عاد توني بلير إلي حيث بدأت مسيرته السياسية ميروبيلا، المنزل الذي اشتراه بعد فوزه بالانتخابات البرلمانية عام 1983، إنه مكان قديم، يشكل منزلا ومكتبا في الوقت نفسه، ويقبع وراء صف من أكواخ قديمة لعمال مناجم في شمال إنجلترا. كان ليبدو جميلا لولا رجال الشرطة المنتشرين حوله، أو لو لم تكن تعرف أن مروحية الرئيس بوش مارين وان حطت ذات مرة في الحقل المجاور. لكن اسم بلير يقترن بأماكن أفخم طبعا، المقر الرسمي لرئاسة الوزراء والمنزل الريفي في تشيكرز. غير أن هذا منزله السياسي. وفيما توشك ولاية بلير علي الانتهاء، تطغي علي المكان هذه الأيام أجواء نهاية العهد، التي لا يمكن التغاضي عنها، حتي وسط هرج ومرج فريقه الأمني وأفراد الفريق الذي يسافر معه، الذين تثقل كاهلهم حقائب اليد وحقائب السفر، و الصندوق الأحمر الرمزي الذي تظهر عليه آثار الاستعمال والذي يحمل فيه وزراء الحكومة البريطانية تقاريرهم المكتبية للعمل عليها ليلا. اختفي بلير في الطابق العلوي ليلبس بنطالاً جينز. مكتبه الصغير في الطابق السفلي يعج بالأشخاص الذين ينتظرون لرؤيته: جون بيرتون، وكيله السياسي المحلي. والنائب آلان ميلبرن المتطرف المناصر لبلير والنائب عن الدائرة الانتخابية المتاخمة لدائرته ومراسل ومصور لنيوزويك، إضافة إلي بضعة أشخاص آخرين. وإذ بأحد الزوار يقول بلهجة ساخرة منذرة بالشؤم: النهاية قريبة . فتدوي ضحكات متوترة. ثم تقول ليلي، زوجة بيرتون، بهدوء: هذا ما يبدو الأمر عليه، أليس كذلك؟. صحيح. وهو باد علي بلير نفسه. لقد زال بريق عينيه وابتسامته المعتادة. شعره يشيب ويخف، وتنطبع علي وجهه آثار مشقات خمسة حروب وعقد في السلطة. لايزال رئيس الوزراء البريطاني يتمتع باللياقة البدنية في سن ال53، لكن السنوات الأربع الماضية أرهقته أكثر من أي قائد غربي باستثناء الرئيس جورج دبليو بوش. علي غرار بوش أيضا، اقترن اسمه بالحرب المروعة في العراق. لقد تخلي عنه حلفاؤه السابقون. ولاحقه الأعداء السياسيون، الذين شعروا بضعفه، باتهامات وتحقيقات. وتأتي هذه الخاتمة المأساوية بعد مسيرة سياسية لافتة. لقد جسد بلير حقبته، ربما أكثر من أي قائد بريطاني بعد الحرب العالمية، باستثناء مارجريت تاتشر، مغيرا سياسات البلد وناشرا ازدهارا منقطع النظير. وأيا كان من سيخلفه، فهو سيحكم في ظله إلي حد ما. إن شأنه في العالم، وسعة وطموح نظرته العالمية، منحت بريطانيا دورها العالمي الجديد بعد حقبة الإمبريالية. ومع ذلك، كيف سيتذكره الجيل الذي لا يزال حيا علي الأقل؟ من خلال صورة الفوضي السائدة في العراق، وحكم أبناء بلده بأنه تخلي عن المنطق وتبع أمريكا، بشكل أعمي، إلي حرب كارثية غير ضرورية. من بين كل المفارقات، هذه الأخيرة هي الأكثر حدة. فحقيقة سقوط بلير هي أنه كان بريئا من التهمة التي أضرت به أكثر من غيرها، وهي أنه كان كلب بوش المدلل . فاستطلاعات الرأي في بريطانيا أظهرت مرارا أن ارتباط بلير ببوش هو أكثر ما أضر به. غير أن بلير لم يكن قط مجرد تابع. لفهم هذا الرجل، كما يقول أحد أقرب أصدقائه، عليك أن تفهم ثلاثة أمور: أنه محام، وتدخلي ولا يخفي تدينه. هذه هي العناصر الثلاثة التي تشكل شخصية بلير. إنه أنجليكاني يحضر القداس الكاثوليكي مع زوجته الكاثوليكية وأولاده، ولا يتبجح بإيمانه. لكن معتقداته الدينية جعلته يؤمن بالتدخل الإنساني منذ أن تولي السلطة عام 1997، لم يكن لديه شك في عدالة بعض القضايا: مثل عملية ثعلب الصحراء في العراق (1998)، وكوسوفا (1999)، وسيراليون (2000) وأفغانستان (2001). وقد ساهمت هجمات 11 سبتمبر في ترسيخ قناعات بلير. بالنسبة إليه، الحرب علي الإرهاب هي معركة قيم ومعركة من أجل التقدم. و لا شيء يردعه، كما يقول أحد أقرب مساعديه. وهو لا يؤمن بأن الحقيقة نسبية، بل بعقيدة الصراع بين الخير والشر، وبين رعاة البقر والهنود ، كما يقول مساعد مقرب آخر. عندما دعم بلير بوش ضد العراق، كان المؤمن الأكثر صدقا بين الرجلين، كما يتذكر السير كريستوفر ماير، سفير بريطانيا في واشنطن من عام 1997 حتي ما قبل الغزو. وفي حين أن التلاعب بالمعلومات الاستخباراتية قبل الحرب يثير الشكوك حول حوافز بوش الحقيقية لخوض الحرب، فهي كانت تتلاءم تماما مع نظرة بلير إلي نفسه كتدخلي ليبرالي، يستخدم القوة لخدمة الخير. لا عجب إذن أنه في خريف عهده كرئيس للوزراء، لايزال متشبثا بموقفه. خلال الشهرين الماضيين، أتاح بلير لنيوزويك التقرب منه ومن كبار مساعديه. في الكواليس، بينما كان يجوب الكوكب من واشنطن إلي بغداد، ومن القاهرة إلي دبي، كان تأمليا وقتاليا وهادئا. وفي ميروبيلا، تهجم علي المجتمع الدولي لرده بوجوب الانسحاب إثر تفجير مقر الأممالمتحدة في بغداد في أغسطس 2003، وبمواجهة الذين يعتبرون أن حرب العراق فاشلة، كان ازدرائيا وقال لهم: أنتم تهدرون وقتكم وطاقاتكم بهذا النوع من السلبية . وقلقا من أن ينفصل القادة البريطانيون المستقبليون عن الولاياتالمتحدة، حذر قائلا: إذا ابتعدنا عن أمريكا، فقد نجد أن طريق العودة ستكون طويلة. من خلال فتح أبوابها لنيوزويك، كانت أهداف رئاسة الوزارة واضحة: المساعدة علي إنقاذ إرث بلير السياسي. (مع أن كلمة إرث ممنوع لفظها في أروقة مقر رئيس الوزراء). لكن من خلال الإصرار بشدة علي تكملة المسار في العراق، والتكلم عن الصراع ضد الإرهاب العالمي بطريقته الوعظية المعتادة، بدا بلير رجلا غير قادر علي تقبل الحقيقة. مع تقدم الأمسية في ميروبيلا من احتساء الشاي إلي الجعة وصولا إلي عشاء السمك وشرائح البطاطس المقرمشة الضروري لأي رجل شمالي من حزب العمال، كان بلير يتكلم بلهجة تحد مخيفة. وقال مستبعدا احتمالات انسحاب مبكر لقوات التحالف من العراق: هذا هو فن القيادة: أن تحرص علي عدم حصول ما لا يجب أن يحصل . مع تراجع نسبة الموافقة علي أدائه إلي 26 بالمائة، يقول بلير إنه تقبل خسارة شعبيته السياسية: يمكنك تخطي ذلك شرط أن تكون مقتنعا بأنك محق. ما كان بوسعي مسامحة نفسي لو ظننت أن تلك الخيارات الاستراتيجية الكبيرة كانت متاحة لجيلي، وتقاعست عن اتخاذها، أو كنت أتخذها للتوصل إلي الحل الأسرع بدلا من الاستناد إلي ما ظننته صائبا . كان بلير قد صرح بأنه سيتنحي من منصبه كرئيس للوزراء هذا الصيف. ومع اقتراب هذا الموعد، تحل شخصية المؤمن الحقيقي مكان شخصية السياسي البراجماتي القاسي، بالرغم من أنه لايزال متهما بأن إيديولوجيته الوحيدة هي إيديولوجية الحل الفعال . إنه قائد محاط بالمشككين لكنه لا يشكك في نفسه أبدا. غير أن الحرب ليست الشبح الوحيد الذي يطارد بلير في أيامه الأخيرة في الحكم. علي غرار صديقه الرئاسي الأول، بيل كلنتون، الذي أعاقت ولايته الثانية فضيحة مونيكا لوينسكي، تلاحقه فضيحة صغيرة، تسمي بفضيحة الأموال مقابل الألقاب، حيث يزعم أن بعض المانحين أعطوا حزب العمال قروضا كبيرة لقاء مقاعد في مجلس اللوردات. وقد تم استجواب بلير مرتين من قبل الشرطة لكنه لم يكن مشتبها به. (وقالت الشرطة أيضا إنها لن تستجوبه مجددا). ومثل كلنتون أيضا، لن يدع منتقديه يتغلبون عليه. قبل فترة ليست ببعيدة، حاول مقدم برامج إذاعية جر بلير إلي نقاش حول التحقيقات في مسألة تمويل الحملات، لكن بلير لم يجاره قائلا: ربما هكذا تغيرت علي مر السنوات... لن أعتذر عن شخصيتي أمام أحد. ما كان يمكن تصور هذا الموقف الدفاعي قبل بضع سنوات. في أعقاب هجمات 11 سبتمبر، تنقل بلير في أنحاء الشرق الأوسط، حاشدا الدعم لأمريكا. في القاهرة، قال الرئيس حسني مبارك إن مصر اتخذت موقفا موحدا وقويا ضد الإرهاب. ويقال إن قابوس بن سعيد سلطان عمان وافق بلير الرأي بأن عقيدة تنظيم القاعدة تشوه التعاليم الحقيقية للدين الإسلامي. وقد ظهر بلير علي قناة الجزيرة قبل الأمريكيين قائلا: الأمر لا يتعلق بالغرب في مواجهة المسلمين. نحن لا نريد الانتقام، بل نريد العدالة . وقد أعجبت واشنطن بذلك، ولا تزال. يقول مسئول كبير في إدارة بوش طلب عدم الكشف عن اسمه وهو يبدي رأيه عن بلير: ما فعله بلير هو إعادة مكانة بريطانيا كقوة عالمية. قد تكون قوة عالمية صغيرة لكنها قوة عالمية . سكت لبرهة ثم تابع كلامه قائلا إن الناس لا يرون الأمور من هذا المنظور الآن لأن العراق أفسد كل شيء. لقد تغير الزمن، حتي لو لم يتغير بلير. في ديسمبر، قام بلير بجولة جديدة علي الشرق الأوسط الكبير، متوقفا في خمس عواصم في غضون خمسة أيام. في طائرة بوينج 747 شبه الفارغة التي استأجرتها رئاسة الوزراء، شعر الصحفيون المسافرون معه بالإحباط لأن رؤساء التحرير كانوا غير مهتمين بالخبر. (وقد بعث مكتب التحرير برسالة إلي أحد الصحفيين جاء فيها: هل يمكنك ألا تذكر اسم بلير في مقدمة مقالتك؟) وفي أحد الأيام، اجتمع الناطق الرسمي باسم رئيس الوزراء بالصحفيين ليقول لهم: لن نصدر أي إعلان اليوم. ما يعني: لا أخبار. لطالما انتُقد بلير علي الطابع السائد خلال حكمه بأن توني أدري. في الأشهر الأخيرة من عهده، علت النبرة الأخلاقية أكثر من أي وقت مضي. في أواخر يناير، سافر إلي دافوس في سويسرا لحضور المنتدي الاقتصادي العالمي السنوي. كان مرتاحا وراح يدردش مع القادة العالميين. وفي إحدي الأمسيات، تم تكريمه في حفل استقبال صغير خاص أقامه بونو، وقُدم فيه النبيذ والمقبلات. مغني فرقة 2U عارضه بشأن الحرب. مع ذلك، كان بلير يعلم أنه من بين الذين يفهمون أنه إلي جانب الحق في مسائل أخري، مثل أفريقيا والتغيير المناخي: وقد قال بلير لبيل ومليندا جيتس وروبرت ميردوك ووندي دنج وأعضاء عائلتي كيندي وشرايفر وبول وولفويتز: أنا أقسم الناس إلي مجموعتين: المتفائلون والمتهكمون . لم يكن مضطرا لأن يوضح لهم إلي أي فريق ينتمي كل منهم وإلي أي فريق ينتمي هو. في اليوم التالي، ألقي بلير الخطاب الختامي في دافوس، متحدثا بشكل مباشر عن مسائل مهمة بالنسبة إليه، وعلي الأرجح عن مستقبله. تكلم عن أهمية توقيع اتفاقية تجارة عالمية أكثر قسوة مع الدول الغنية وأكثر سخاء مع الدول النامية. وتحدث أيضا عن إمكانات أفريقيا، وتحديات التغيير المناخي، وطبيعة السلطة وعواقب الترابط العالمي. وقال: تجد البلدان أنها تحتاج إلي مواجهة التحديات التي لا حل لها من دون تحالفات مع دول قوية أخري ، ملمحا بذلك إلي الانتقادات التي تتعرض لها الولاياتالمتحدة. كان في أفضل حالاته، ساحرا ومليئا بالقناعات التي لا تتزعزع والطاقة الإيجابية. وقد أحب الحاضرون ذلك (باستثناء المتهكمين ربما). صحيح أن بلير سيترك منصبه، لكنه لم يبد كرجل سيبتعد عن الساحة العالمية. في بلده أيضا مؤشرات علي أن غمامة الإحباط تنقشع مع اقتراب خروج بلير من مقر رئاسة الوزراء. فالضغوط تتضاءل لمجرد أنه سيغادر. فضلا عن ذلك، مع تقليص بريطانيا لعدد جنودها، تصبح مسألة العراق أقل أهمية علي الساحة السياسية. وفي الوقت نفسه، توقف خصم بلير السياسي اللدود وزير الخزانة جوردن براون عن التهجم علي بلير، لثقته بأن هذا الأخير سيكون قد غادر بعد بضعة أشهر، وبأنه سيكون خليفته. أما بالنسبة إلي بلير، فالتقاعد غير وارد. لا يزال متكتما بشأن مشاريعه لكن الشائعات تتراوح بين توليه رئاسة إحدي الجامعات الكبيرة وعمل مربح جدا في القطاع المالي. لكن من غير المحتمل أن تستأثر تحديات هذه الوظائف الروتينية باهتمام بلير لفترة طويلة. لائحته لإنقاذ العالم ، كما يسميها نقاده، تطول أكثر من أي وقت مضي، علي غرار لائحة بيل كلنتون. لقد كان الحاضرون في دافوس يصغون. هل سيصغي أحد آخر؟