غير أن هذه السطوة التي تمتع بها بلير، بدأت تنحسر نوعاً ما، على إثر انضمامه إلى المجهود الحربي الذي قادته واشنطن بغية الإطاحة بالرئيس العراقي صدام حسين. وكان قراره خوض الحرب، قد أسفر عن القليل من الاستقالات التي تقدم بها بعض وزرائه. وأبرز هؤلاء، وزير الخارجية السابق روبن كوك، الذي تحول إلى واحد من أشد منتقدي بلير منذ ذلك التاريخ. وللمرة الأولى خلال الست سنوات الماضية، أظهرت نتائج استطلاع الرأي العام، ارتفاعاً نسبياً في تأييد المحافظين، قياساً إلى منافسيهم في حزب العمال. ومن دون سابق مقدمات، برز المحافظون كقوة سياسية معارضة تتسم بالمصداقية، وفي وسعها الفوز بالانتخابات المقبلة، مع العلم بضرورة أن تجرى هذه الانتخابات قبل حلول يونيو من عام 2006. والسبب الوحيد وراء ارتفاع التأييد الشعبي للمحافظين، هو الشعور بالإحباط تجاه سياسات بلير. \r\n \r\n وربما يبدو هذا أمراً غريباً بالنسبة للأميركيين. ذلك أن انحسار شعبية بلير داخل بلاده، يتزامن مع ارتفاع شعبيته، إلى أقصى مداها في الولاياتالمتحدة الأميركية. وقد حقق بلير تلك الشعبية في أميركا، نتيجة لإعلانه مشاعر صداقة صريحة مع واشنطن، إثر هجمات الحادي عشر من سبتمبر مباشرة. وخلال المداولات والحوارات التي سبقت الحرب على العراق، كان تمسك بلير بمبدأ العمل الجماعي الدولي، قد أصاب هوى في نفوس أولئك الأميركيين القلقين إزاء أحادية رئيسهم بوش. وراق بلير للكثيرين من الأميركيين، الذين وجدوا فيه زعيماً سياسياً شاباً، ولا سيما أنه ذو شخصية مؤثرة، وقد اعتبروه شجاعاً، وذكياً بما لا يقبل الجدل أو النقض. بل جعل منه بعض المتحمسين شعاراً دعائياً لحملة انتخابية تساند الرئيس بوش. ولكن لم يمنع ذلك من أن يرى فيه بعض الأميركيين، شخصاً مثيراً للحيرة والارتباك، سيما في ظل تزامن انحسار شعبيته داخل بلاده، مع صعودها المذهل داخل الولاياتالمتحدة. وتساءل هؤلاء قائلين: ما السبب الذي دعا هذا الليبرالي البريطاني المحترم، الذي لا يزال يحتفظ بعلاقات صداقة جيدة مع عائلة كلينتون، إلى الركوب في قاطرة بوش؟ \r\n \r\n إن حالة الارتباك التي يعيشها الأميركيون، لا تعني شيئاً، قياساً إلى حيرة البريطانيين، الذين يعتقد الكثيرون منهم، أن شيئاً ما غريباً، حدث لرئيس وزرائهم خلال رحلته إلى واشنطن. يذكر أن مارجريت تاتشر ورونالد ريجان، كانا توأمين روحيين، غير أنه لا يفترض مطلقاً، أن يكون رؤساء الوزراء الليبراليون البريطانيون، أصدقاء بكل هذا القدر، للرؤساء الجمهوريين! ليس ذلك فحسب، بل إنه ليس مفترضاً في حزب العمال، الذي عرفت عنه سلبيته دائماً، أن يكون بكل هذه العدوانية في سياساته الخارجية. \r\n \r\n الواقع أن بلير هو صاحب طموح سياسي عالٍ، لا يجعله يكتفي بمجرد إدارة بلاده الصغيرة، على نحو جيد فحسب. فهو سياسي يطمح إلى أن يكون رجل دولة، بكل ما تعنيه الكلمة. ولكن هنا وفي هذا الطموح بالذات، تكمن المشكلة. فالشاهد أن التطلع للعب دور خارجي مؤثر في السياسة الدولية، قد أصبح أمراً في غاية التعقيد هنا في بريطانيا، التي تتنازعها ثلاثة اتجاهات. فهناك كتلة اليسار التي ترى أن بريطانيا جزء من أوروبا. أما كتلة اليمين، فتبدي ميلا أكبر تجاه الولاياتالمتحدة الأميركية. وبين هذه وتلك، توجد مجموعة ثالثة، لا يزال يشدها الحنين إلى ماضي الأمجاد الإمبراطورية، وهذه المجموعة أكثر ميلا إلى أن تظل بريطانيا مستقلة لحالها عن أية ارتباطات أوروبية أو أطلسية. \r\n \r\n وفي اعتقاد بلير، أن في وسعه تجاوز المجموعة الثالثة كليا، في ذات الوقت الذي يعمل فيه على دمج المجموعتين الأخريين. وفي اعتقاده أيضاً، أنه من العبث أن تسعى بريطانيا في ظل عالمنا المتعدد هذا، إلى أن تميل شرقاً أو غرباً. بدلا من ذلك، يطمح بلير إلى أن يجعل من بريطانيا، جسراً واصلاً ما بين أوروبا وأميركا. وفي ذات الوقت، فإن في ذهنه أن مشروعاً كهذا، سيسمح لبريطانيا، بأن يكون لها نفوذ دولي أكبر من حجمها الحقيقي بكثير. \r\n \r\n وكان المحلل السياسي تيموثي جارتون آش، هو الذي أطلق اسم \"مشروع جسر بلير\" على تلك الفكرة. وهي فكرة تبدو جيدة ومعقولة على المستوى النظري. بيد أنها برهنت- على صعيد الممارسة- على كونها فكرة مرعبة، رعب الخيال السينمائي الذي يقف من ورائها. والواقع أن هذه الفكرة، كانت قد مضت على نحو معقول، يوم أن كان بيل كلينتون رئيساً للولايات المتحدة، بفضل الوفاق القائم بين بلير وكلينتون حول الكثير من القضايا. ومع ذلك، فإن الاتفاق لن يكون يوماً مرادفاً للمساواة. والوجه الآخر للحقيقة، هو أن بريطانيا ستظل دائما، \"الشريك الأصغر\" لأميركا. وقد اتضحت دونية بريطانيا، عندما أصبح بوش رئيساً للولايات المتحدة، وأرغم بلير على التوقيع والمصادقة على سياسات، ليس مقتنعاً بها من صميم قلبه. \r\n \r\n فلنتخذ من العراق مثالا. فعلى رغم إصرار بلير على صحة موقفه من مساندة الحرب على العراق، إلا أنه في دخيلة نفسه، كان يأمل لو أن بوش، خاض تلك الحرب على نحو مختلف. وإذا كان بلير قد اندفع كل ذلك الاندفاع، فلاعتقاده بأن هناك أسلحة دمار شامل لابد من العثور عليها هناك. وفيما لو تم العثور على تلك الأسلحة، تتأكد حاسته وتصدق حكمته، ومن ثم سيكتب النجاح لمشروع الجسر الأميركي الأوروبي الذي ينوي تشييده. ولكن ها قد تبخر الأمل، وذهب معه حلم المشروع. ولما كان بلير، قد تجاهل شعبه في الداخل، فإن عليه أن يخطب ود الأميركيين، وليس البريطانيين، في مواجهته للأزمة السياسية الماثلة في الداخل. \r\n \r\n \r\n جيرارد دي جروت \r\n \r\n أستاذ التاريخ في جامعة سان أندرسون في سكتلندا \r\n \r\n ينشر بترتيب خاص مع خدمة \"كريستيان سيانس مونيتور\"