منذ بضع سنوات لم يكن هناك حديث للاعلام الغربي الاوروبي والامريكي بشكل خاص سوي ما اطلق عليه في ذلك الوقت الثورة البرتقالية في اوكرانيا. وراحت الاوساط الرسمية الامريكية وفي بعض دول الاتحاد الاوروبي تبشر بعصر جديد للجمهوريات السوفتية السابقة والتحول الديمقراطي الرائع الذي يجري خاصة في اوكرانيا بعيدا عن التسلط والنفوذ السوفيتي والروسي فيما بعد رغم ان الثورة البرتقالية نفسها كانت خروجا علي نظام شرعي منتخب. وكانت الحملة الواسعة لمساندة فيكتور بوشينكو زعيم الثورة البرتقالية في الغرب واشاعة الاساطير حول محاولة اغتياله وتشويه وجهه من قبل اجهزة المخابرات الروسية -طبعا جزءا لايتجزأ من محاولة صناعة الزعيم القادر علي الإبحار بأوكرانيا في اتجاه الشواطئ الغربية للانضمام الي الاتحاد والاوروبي بل الي حلف الاطلنطي. وكان اختيار التوقيت مثاليا فالدب الروسي الجريح يعاني من اقتصاد مرهق ومتدهور وسياسات متضاربة منذ عهد الرئيس بوريس يلنسن والذي امتد لقرابة عقد من السنوات بعد انفكاك عقد الاتحاد السوفيتي علي يديه كما ان الرئيس الجديد فلاديمير بوتين شخص غير معروف سوي انه كان يعمل في جهاز المخابرات السوفيتية وليس من المتوقع ان يمضي علي طريق آخر. وفصل اوكرانيا في ذلك الوقت عن رباط دول الكومنولث يعني محاصرة حقيقية للنفوذ التقليدي الروسي وليس فقط السوفيتي فاوكرانيا كانت جزءا من الامبراطورية الروسية منذ القرن الثامن عشر واللغة الاوكرانية هي في حقيقتها لهجة من لهجات اللغة الروسية كما ان اوكرانيا قدمت لروسيا والاتحاد السوفيتي فيما بعد نجوما لامعة في سماء السياسة والآداب والفنون لعل ابرزهم الزعيم السوفيتي السابق نيكتا خروشوف.. ولكن مياها كثيرة جرت في الانهار والبحار والمحيطات منذ انتصار ماسمي بالثورة البرتقالية وتولي فيكتور يوشنكو رجل امريكا الاول رئاسة اوكرانيا وتعيين اميرة الثورة - يولياثيمو شنكو - والتي كانت جميلة يوما ما رئيسة للوزراء وهي المتحمسة لحلف الاطلنطي. في تلك الفترة جري تدهور كبير للاوضاع الاقتصادية في اوكرانيا والتي كانت ومازالت تعتمد علي روسيا في كثير من احتياجاتها الصناعية خاصة الطاقة وازدادت البطالة وتراجعت نسب الانتاج والنمو الي ماتحت الصفر ولم ينتج عن مشروع الاصلاح الاقتصادي الذي بشرت به اميرة الثروة التي كانت جميلة يوما ما سوي التضخم وزيادة المديونية وفصل العمال وذلك كنتيجة مباشرة لسياسة التوسع في الخصخصة وفتح الاسواق بلا حدود.. وفي تلك السنوات التي اعقبت النجاح المصطنع للثورة البرتقالية والدعم المادي وغير المادي الذي قدمته الولاياتالمتحدة وبعض دول اوروبا الغربية كانت روسيا في عصر رئيسها الجديد فلاديمير بوتين تلملم نفسها وتعيد ترتيب اولوياتها الاقتصادية وترميم ما اصاب اقتصادها من عطب ساعدها علي ذلك الارتفاع الكبير في اسعار النفط والغاز الذي دفع بدماء جديدة في شرايين الاقتصاد الروسي واثبت الرئيس الروسي الشاب انه ليس بعيدا تماما عن تراث الوطنية الروسية وايجابيات المرحلة السوفيتية.. في تلك الفترة وحتي اواخر مارس الماضي، كانت الالوان البرتقالية تختفي من شوارع كييف العاصمة والمدن الرئيسية في اوكرانيا لتحل محلها الوان اخري كلها تصب في اللون الاحمر بدرجاته المختلفة وانتشرت اضرابات العمال والنقابات المهنية وعاد المثقفون الي الساحة وفي الانتخابات البرلمانية التي جرت منذ اكثر من عام برز مرة اخري فيكتور يانوكوفيتس وحزب الاقاليم الذي يرأسه والذي اتهمه الغرب بأنه حزب موال للتحالف مع روسيا بل استطاع يانوكوفيتش ان يحقق اغلبية برلمانية في تحالف مع بعض الاحزاب الاخري مثل الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي. ولم يكن امام الزعيم البرتقالي فيكتور يوشينكو والحال كذلك الا محاولة الالتفاف علي الأمر الواقع واقالة اميرة الثورة البرتقالية يوليا ثيموشنكو من رئاسة الوزارة بعد فشلها الاقتصادي والاجتماعي والتسليم بتولي غريمه فيكتوريا بانوكوفيتش زعيم الاغلبية البرلمانية منصب رئاسة الحكومة.. كان من الواضح ان الزعيم البرتقالي يريد كسب بعض الوقت كما كان من الواضح ايضا ان قوي الاغلبية الجديدة بزعامة يانكوفيتس تعرف جيدا ماذا تفعل ولديها برنامج اقتصادي واجتماعي مختلف حاولت تطبيقة من اللحظات الاولي لتولي الحكومة الجديدة الامر الذي وفر لها ارضية جماهيرية اوسع طوال العام الماضي ادت الي زيادة نفوذ - التحالف الاحمر - حتي بين صفوف الانصار التقليديين للرئيس البرتقالي فيكتور يوشينكو الذي اطلق مدفعه الاخير باصدار مرسوم حل البرلمان واجراء انتخابات جديدة. وكان ذلك هو الطلقة الاخيرة أو الطلقة الواحدة والاربعين مثلما يقول بعض المحللين الاوكرانيين لانهاء اللون البرتقالي تماما من سماء اوكرانيا حيث انها طلقة طائشة تأتي في تناقض تام مع المادة 9 من الدستور الاوكراني الذي يحدد مبررات حل البرلمان في ثلاثة ظروف لم يتوافر احد منها في قراره الاخير. وعلي الجانب الآخر كان تصرف الاغلبية البرلمانية الجديدة وكلمة فيكتور يانكوفيتش رئيس الحكومة الذي اتسمت تصرفاته بالثقة والقدرة في نفس الوقت. وخرجت المظاهرات الحاشدة أمام البرلمان وأمام قصر الرئاسة في كييف وهي تحمل هذه المرة أعلاما بألوان غير برتقالية تنادي بعدم شرعية ودستورية قرار الرئيس البرتقالي بحل البرلمان ووجه رئيس الحكومة وزعيم الأغلبية الجديدة نداء إلي دول الاتحاد الأوروبي للتدخل لحل الأزمة علي أسس ديمقراطية بل اختار الرئيس النمسوي الحالي للقيام بهذا الدور وفي نفس الوقت قدم زعيم الأغلبية الجديدة غير البرتقالية دعوي إلي المحكمة الدستورية العليا في اوكرانيا للنظر في دستورية القرار الذي اتخذه الزعيم البرتقالي لحل البرلمان. وتعيش كييف ومعها اوكرانيا هذه الأيام أياما عصيبة وفارقة بينما يتواصل تدفق الجماهير الموالية للبرلمان والحكومة علي قلب العاصمة بل محاصرة منزل الرئيس البرتقالي يوشينكو يصر الرئيس علي المضي قدما في اجراء انتخابات برلمانية جديدة حدد لها يوم 27 مايو المقبل وتنفتح آفاق الاحتمالات واسعة لعلها تتلخص في تلك الخيارات: * ان تستطيع المحكمة الدستورية العليا وقبل نهاية مايو اصدار قرارها بشرعية أو عدم شرعية الاجراء الذي اتخذه الرئيس الاوكراني بحل البرلمان. * ان يتواصل الحوار بين رئيس الجمهورية البرتقالي ورئيس الوزراء وزعيم الأغلبية غير البرتقالي الي حل وسط يجمد فيه قرار حل البرلمان مقابل عدم قبول المجموعة البرلمانية التي خرجت علي البرتقاليين في تحالف الأغلبية. * ان يحاول الرئيس البرتقالي تكرار ما فعله الرئيس بوريس يلتسن في اكتوبر 1993 حين امر بقصف البرلمان بالدبابات والمدافع الثقيلة وهو أمر يضع اوكرانيا علي شفا حرب اهلية حيث ان الاوضاع غير الأوضاع والظروف اختلفت تماما. * ان تجري انتخابات جديدة بالفعل في أواخر مايو للبرلمان ولمنصب الرئيس في نفس الوقت وفي هذه الحالة يؤكد المراقبون تأكيد هزيمة البرتقاليين وانتصار مؤكد لحزب الأقاليم وحلفائه خاصة الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي. علي ان اللافت للنظر والانتباه في هذا كله هو الصمت الحائر الذي يلف دول الغرب الأوروبي والأمريكي ومحاولة أجهزة الإعلام الغربية تهميش مجريات الأمور في كييف بعد ان كانت هذه الاجهزة عالية الصوت تضرب علي جميع الاوتار والدفوف تبشيرا بما اسمته بالثورة البرتقالية.. التي كانت.