لقد احتار البريطانيون في أمر رئيس وزرائهم توني بلير لبرهة من الوقت. ولاشك أن الأمريكيين، بدأوا يشاركون البريطانيين الشعور نفسه، تجاه الرئيس بوش. وفيما نذكر فقد أعلن "توني بلير" مؤخراً عن اعتزامه إجراء خفض كبير في عدد قواته المنتشرة في جنوبي العراق. وقد صادف هذا الإعلان وقتاً، يواصل فيه صديقه بوش جهوده ومحاولاته المستميتة لإقناع الكونجرس والرأي العام الأمريكي بحكمة إرسال تعزيزات عسكرية كبيرة إلي العراق، في إطار التزام أمريكا باستكمال مهمتها الجارية الآن في العراق. ولا غرو أن جاءت خطوة بلير هذه، فيما يشبه الإهداء ل"الديمقراطيين" وغيرهم من المنتقدين الأمريكيين لسياسات بوش في بلاد الرافدين، ولذلك فهي قد زادت مهمة بوش تعقيداً وصعوبة علي ما كانت عليه. ولكن ما الذي حدث لفكرة "الصديق وقت الضيق" هنا؟ الملاحظ أن بلير قد سعي للتخفيف من أثر الصدمة ومفعولها، بإشارته إلي أن الأوضاع في البصرة والجنوب العراقي حيث ترابط القوات البريطانية تختلف تمام الاختلاف عما هي عليه في العاصمة بغداد. فليس هناك عنف طائفي سُني- شيعي، بحكم غلبة الطائفية الشيعية علي الجنوب العراقي كله. وفي الوقت ذاته، فإنه لا أثر يذكر تقريباً لتنظيم "القاعدة" وغيره من التنظيمات والجماعات الإرهابية السُّنية، في جنوبي العراق. وإلي ذلك كله أضاف "توني بلير" قائلاً إن انتشار الجزء الغالب من قوات بلاده، سيستمر كما هو لمدة عام كامل علي أقل تقدير. وعلي رغم وجاهة هذه المبررات المقدمة من رئيس الوزراء، فإنها تخفي وراءها وتحتها أكثر مما تكشف عنه خارجياً وفي السطح. ذلك أن البصرة وجنوبي العراق، لا يزالان تسودهما حالة من الفوضي والاضطراب، علي رغم مهنية أداء القوات البريطانية فيهما خلال السنوات الثلاث الماضية. وليس ذلك فحسب، بل يتسم أداء الحكومة العراقية بالضعف فيهما. أما السبب وراء انخفاض النزاع الشيعي السُّني في الجنوب، فهو أن المنتمين للأقلية السُّنية قد أرغموا علي الفرار من الجنوب، بفعل التطهير العرقي الذي يتعرضون له هناك. وللمليشيات الشيعية في البصرة يد طولي علي الحياة فيها. وعلي الرغم من الانتماء الشيعي لاثنتين من هذه الميلشيات، فإنهما تواصلان العراك والاقتتال فيما بينهما بهدف السيطرة علي الإقليم كله. وكثيراً ما هاجمت المليشيات هذه القوات البريطانية المرابطة هناك، استعراضاً لعضلاتها العسكرية من جهة، وتعبيراً عن نقمتها علي الوجود الأجنبي في الإقليم، من جهة أخري. غير أن الجانب الأبلغ دلالة ومغزي في هذا القرار، هو توقيت الإعلان عنه. وقد كان في وسع بلير إرجاؤه لبضعة أسابيع إن كانت في نيته مساعدة حليفه الأمريكي بوش. بيد أن ضعف بلير الداخلي، وحدة الانتقادات التي تعرضت لها سياساته في العراق، هما ما أمليا عليه ذلك التوقيت. وضمن ذلك، فقد أراد بلير أن يطمئن الشعب البريطاني علي قرب نهاية مغامرته العراقية، تمشياً مع قرب النهاية الكارثية لمدة رئاسته لمجلس الوزراء أيضاً. وقد سادت قناعة عامة في أوساط البريطانيين اليوم، بأن تلك المغامرة العراقية، تعد الكارثة الأسوأ في تاريخ السياسات الخارجية البريطانية الحديثة منذ عام 1956، في إشارة إلي العدوان الثلاثي البريطاني والفرنسي والإسرائيلي علي مصر، إثر إعلان الزعيم المصري الراحل جمال عبدالناصر عن تأميم قناة السويس. ويجمع الناخبون البريطانيون اليوم، علي اختلاف انتماءاتهم ومشاربهم السياسية، علي ضرورة تحمل بلير وحده وزر مسئولية انضمام القوات البريطانية لغزو بوش الطائش للعراق في صيف عام 2003. ثم إن المعضلة التي يواجهها بلير الآن، تفوق ذلك بكثير. فالانتقادات لا تنصبُّ علي الحرب وخطأ السياسات التي صاحبتها وحدها، وإنما علي الدعم غير المحدود الذي قدمه بلير لحليفه في البيت الأبيض. وليست هذه الانتقادات نابعة من محض كراهية بريطانية للأمريكيين، إذ يعرف عن البريطانيين أنهم من أكثر شعوب العالم صداقة وولاءً تقليدياً لأمريكا. ولذلك فإنهم يتوقعون لرئيس وزرائهم أن يكون علي صلة وثيقة بالرئيس الأمريكي. فهذا ليس محل جدال يذكر بينهم. لكن علي رغم ذلك، فقد اتهم بلير بأنه كان مفارقاً لغيره من رؤساء الوزراء السابقين، في انحيازه المفرط وغير المشروط لواشنطن، ومناصرته إياها ظالمة كانت أم مظلومة! وما أصدق هذا الاتهام في الجزء الغالب منه، بالمقارنة مع كثرة الخلافات التي كانت تطرأ بين رئيس الوزراء الأسبق ونستون تشرشل وحليفه الأمريكي فرانكلين روزفلت، فيما يتعلق بسياسات الأخير إزاء الاتحاد السوفييتي سابقاً. وبالقدر ذاته، كان رئيس الوزراء البريطاني السابق "هارولد ويلسون"، قد رفض إرسال قوات من بلاده إلي فيتنام، علي رغم تواتر طلب وإلحاح الرئيس الأمريكي حينها، "ليندون جونسون". وبالمثل كانت قد طفحت خلافات لا حصر لها بين كل من "جون ميجور" والرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، فيما يتصل بالسياسات الخاصة بالبوسنة. وينطبق هذا التقليد، حتي علي رئيسة الوزراء السابقة مارجريت تاتشر، علي رغم كل ما عرف عن رسوخ تحالفها وصداقتها مع الرئيس الأسبق رونالد ريجان. فحين رأت "تاتشر" في السياسات الأمريكية طيشاً ومجافاة للحكمة، لم تتردد في الجهر بهذه الصفات علناً علي الملأ. وقد حدث ذلك بالفعل إثر اجتياح الولاياتالمتحدة لغرينادا، دون إخطار الملكة البريطانية إليزابيث الثانية بذلك، مع العلم بأنها كانت رأس دولة سابقة لغرينادا. وتكرر موقف "تاتشر" كذلك، لدي ممارسة واشنطن ضغوطاً علي بريطانيا، بهدف منعها من التبادل التجاري مع الاتحاد السوفييتي، في صفقة أنابيب للغاز الطبيعي في عقد الثمانينيات. رداً منها علي ذلك التدخل الأمريكي، تمكنت "تاتشر" من أن تقول بكل اللباقة اللازمة لحليفها ريجان، إن بريطانيا حُرة في أن تقيم علاقاتها التجارية مع كل من تريد التبادل التجاري معهم. وعلي رغم الترحيب الذي قوبل به إعلان بلير الأخير عن سحب جزء من قواتنا المرابطة في العراق، فإن الانتقادات الموجهة إليه ظلت مكانها، اعتماداً علي الاعتقاد الشائع بأنه جاء إعلاناً متأخراً جداً عن موعده، وأنه كان في وسعه اتخاذ القرار نفسه، منذ الغزو غير المبرر للعراق، قبل أربع سنوات مضت. ومن هؤلاء المنتقدين، يري "كريستوفر ماير"، السفير البريطاني السابق في واشنطن، أنه قلما استغل بلير متانة صداقته بالرئيس الأمريكي بوش، لصالح إحداث أي تغيير يذكر في سياسات واشنطن الخارجية، سواء كان ذلك إزاء العراق، أم فيما يتعلق بانحيازها المفرط لصالح إسرائيل علي حساب الفلسطينيين. وبدلاً من محاولة تأثير كهذا، ظل بلير في حالة تبعية دائمة وانحياز أعمي لكل ما يصدر عن بوش وواشنطن. وتمضي هذه الانتقادات للقول إن خلاف بلير ولو الجزئي والمحدود مع حليفه بوش، لم يكن ليضر بموقفه، إن لم يزده قوة ومنعة واحتراماً في نظر الرأي العام البريطاني، بالنظر إلي ما للقدرة علي الخلاف من تأكيد لاستقلالية السياسات الخارجية البريطانية عن واشنطن. وآفة بلير أنه لم يفعل إلا مؤخراً جداً وبعد فوات الأوان. وعلي رغم أن خلفه المرتقب، "جوردون براون" لن يكون مغايراً في نهج تحالفه مع واشنطن، فإنه لن يجرؤ مطلقاً علي محاكاة وتكرار هذا الحبل السري، الذي ربط بين بلير والبيت الأبيض في واشنطن.