تتمدد حركة الاحتجاج على نتائج الانتخابات الرئاسية الإيرانية لتتحول إلى ثورة شعبية جارفة تقتلع فى طريقها الجمهورية الإسلامية والدولة الدينية التى تقوم عليها الجمهورية. هذا على الأقل ما أوحت به التغطية الإعلامية والتصريحات الغربية حول الانتخابات والمظاهرات المصاحبة لها طوال النصف الثانى من الشهر الماضى، وما نقلته عنها الصحافة العربية بإفاضة. وقد أعطت هده التغطية الواسعة انطباعا قويا بأن إيران كانت على مشارف ثورة حقيقية تكاد تدانى الثورة التى أطاحت بالشاه محمد رضا بهلوى وأتت بآية الله الخمينى والدولة الإسلامية إلى الحكم منذ ثلاثين عاما. لكن المشهد هذه المرة كان مختلفا تماما. لم يكن الملالى الشيعة بلحاهم وأرديتهم وعمائمهم السوداء هم الصورة الطاغية على المشهد المثير، ولم تكن شرائط الكاسيت هى التى تنشر شرارة الثورة وشعاراتها وخطب الإمام الخمينى كما كان الأمر فى فبراير عام 1979. كانت جموع المحتجين على نتائج الانتخابات منذ اليوم الأول من شباب العشرينيات وأوائل الثلاثينيات بملابسهم العصرية الملونة، وبنطلونات «الجينز» الزرقاء ووشاح الرأس الذى يظهر من الشعر أكثر مما يغطى، شباب متحمس مسلح بأحدث أجهزة الاتصالات التى تنقل تطورات الأحداث لحظة بلحظة بالصور الحية، شباب متواصل بأحدث وسائل الاتصال بدءا بال«فيس بوك» إلى ال«تويتر» ورسائل التليفون النقال (SMS) والإنترنت. وهذه بالحق هى روح الشباب القلق دائما، الطموح دائما، المتمرد على ما هو قائم، الساعى للتغيير دائما.. هو الشباب الذى فجر حركة الاحتجاجات فى فرنسا عام 1968 وأرغم حكومة الجنرال ديجول وجورج بومبيدو رئيس الوزراء وقتها على تغيير مناهج وأساليب التعليم والتوظيف السائدة فى ذلك الوقت. لكن المحير فى ظاهرة الاحتجاجات الإيرانية الأخيرة أمران: الأول أن الاحتجاجات على التزوير كانت على ما يبدو جاهزة سلفا ومبنية على افتراض حاسم مفاده أنه إن لم يفز المرشح مير حسين موسوى على الرئيس أحمدى نجاد فلابد أن تكون الانتخابات مزورة. وهذا الافتراض قائم أصلا على شائعة أن أداء أحمدى نجاد كان ضعيفا أمام منافسيه فى المناظرات التليفزيونية التى سبقت الانتخابات، بالإضافة إلى عدم اهتمامه بالقضايا الاقتصادية ومناطحاته الحادة مع الغرب حول برنامج إيران النووى وإنكاره لمحرقة اليهود. لكن من شاهدوا تلك المواجهات التليفزيونية أكدوا أن أحمدى نجاد تفوق بشكل واضح على منافسيه وحاصرهم بتهم الفساد والإثراء غير المشروع. وأما الأمر الثانى فهو اصطباغ حملة الاحتجاج المؤيدة لموسوى باللون الأخضر. وهذه من ناحية ظاهرة حميدة تهدف إلى التعارف بين المتظاهرين من أنصار نفس المرشح أو نفس الاتجاه وتبادل الأخبار «والشائعات أيضا» والاتفاق على أماكن التجمع ومسيرة المظاهرات ورفع الشعارات الموحدة مثل «أين صوتى؟» إلى آخره. لكنها من ناحية أخرى تحمل شبهة حركات الاحتجاج الملونة التى شاعت فى جمهوريات الاتحاد السوفيتى السابقة فى النصف الأول من العقد الحالى، ومثلت انقلابا بتخطيط وتمويل غربى على السلطة القائمة، بغض النظر عن صفات تلك السلطة ومدى نقائها أو فسادها. فى جورجيا أطاحت «الثورة الوردية» بإدوارد شيفارنادزه رئيس الجمهورية بتنظيم وتنسيق مع مؤسسات أمريكية لدعم الديمقراطية على خلفية تزوير الانتخابات البرلمانية فى عام 2003. وفى أوكرانيا أنفقت إدارة الرئيس السابق جورج بوش ما يزيد على 65 مليون دولار لتنظيم «الثورة البرتقالية» التى أتت برئيس الوزراء الأسبق فيكتور يوتشنكو رئيسا للجمهورية فى عام 2004 بعد أن أقرت المحكمة العليا بوقوع تزوير فى الانتخابات الرئاسية. وفى عام 2005 انتصرت «ثورة الزنبق» فى جمهورية قيرجستان بتمويل من الولاياتالمتحدة بلغ 12 مليون دولار تحت غطاء «دعم الديمقراطية»، وتبع ذلك إقامة قاعدة «ماناس» العسكرية الأمريكية هناك لإمداد القوات الأمريكية فى أفغانستان باحتياجاتها. كما أنفقت الولاياتالمتحدة 18 مليونا من الدولارات فى سنوات 2004 2005 لدعم حكم الرئيس إسلام كاريموف الدكتاتورى فى أوزبكستان بعد محاولة تمرد سحقتها قواته وقتلت فيها ما يزيد على 200 من المتمردين على حكمه الرئاسى الذى بدأ عام 1990 حين تحالف مع الولاياتالمتحدة بعد أن كان سكرتيرا للحزب الشيوعى فى الجمهورية الآسيوية السوفييتية. وهكذا أصبحت «الثورات الملونة» التى تقوم على تنظيم وتدريب عناصر المعارضة فى الداخل بديلا عصريا اعتمدته إدارة بوش عوضا عن تدبير الانقلابات العسكرية التى كانت المنهج الثابت لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية لتغيير نظم الحكم التى لا ترتاح إليها أو التى تخشى من توجهاتها السياسية، كما كان الحال دوما فى دول أمريكا الجنوبية. ظاهرة الثورات الملونة هذه التى شهدتها إيران فى دول الجوار الآسيوية غير البعيدة هى التى أثارت هواجس مجلس صيانة الدستور والمرشد الأعلى آية الله على خامئنى من أن الاحتجاجات المضرجة باللون الأخضر قد تكون مقدمة لمحاولة حركة انقلاب داخلية لا تستند إلى النتائج الحقيقية للانتخابات، وإنما للتخلص من نظام الدولة الإسلامية، ورئاسة أحمدى نجاد المعادية للغرب، وطموحات إيران النووية. كانت قراءة خامئنى لنتائج الانتخابات بعيدا عن مظاهرات الاحتجاج دالة. اعترف فى خطبة الجمعة اللاحقة ليوم الانتخابات أنه قد تكون هناك بعض المخالفات «وربما تكون فى حدود مائة ألف صوت، أو نصف المليون، بل وحتى المليون صوت»، لكنها على حد قوله لا تطاول فارق الأحد عشر مليون صوت الذى تقدم به أحمدى نجاد على منافسه حسين موسوى. وحين ألمح آية الله خامئنى إلى أن تفاقم الموقف وعدم الانضباط قد يستدعى تدخل «الحرس الثورى» فإنه كان يرى فى المشاركين فى مظاهرات الاحتجاج صورة مختلفة عما ضخمته وسائل الإعلام الغربية وقدمته على أنه واحدة من الثورات الملونة تجتاح إيران وتبشر بانقلاب شامل طال انتظاره. ما رآه آية الله خامئنى هو شريحة صغيرة من الطلبة ومن سكان شمالى طهران من الطبقة فوق المتوسطة الليبرالية لا تقارن بالملايين الثلاثة من جميع طبقات الشعب الإيرانى التى تحدت نظام الشاه محمد رضا بهلوى وأجبرته على الهروب فى فبراير عام1979. كما أن فرز الأصوات أوضح أن محمود أحمدى نجاد، نصير الفقراء وعدو الملالى الأثرياء، والمتطاول على نفوذ الغرب، لم يكن بحاجة للتزوير لكسب الانتخابات. وعلى حد تعبير أحد المحللين الغربيين كانت حركة الاحتجاجات فى طهران أقرب ما تكون إلى أحداث ميدان «تيانانمان» (بوابة السلام السماوى) فى بكين فى يونيو عام1989 منه إلى ثورة سان بطرسبرج البلشفية عام 1917 أو ثورة بوخارست عام1989 التى أنهت حكم نيقولاى تشاوشيسكو وحياته. من دروس التاريخ أن الثورة دائما هى من تخطيط وتدبير النخبة التى عادة ما تكون شريحة ضيقة ومحصورة من النسيج الاجتماعى، محدودة من حيث سرية التدبير والاتصال،لكن نافذة على طموحات المجتمع الأوسع من حيث الرغبة الجارفة فى التحول الاقتصادى والسياسى والاجتماعى العميق والشامل. النخبة فى حاجة دائما إلى القطاعات العريضة من الجماهير الساخطة، وهى وقود الثورة الذى تتقدم به وتبرر به شرعيتها، والجماهير فى حاجة إلى النخبة المدبرة التى تقودها وتعبئها وتدفعها إلى التضحية إذا لزم الأمر. والتحدى الأكبر الذى تواجهه النخبة المدبرة هو أن تستقطب الشرائح العريضة والمتنوعة من المجتمع، وخاصة حيث تكون الانتماءات والمصالح السياسية والاجتماعية متنوعة إن لم تكن متنافرة. فإذا لم تنجح النخبة فى توسيع قاعدة المشاركة وتحقيق الانتشار أصبحت محاولة لقلة معزولة يسهل على قوات الأمن الموالية للنظام، أو للقوات المسلحة المنضبطة تنظيميا، ضربها والقضاء عليها دون تدخل حاسم من قوى الشعب المحايدة. لقد فكر شاه إيران فى استخدام الجيش لإجهاض ثورة الخمينى ولكنه خشى أمرين: الأول هو أن ينقسم الجيش وتنضم بعض قطاعاته المتعاطفة إلى الثورة، وبذلك ينتصر التعاطف مع الشعب على الانضباط العسكرى، وتصبح الحرب الأهلية خطرا محسوما. وثانيهما أن الرئيس الأمريكى جيمى كارتر وقتها أبلغ الشاه فى رسالة سرية حملها إليه مبعوث خاص أنه إذا تراءى للشاه استخدام الجيش ضد الشعب فإنه لا يمكنه أن يعتمد فى ذلك على أى نوع من التأييد من جانب الولاياتالمتحدة. وساعتها فقط أُسقط فى يد الشاه. وليس من شك فى أن حركة الاحتجاجات فى طهران قد أحدثت هزة عنيفة فى صفوف المؤسسة الدينية الإيرانية بحكم رغبة بعض أجنحتها فى التخلص من حكم أحمدى نجاد الذى يهدد مصالحها الاقتصادية والإثراء الذى حققته باستغلال النفوذ، ثم بحربه المتواصلة ضد الفساد، خاصة بعد أن طالت تصريحاته أثناء المناظرات التليفزيونية زوجة على أكبر هاشمى رافسنجانى رئيس مجلس الخبراء «86 عضوا» الذى يختار المرشد الأعلى. وكان رافسنجانى قد خسر انتخابات الإعادة بينه وبين أحمدى نجاد فى عام 2005. كما يشاع أنه قام بتمويل حملة مير حسين موسوى الانتخابية وأنه من الداعين إلى إعادة الانتخابات واعتبار رئاسة أحمدى نجاد غير شرعية. المعركة داخل النظام لم تنته بعد، وحركة الاحتجاج على نتائج الانتخابات مهما كانت دوافعها أثبتت أن نظام الثورة الإيرانية فى حاجة إلى عملية تجديد للدماء، وليس نقل دماء من متبرعين أجانب، خاصة مع نضوج جيل من الشباب لم يعاصر إرهاصات ثورة 1979 ولا انتصاراتها. وهذه هى المهمة الصعبة التى يواجهها المرشد الأعلى والرئيس أحمدى نجاد، وهى أيضا معركة بقاء للحرس القديم من أثرياء الملالى.