بينما تستعد أوكرانيا لأولى انتخاباتها الرئاسية منذ «الثورة البرتقالية»، تقول الدلائل بأن جارتها العملاقة من الناحية الشرقيةروسيا لن تتسامح من أن تأتى هذه الانتخابات بنتائج مؤيدة للغرب. إن أوكرانيا أصبحت قلقة من عودة الحديث عن مسألة مناطق النفوذ فى أوروبا، خاصة بعد أن أوضحت روسيا أن من حقها الحصول على منطقة نفوذ على الحدود مع أوكرانيا. الشهر الماضى، اجتمع بعض من زعماء أوروبا الشرقية والمثقفين فى قصر ليفاديا حيث عقدت بريطانيا وأمريكا والاتحاد السوفييتى مؤتمر يالطا عام 1945 وكان محور المباحثات هو المستقبل الاستراتيجى لأوكرانيا. ولقد سيطر سؤال واحد على هذه المباحثات: هل سيكون هناك حرب بين روسيا وأوكرانيا؟ إن سيناريو الحرب ليس بالسيناريو الخيالى كما يظن البعض. ففى أغسطس الماضى قام الرئيس الروسى دميترى ميدفيديف بما يشبه عملية السطو السياسى على نظيره الأوكرانى فيكتور يوشينكو، حيث بعث الرئيس الروسى برسالة شديدة اللهجة عبر رسالة فيديو، ألقى فيها اللوم على نظيره الأوكرانى لموقفه المعادى لروسيا، وأخبره أنه مادامت توجد روسيا فإن يوشينكو الموالى للغرب لايعد شخصا له قيمة أو قدر. وقال ميدفيديف أنه لن يرسل سفيرا إلى العاصمة الأوكرانية كييف، مضيفا أنه يعيد النظر فى معاهدة الصداقة بين روسيا وأكرانيا الموقعة عام 1997، فى اشارة إلى أن روسيا قد لا توفى بعد الآن الحدود السيادية لأوكرانيا. إن الرسالة الروسية كانت قاسية : «مهما كان الفائز فى الانتخابات الرئاسية الأوكرانية المقررة فى يناير المقبل، فإن عليه أن يقبل حق روسيا فى التدخل فيما يتعلق بالتوجهات الاستراتيجية لأوكرانيا». «لقد كان الخطاب غير ملائم»، هكذا قال فولوديمير جوربولين، المستشار الأوكرانى السابق للأمن القومى. إن جوربولين، والذى يعمل حاليا مدير معهد مشكلات الأمن القومى فى كييف، كتب مقالا الأسبوع الماضى قال فيه إنه وبعد 18عاما من حصول أوكرانيا على استقلالها فإن روسيا تبدو مستعدة لقطع العلاقات معها. وحذر قائلا «علينا أن نجد طريقة للتعايش المتبادل». وكما يقول جوربولين إن النقطة الساخنة المثيرة للجدل فى شبه الجزيرة الخضراء التى عشقها الكتاب الروس فى القرن 19 كما أحبها السياح السوفييت هى الإقليم الأوكرانى الذى تقطنه غالبية روسية، والذى يعد أيضا مرسى الأسطول الروسى بالبحر الأسود، الذى يرسو الآن حول الساحل من يالطا فى ميناء سيفاستوبول التاريخى. ووفقا لشروط عقد وقع بين روسيا وأوكرانيا فإنه من المفترض أن يغادر الأسطول الروسى قاعدته فى سيفاستوبول بحلول عام 2017، فى حين أن روسيا نفسها لا تريد الالتزام بهذا التاريخ. وفى الأسابيع الأخيرة فإن الصحف الموالية لروسيا فى أوكرانيا تكهنت بأن شبه جزيرة القرم قد يتم لم شملها قريبا مع مع الأم روسيا، بما يحل مسألة الأسطول. إن الدبلوماسيين الأوكرانيين يشعرون بالقلق، وقد قال أحدهم «نحن نرى من موسكو تجدد فى خطاب إعادة الاندماج والأيديولوجيا، مضيفا أن هذا الحديث لا « يتعلق فقط بمسألة استبدال يوشينكو ولكن أيضا فيما يتصل بتغيير مسار التنمية بأوكرانيا ذات الميول الغربية، وهو المسار التى اختارته لنفسها منذ الثورة البرتقالية». ويقول « إن روسيا تعتقد أننا بلد غير مؤهل ليتمتع بسيادة كاملة على أراضيه». وأضاف الدبلوماسى إن الرسالة التى بعث بها ميدفيديف «كانت عبارة عن إنذار، لكى نقبل الهيمنة الروسية، ونتخلى طوعا عن خطط الانضمام إلى حلف شمال الأطلسى، ونجدد الاتفاق مع روسيا بشأن القاعدة البحرية. ووفقا لهذه الشروط فإن رئيس أوكرانيا الجديد يمكن وصفه بأنه سيكون دمية روسية». وفى الشهر الماضى أعربت النخبة الأوكرانية عن القلق من عدم اهتمام الغرب بصورة كافية بهذا الجدل. ولا تخفى دول فى شرق أوروبا من القلق حول مستقبل العلاقات مع روسيا بالنظر إلى التبعات المتوقعة لقرار الرئيس الأمريكى باراك أوباما بالغاء المخطط الأمريكى المتعلق بنصب درع الدفاع الصاروخية فى بولندا حليفة أوكرانيا وجمهورية التشيك، وكانت العديد من العواصم فى شرق أوروبا تنظر إلى هذه الدرع على أنه ضمان ضد أى اعتداء روسى فى المستقبل. واليوم فإن واشنطن تصر على أنها أسقطت الدرع الصاروخية عقب إجراء تقييم جديد للتهديد النووى الإيرانى. ولكن العديدين فى أوكرانيا يعتقدون أن البيت الأبيض قد ضحى بالتزاماته تجاه أوروبا الشرقية فى مقابل إعادة تشكيل العلاقات مع موسكو. وتبدو أسباب البيت الأبيض فى هذا الشأن واضحة: إن واشنطن فى حاجة إلى مساعدة روسيا فى القضية الإيرانية بالإضافة لقضايا أخرى. إن إدارة أوباما مشغولة البال أساسا بإيران، وأفغانستان، والعراق. إن الدول الاعضاء فى الاتحاد الأوروبى لا تقر، بطبيعة الحال، بمواقف موسكو إزاء أوكرانيا. ولكن حتى الآن لم تقدم بروكسل من تلقاء نفسها بديلا واضحا، مما يدل على أن أوكرانيا ليس لديها أمل فى الانضمام للاتحاد الأوروبى فى المستقبل المنظور. فى شهر مايو الماضى قام الاتحاد الأوروبى بدعوة أوكرانيا وخمس دول سابقة فى الاتحاد السوفييتى للانضمام إلى منظمة جديدة من «الشراكة الشرقية»، ولكن الاتحاد الأوروبى و على النقيض من روسيا رفض السماح للأوكرانيين بالدخول لدول الاتحاد الأوروبى دون الحصول على تأشيرة. فى الوقت نفسه وصفت موسكو عروض الشراكة التى يطرحها الاتحاد الأوروبى على دول الجوار الروسى بأنها مجرد محاولة من الاتحاد الأوروبى لإثبات التأثير. ويقول د.أوليكسى هاران المدير المؤسس لجامعة كييف للتحليل السياسى، «أنا منزعج لأن الاتحاد الأوروبى لم ينتقد (رسالة) ميدفيديف»، ويضيف هاران « إنى أخشى أن غياب رد الفعل والذى جاء مقترنا ببعض العناصر الخاصة بسياسة «إعادة تشكيل العلاقات» التى يتبناها أوباما، يمكن أن يتم قراءته أو تفسيره على أنه رسالة تقول إن الغرب يعطى الحرية لروسيا فى التعامل والاتفاق مع دول ما بعد الاتحاد السوفييتى». ويذهب آخرون إلى أبعد من ذلك، فوفقا لما يقوله جوربولين، إن تخلى أوروبا عن أوكرانيا لا يقل ضررا عن تخلى أمريكا عنها. ويشير إلى أن دول شمال حلف الأطلسى قد «توقفت عن النضال» دفاعا عن أوكرانيا من أجل الحفاظ على علاقات جيدة مع روسيا. وألمانيا وفرنسا على وجه الخصوص رفضتا محاولات يوشينكو للانضمام لحلف الناتو. ويصف جوربولين الاتفاق غير الرسمى بين أوروبا وموسكو بأنه « اتفاق ميونخ 2»، مقارنا بينه وبين الاتفاق سيئ السمعة الذى عقد فى سبتمبر 1938 وسمح لهتلر بالاستيلاء على سوديتنلاند، الناطقة باللغة الألمانية والتى كانت جزءا من تشيكوسلوفاكيا. بالإضافة إلى ما يحدث فى يالطا، فهناك إشارات قليلة أخرى تقول بأن المنطقة قد تدخل فى حالة حرب. ويرى البعض بأن المزاج العام داخل روسيا بات أكثر عدائية، بعد موجة من الدعاية قامت بها المؤسسات الرسمية فى موسكو والتى صورت الشعب الأوكرانى بصورة العدو للشعب الروسى. وقد اتهمت روسيا أوكرانيا بتسليح جورجيا خلال السنة الأخيرة فى حرب أوسيتيا الجنوبية. الاجتياح الروسى لأوكرانيا غير محتمل، ولكن قبل انتخابات السابع عشر من يناير المقبل هناك احتمال بحدوث اشتباك صغير يمكن أن يشعل الصراعات ويجعلها أكثر فتكا. ووصف أندرو ويلسون فى المجلس الأوروبى للعلاقات الخارجية خطاب ميدفيدف بأنه «غير اعتيادى بدرجة كبيرة»، حيث بدا وكأنه يقول للشعب الأوكرانى «هاهى القواعد لسياستك الخارجية، والداخلية، وهاك تفسير دستور بلادك وتاريخك». وخلال شهر أكتوبر صادق مجلس النواب الروسى على القراءة الأولى للعقيدة العسكرية التى تجيز استخدام الجيش فى الخارج لحماية المصالح الوطنية. وفى نداء وجهه عدد من المثقفين الأوكرانيين للرئيس الأمريكى أوباما قالوا إن «هناك دلائل تشير إلى أن روسيا لن تستخدم وسائل القوة من أجل تحقيق أهداف سياستها الخارجية». ومع ذلك فإن معظم المراقبين يؤمنون بأن رئيس الوزراء الروسى فلاديمير بوتين وميدفيديف سيستخدمان التهديد بالحرب لإضعاف وزعزعة الاستقرار فى أوكرانيا. ووفقا لما صرح به جوربولين فإن احتمال اندلاع مواجهة عسكرية سيكون مرجحا بعد أن يتم استنفاد الخيارات الأخرى من الجانب الروسى. وفى مقابلة صحفية مع جريدة الأوبزيرفر البريطانية قال المرشح الرئاسى ارسينى ياتسينيوك إن أوكرانيا لن يتم إرهابها. ويخوض ياتسينيوك رئيس البرلمان السابق المنافسة فى الانتخابات الرئاسية ضد كل من تيموشينكو، يوشينكو، وزعيم المعارضة فيكتور يانوكوفيتش الموالى لروسيا. وأعلن ياتسينيوك « لا يوجد أى احتمال للعودة إلى الاتحاد السوفييتى. لا يمكن أن يوجد المزيد من الامبراطوريات». ومن بين المتنافسين الأربعة، فإن يانوكوفيتش وضع نفسه فى موضع الابن المفضل لروسيا. إنه يستمد الدعم من الأوكرانيين الناطقين بالروسية جنوب وشرق البلاد. وكان قد قال أيضا أنه سيعتبر أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا وجورجيا مقاطعات تحتلها روسيا. وأيا كان الفائز فى هذه الانتخابات فإنه سيواجه مشكلة كيفية التوصل لاتفاق مع موسكو. وفى رسالته أوضح ميدفيديف أنه يرى أن روسيا وأوكرانيا إخوة لا يمكن لهما الانفصال. الحضارة الروسية، كما قال، خرجت من كييف روس كونفيدرالية من دول المدن القائمة حول كييف فى القرن التاسع. ووفقا لهذا الرأى فإن أوكرانيا تعد جزءا لا يتجزأ من روسيا، بل وجزءا ضروريا إذا كان لروسيا أن تكون إمبراطورية مرة أخرى. غير أن نائب رئيس الوزراء الأوكرانى هريهورى نيميريا جريدة الأبزيرفر «إن ما يحدث عبارة عن ضوضاء لاعلاقة لها بالواقع».