الناس فشلا من قبل الإسلاميين في مقاربة الأنموذج والمثال الذي يختزنه وعيهم عن الإسلام وقيمه. الإسلاميون مطالبون اليوم بتقديم تجربة تقترب من المثال الذي سوقوه للناس، فإن سقطوا فقد سقطت التجربة ولم يسقط المثال. الضغوط والمؤامرات الداخلية والخارجية لن تكون سببا في سقوط الإسلاميين من قلوب الناس، حتى وإن لم يعطوهم أصواتهم مرة أخرى.. ما سيسقطهم فعلا أن يصدموا الناس بقمع وفساد وتسلط بإسم الدين، حينها سيكون بديلهم، طال الزمان أم قصر، أناس يقتربون أكثر من المثال الإسلامي كما يختزنه وعي الجماهير.