وهو يشير هنا الى أن الموجة الاولى انتهت بتحرر اوروبا غداة الحرب العالمية الثانية، فيما جاء سقوط جدار برلين ثم «الثورة المخملية» والتضامن في وسط وشرق اوروبا ليشكل الموجة الثانية، لتجيء من بعد وكموجة ثالثة، الحركات الديمقراطية في كل من جورجيا وأوكرانيا. وواضح أن مثل هذا التأويل يريد أن يقول ان ثمة عملية تاريخية قيد الحدوث في الوقت الراهن. \r\n من جانبي، ربما لا اتفق تماما مع تحديده للفترات التاريخية، إلا ان ثمة حقيقية تاريخية لا خلاف بشأنها، وهي ان العملية الديمقراطية احدثت تحولا في النظام السوفياتي السابق. أما الجانب البارز واللافت للنظر في تجربة الظاهرة الاوكرانية، مثلما حدث في جورجيا، هو ان الديمقراطية اصبحت بمثابة طموح وتطلعات حقيقية في المجتمعات التي كان يهيمن عليها الاتحاد السوفياتي، وهي مجتمعات لم تكن تابعة فحسب للاتحاد السوفياتي السابق، بل جزءا لا يتجزأ منه. ولكن الجدير بالملاحظة هنا هو أن هذه العملية لا يمكن ان توقف، سواء كان في جورجيا او في اوكرانيا، لأنها ستنتشر وتصل الى روسيا نفسها. \r\n وفي المقابل، فهناك من يتساءل عن استحقاقات فوز فيكتور يوشينكو، طبقا للتوقعات، في الانتخابات المزمع إجراؤها الاحد، وإعلانه المسبق عن رغبته في ضم اوكرانيا الى الاتحاد الاوروبي، وبين الاستحقاقات سؤال حول مدى تحمل موسكو لهذا النوع من الانشقاق، فأوكرانيا القرن الرابع عشر كيفان روس ، وكما هو معلوم، كانت مهد الامبراطورية القيصرية اللاحقة، فضلا عن ان البنى التحتية الروسية المتصلة بأوروبا وأنابيب نقل الغاز، تمر عبر اوكرانيا، كما ان الاسطول الروسي المهم الوحيد يتمركز في سيفاستوبول بشبه جزيرة القرم التابعة لاوكرانيا. \r\n والإجابة هنا عن مثل ذلك التساؤل سهلة، فأوكرانيا ليست روسيا، وروسيا ليست اوكرانيا. والجذور التاريخية المشتركة للدولتين، التي يعود تاريخها الى عشرة قرون تقريبا، لا تعني بالضرورة انهما دولة واحدة. كما ليس هناك شك في ان هذا لا يعني، بأية حال، انه يجب على روسيا ان تحدد ما يجب أن تفعله اوكرانيا، او ان تحدد لها طبيعة تطلعاتها وطموحاتها. \r\n فإذا رغب الأوكرانيون في الانضمام الى اوروبا، فإن هذا حق مشروع لهم. وإذا انضموا الى اوروبا، فإن ذلك سيزيد من احتمالات انضمام روسيا ذاتها يوم ما الى اوروبا، وهذا في حد ذاته مسألة ايجابية. من ناحية اخرى، اذا نجحت روسيا في منع اوكرانيا من الانضمام الى اوروبا، فإن ذلك لا يعني سوى ان روسيا اصبحت مرة اخرى امبراطورية تحكم بالإكراه، وعلى هذا النحو لا يمكن ان تصبح روسيا ديمقراطية، وإنما خطر على جيرانها. في المقابل، من المؤكد ان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ظل خلال الاعوام السابقة ينتهج خطا استعماريا جديدا، يحاول معه إخضاع الجمهوريات المجاورة التي استقلت عامي 1990 و1991، حتى إذا لم تكن هناك نية لضمها الى النظام الروسي. فقد حاول أن يفعل ذلك مع جزء من الامبراطورية الروسية القديمة، رغم انه يدرك جيدا انه لا يمكن أن يفعل ذلك مع بولندا أو جمهوريات البلطيق مثلا. ويتساءل البعض، نتيجة ذلك النهج الروسي حول ما إذا كان لأوكرانيا أن تنضم الى حلف شمال الاطلسي (الناتو)، كوسيلة لتعزيز مكاسبها الديمقراطية ومقاومة الهيمنة الروسية، ولكن الإجابة تبقى أن مثل هذا القرار متروك للشعب الأوكراني، فإذا رغبوا في ان يصبحوا جزءا من حلف الناتو، واذا استوفت اوكرانيا شروط ومعايير الانضمام للحلف، فلن يكون هناك سبب لاستبعادها اذا ما اصبحت ديمقراطية حقيقية تعتزم المساهمة في تعزيز الأمن الجماعي. لكنني لا اعتقد اننا في الغرب يجب ان نعمل على تجنيد، او محاولة إغراء اعضاء جدد بالانضمام لحلف الناتو. والشاهد هنا، الأمر متروك للأوكرانيين ليقرروا ما اذا كان انضمامهم للحلف سيسهم في تحسين وضعهم الأمني، وإن كنت من جانبي، أجد نفسي متعاطفا مع عضوية اوكرانيا في الحلف، إلا ان القرار يبقى، وكما أشرت، متروكا لهم. ولكن كل تلك الاستحقاقات والتداعيات، كما هو الحال مع كل شأن سياسي، لا تتوقف عند حدود ما هو ثنائي بين روسيا وأوكرانيا، وهنا تتحدث بعض النخب عن سيناريو يرشح الغرب لوضع أقدامه في طريق الدخول في حرب باردة جديدة في مواجهة روسيا، باستدعاء أكثر من نقطة للنزاع بين الجانبين، مثل اوكرانيا والشيشان والسلاح النووي الجديد ومسألة يوكوس، وسيطرة بوتين على وسائل الإعلام، وإعادة العمل بنظام مركزية السلطة، وترى شخصية في قامة كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية، أن هناك سلطات هائلة تتمركز في الكرملين تحت سيطرة بوتين. ولكني لا أحسب أن الصورة الكلية للمشهد يمكن أن تعطي نمطا لحرب باردة. ثمة برود بالتأكيد، لكنني لا اسميه حربا باردة جديدة. فالحرب الباردة كانت بين قوتين عظميين لديهما أسلحة نووية، وروسيا لم تعد قوة عظمى، فيما سيحاول الرئيسان بوش وبوتين بالتأكيد المحافظة على علاقات جيدة بين موسكو وواشنطن، في مقابل الصعوبات التي تمت الإشارة إليها، والتي ستأخذ وقتا قد يطول وقد يقصر. فاذا استمرت روسيا، مثلا، في انتهاج سياسات الاستعمار الجديد التي تتبعها مع بعض دول الجوار من الجمهوريات السوفياتية السابقة، فستعزل نفسها عن الولاياتالمتحدة وعن بقية العالم ايضا. وأود الاشارة في هذا السياق الى ان بيت الحرية «فريدوم هاوس»، قد رفع اسم روسيا من قائمة «الدول الحرة وأدرجها في قائمة الدول «غير الحرة». \r\n وأخيرا فعلى الغرب ألا يساعد بوتين على التظاهر بأنه ديمقراطي، في الوقت الذي يتصرف فيه على نحو مخالف تماما للديمقراطية. ويجب للتعامل هنا مع حالته أن يستصحب الوضوح والمباشرة، ذلك لأن على الغرب ألا ينسى أنه في حاجة قائمة للتعامل مع روسيا في العديد من القضايا التي تتطلب حوارا ومفاوضات، ولكن ذلك أيضا لا يلزم الغرب بأن يخلع على روسيا أوصافا ليست لها..! فروسيا تحت ظل رئاسة بوتين لا تسير باتجاه المزيد من الديمقراطية، بل انها تعمل على تضييق الأفق الديمقراطي، وهنا يجب على الغرب ألا يضفي شرعية على هذا السلوك والتظاهر الذي تحاول روسيا من خلاله إخفاء الواقع، إذ لا رجعة للغرب عن تأييد الديمقراطية، ومن هنا لا بد للرئيس بوش عندما يلتقي بوتين في فبراير (شباط) المقبل، أن يتأكد من دعم الرئيس الروسي للديمقراطية، بذات القدر الذي يتحتم فيه على الرئيس الروسي أن يؤكد ذلك التوجه حين يلتقي فيكتور يوشينكو اذا ما تم انتخابه رئيسا لأوكرانيا عبر الانتخابات المقرر لها غدا الاحد. \r\n * مستشار للأمن القومي للرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر، والمقال من مقابلة له \r\n مع ناثان غاردلز رئيس تحرير غلوبال فيو بوينت \r\n \r\n خاص ب«الشرق الأوسط» \r\n