من الخطأ اختزال الحراك الاحتجاجي الذي شهدته إيران، في أعقاب الإعلان عن فوز أحمدي نجاد بفترة رئاسية ثانية، وأسبابه في تداعيات العملية الانتخابية ورفض المرشحين الإصلاحيين مير حسين موسوي ومهدي كروبي الاعتراف بشرعية النتائج واتهامهما السلطات الرسمية بالضلوع في تزوير منظم لإرادة الناخبين على نحو ضمن لنجاد فترة رئاسية جديدة لا يستحقها. فالمواطنين الإيرانيين الذين تظاهروا في شوارع طهران لم يحركهم فقط دافع الاعتراض على نتائج الانتخابات أو مساندة موسوي وكروبي، بل تواكب ذلك مع نزوع قطاعات شبابية ونسائية للتمرد على إجراءات الضبط الاجتماعي القاسية التي تمارسها الجمهورية الإسلامية بحقهم منذ 1979، ورغبتهم في انتزاع حرياتهم العامة والمدنية والحد من القيود الواردة عليها في الفضاء العام. هؤلاء تحدوا القيادة المحافظة ممثلة في المرشد الأعلى علي خامنئي ومرشحه للرئاسة أحمدي نجاد ورفعوا شعارات سياسية شديدة الحدية مثل "يسقط الديكتاتور" و"الموت للديكتاتور" و"سيد علي بينوشيه، لن تصبح إيران شيلي" (في ربط بين المرشد خامنئي وديكتاتور شيلي السابق الجنرال أوجستو بينوشيه). البعض الآخر خرج إلى الشارع مدفوعا بسوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في إيران ومحملا لنجاد مسئولية ارتفاع معدلات البطالة والفقر والتضخم في 2008 إلى 12% و18% و 28% على التوالي. فريق ثالث تظاهر ضد استمرار النهج المعادي للولايات المتحدة وأوروبا الذي عبر عنه خلال الأعوام الماضية المرشد خامنئي ونجاد، وما رتبه من عزلة دولية لإيران وعقوبات أممية فرضت عليها وساهمت في تردي أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية. لهذه القطاعات والفرق المختلفة لم يشكل الإعلان عن فوز نجاد الانتخابي سوى لحظة طال انتظارها للخروج إلى الشارع والتعبير عن تبلور طاقة احتجاجية، خاصة في المدن، لم تأخذها السلطات الرسمية على محمل الجد وتجاهلت أهميتها. نعم، نجح المرشح الإصلاحي موسوي وبدرجة أقل كروبي قبل الانتخابات وفي أعقابها في تبني مطالب المحتجين وأعطوا لحراكهم الصوت والوجه، إلا أن الأمر تجاوزهما كما تخطى مؤيديهم محدودي العدد وضعيفي التنظيم. وعلى الرغم من أن السلطات الرسمية وأجهزتها الأمنية تمكنت من قمع المظاهرات، كما تدلل الأعداد المتناقصة للمتظاهرين في الأيام الأخيرة، وحسم مجلس صيانة الدستور للتنازع حول نتائج الانتخابات لمصلحة نجاد وبعيدا عن المسار المستقبلي للصراع بين المرشد خامنئي ومناوئيه داخل المؤسسة الدينية، يظل توقع الاحتواء التام للحراك الاحتجاجي غير واقعي ويضع الجمهورية الإسلامية وللمرة الأولى منذ الثورة في 1979 أمام معضلة السيطرة على شارع تمردت بعض قطاعاته على القيادة المحافظة ومرجعيتها الدينية بقوة وأظهرت رفضها لاختياراتها السياسية في الداخل والخارج وتحديها لشرعيتها. من جهة ثانية، تباين تعاطي الدول الغربية مع المشهد الإيراني بين اندفاع أوروبي وحذر أمريكي مارسته إدارة أوباما بالرغم من ضغوط داخلية متصاعدة. أوروبيا، تسارعت وتيرة النقد الرسمي للسلطات الإيرانية على خلفية قمع المظاهرات وعنف الأجهزة الأمنية ضد المتظاهرين لتصل إلى تدخل مباشر من الحكومات البريطانية والفرنسية والألمانية، في تداعيات الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية، بإثارة الشكوك حول نزاهتها ودعوات متكررة إلى إعادة فرز الأصوات وربما العملية الانتخابية برمتها. في المقابل، التزمت إدارة أوباما في الأسبوع الأول للاحتجاج الحيادية التامة تجاه الأطراف الداخلية ولم يصدر عن مسئوليها تصريحات تدلل على انحياز للإصلاحيين موسوي وكروبي أو تشكيك في نتائج الانتخابات وفوز نجاد، بل اكتفت الإدارة إزاء قمع وعنف الأجهزة الأمنية بالتنديد بانتهاكات حقوق الإنسان والتشديد على حق الإيرانيين في التعبير عن قناعاتهم عبر مظاهرات سلمية. وكان واضحا أن قراءة أوباما للمشهد الإيراني استندت إلى رفض التعامل مع الاحتجاج باعتباره مقدمة ينبغي استغلالها لتغيير نظام الجمهورية الإسلامية من الداخل والتخلص من القيادة المحافظة المعادية للولايات المتحدة، وكذلك إلى الخوف من نزوع خامنئي ونجاد لتوظيف موقف أمريكي رسمي منحاز للإصلاحيين للخصم من رصيدهم الشعبي واتهامهم بالعمالة لواشنطن والغرب. بيد أن دخول المظاهرات في أسبوعها الثاني وتعالي أصوات اليمين الأمريكي وبعض أعضاء الكونجرس من الحزب الديمقراطي مطالبة أوباما بتبني الحراك الاحتجاجي، دفع الإدارة في مرحلة تالية إلى الحديث بإيجابية عن الإصلاحيين (قول أوباما أن موسوي أسر خيال الإيرانيين) والتلويح بإمكانية تأجيل الانفتاح التفاوضي مع إيران حول برنامجها النووي والعديد من الملفات الإقليمية كالعراق وأفغانستان إلى أن يحسم الصراع الداخلي. ومع ذلك، استمر العزوف عن التدخل في الخلاف حول نتائج الانتخابات، والتأكيد على أن الإيرانيين وحدهم هم من يحددون هوية رئيس جمهوريتهم هو الخيط الناظم لموقف إدارة أوباما، وما زال. عربيا، ما لبثت المواقف الرسمية لحلفاء إيران كسورية وحزب الله والبعيدين عنها كمصر والسعودية تتسم بحذر وتريث، مصدرهما عند المجموعة الأولى الطبيعة المفاجئة والمربكة للحراك ولدى الثانية الامتناع عن التدخل في شئون دولة كثيرا ما تنتقد للعبث بداخل الدول العربية بحثا عن مصالحها. أما الرأي العام العربي، فقد أظهرت الأيام الماضية أن نظرته للمشهد الإيراني تحدد معالمها إما مقاربة انبهارية ترى في الجمهورية الإسلامية خيرا خالصا أو مخاوف متراكمة من نوايا حكام إيران تحول دون فهم الواقع. انبرى العديد من الكتاب والمحللين العرب للدفاع عن المرشد الأعلى وأحمدي نجاد واستبطنوا خطاب الأجهزة الأمنية المتهم للإصلاحيين بالعمالة للغرب، وللأخير بالتورط في الحراك الاحتجاجي على نحو تآمري للحد من تصاعد قوة إيران وإيقاف برنامجها النووي، بل تجاوز بعضهم حدود الموضوعية بكيل المديح للديمقراطية الإيرانية وانتخاباتها النزيهة، متجاهلين علامات الاستفهام الكثيرة التي ترد على نظام سياسي مرجعيته النهائية مرشد ديني لا ينتخبه الشعب وعلى انتخابات تديرها هيئات وأجهزة ترفض من لا تراه مناسبا من المرشحين وربما تلاعبت بأصوات الناخبين. أما المتخوفون من نوايا إيران فسرعان ما اصطفوا مع الإصلاحيين واضعين على ألسنتهم ما لم يتفوهوا به عن رغبة في التزام الاعتدال في السياسة الخارجية الإيرانية تجاه العالم العربي والغرب، وتبنوا خطابا هو في دعوته للإطاحة بأحمدي نجاد والمحافظين إلى اليمين الأمريكي ونظرية تغيير النظم أقرب. وفي الحالتين غاب الفهم الموضوعي للحراك الاحتجاجي في إيران وتداعياته السلبية الأكيدة، على الأقل في المدى القصير، على قدرة الجمهورية الإسلامية ممارسة دور إقليمي نشط ومهيمن في لحظة يتم بها تحدي سلطتها وشرعيتها بالداخل.