أعلنت ست فصائل مقاومة عراقية في الأسبوع الماضي تشكيل مجلس سياسي مشترك، وكشفت في بيان لها عن تصورها لكيفية خروج العراق من وضع الاحتلال. بالرغم من تعدد محاولات التوحيد والتحالف الجبهوي السابقة، فهذه بالتأكيد الخطوة الاولي باتجاه بلورة إطار سياسي لبعض من أبرز الفصائل العراقية، في ساحة تعددت فصائلها منذ بداية الاحتلال، وبدا أحياناً أنها تخلفت قليلاً خلف حركة الساسة العراقيين الجدد. الحقيقة أن تأخر فصائل المقاومة عن الساحة السياسية كان طبيعياً؛ وهي ظاهرة عرفتها معظم حركات التحرر الوطني السابقة، من الجزائر إلي فلسطين. العمل السياسي في ظل الاحتلال، بغض النظر عن المسافة التي تفصل قوة سياسية ما عن إدارة الاحتلال، هو في الغالب عمل سهل، أقل تكلفة، وتتوفر له الحماية النسبية من قوات الاحتلال. ولكن العمل المقاوم ينطلق، من حيث التعريف، من موقع مجابهة الاحتلال، والعمل علي دحره، لا توفير شرعية له أو استمداد شرعية منه. وقد أخذت حركتا التحرر الوطني الجزائري (ذات الفصيل القائد الواحد)، والفلسطيني (بفصائلها المختلفة)، بعض الوقت قبل أن تطرح نفسها بوضوح سياسي كاف علي العالم. الحالة العراقية هي فوق ذلك أصعب وأكثر تعقيداً؛ ليس فقط لأن فصائل حركتها الوطنية أكثر تعدداً، بل أيضاً لأنها لا تتمتع بحاضنة آمنة في الجوار، ولا تجد سنداً صريحاً أو شبه صريح من دولة صغري أو كبري. حتي الدول المتعاطفة مع الشعب العراقي والرافضة لاحتلال العراق تجد من الصعوبة استعداء الولاياتالمتحدةالامريكية صراحة، ومد يد العون للعراقيين. خلال الأسابيع القليلة السابقة علي الإعلان والأيام القليلة التالية له، سيطرت علي الشأن العراقي عدة مواضيع هامة، كان أبرزها ربما المواضيع التالية. علي مستوي نظام الاحتلال، وبعد المهرجان الكبير الذي عاشته واشنطن لاستقبال التقرير المشترك لقائد قوات الاحتلال وسفير الولاياتالمتحدة في بغداد، الخاص بتقييم استراتيجية زيادة عديد القوات الامريكية في العراق، شهد الرأي العام الامريكي والعالمي تدافعاً من شخصيات عسكرية امريكية كبري للإدلاء بدلوها في الجدل الدائر حول الحرب الدائرة في العراق. بدأت الموجة العسكرية الامريكية - الإعلامية بالجنرال فالون، المسؤول العسكري المباشر عن القيادة الامريكية الوسطي، التي يقع العراق ضمن نطاق عملياتها. كان فالون صريحاً بطريقة غير مسبوقة عندما أشار إلي أن التورط العسكري في العراق وأفغانستان يقفان حائلاً أمام التورط في حرب جديدة (والمقصود هنا بالطبع احتمالات توجيه ضربة امريكية لإيران). والمدهش، إن فالون، خلال لقاء طويل نسبياً مع قناة الجزيرة، لم يقدم أي دعم يذكر لتقرير قائد قوات الاحتلال في العراق، الذي يعتبر الأساس الذي تستند إليه السياسة الحالية للرئيس بوش الابن في العراق. لم تكد ردود الفعل التي أثارتها تصريحات فالون تهدأ، حتي طلع جنرال امريكي آخر، هو قائد الأركان المشتركة للقوات المسلحة الامريكية (أي أنه مثل فالون، جنرال لم يزل في الخدمة الفعلية)، ليقول إن حربي العراق وأفغانستان أصابتا الجيش الامريكي بعدم التوازن، وإن الجيش يحتاج عدة سنوات قبل أن يستطيع العودة لوتيرة عمله العادية. ثم جاء المؤتمر الصحافي للجنرال شانسيز، القائد الأسبق لقوات الاحتلال في العراق، ليضع النقاط علي الحروف. ولأن سانشيز قد تقاعد منذ فترة، فهو بالتالي أكثر حرية في إبداء آرائه. وجه سانشيز اتهامات لاذعة للقادة السياسيين الامريكيين من الحزبين، الجمهوري والديمقراطي علي السواء، متهماً إياهم بالإخفاق والمغامرة؛ بل وقال إن أداء عسكرياً شبيهاً بأداء القيادة السياسية الامريكية كان سيستدعي المحاسبة، وربما المحاكمة. وصف سانشيز الحرب في العراق بالكابوس المستمر، ووصف استراتيجية احتلاله بالإخفاق، وشكك بوضوح في نجاعة سياسة إدارة بوش الجديدة المتعلقة بزيادة القوات، وخلص إلي أن الممكن الوحيد في العراق هو تجنب الهزيمة، لا تحقيق النصر. علي مستوي الداخل العراقي، ثمة عدد متداخل من التطورات. الدفعة المبكرة التي حققها مشروع نائب الرئيس طارق الهاشمي للمصالحة الوطنية، والتي عززتها أجواء رفض أغلبية الرأي العام العراقي لمشروع فدرلة العراق التقسيمي الذي تبناه الكونغرس الامريكي، وصلت سريعاً إلي نهاياتها. مشكلة طارق الهاشمي ليس شخصية بالتأكيد، فكما ارتكب أخطاء فاحشة في عدد من المناسبات، أظهر حساً قيادياً عالياً وشجاعة في مناسبات أخري. مشكلة الهاشمي أنه لا يريد أن يري الأشياء علي حقيقتها؛ وحقيقة السياسة العراقي تحت الاحتلال هي التشظي والانقسام، وما يتعلق بهما من تصادم رؤي ومشاريع سياسية، لا يمكن معالجتها بأطروحات مصالحة حسنة النية. ولأن بناء الدول واستقرارها لا يقوم علي برامج متصادمة، فإن العراق الجديد لن يولد من مشاريع وتصورات للمستقبل لا يجمعها إلا القليل. في النهاية لا بد لطرف ما، لتصور ما، لمشروع مستقبلي ما، أن يحقق الغلبة علي الآخرين، وأن يحقق التفاف أغلب العراقيين حوله، ليصبح البرنامج الوطني المركزي الذي تستند إليه الدولة ويستند إليه استقرارها. بدون ذلك، فمن العبث السعي إلي مصالحة لا يؤمن بها كثير ممن يؤيدونها إليها، ولا ينظر إليها بجدية معظم من يتعاملون معها. المسألة الأخري التي تشغل الساحة العراقية الداخلية هي مسألة قانون مجالس المحافظات وانتخاباتها. إذ بالرغم من اتفاق التفاهم بين جماعتي الحكيم والصدر، الذي بدا وكأنه يضع حداً للصدامات الدموية بينهما، فقد أخذت المحافظات الجنوبية تشهد صراعاً محتدماً علي قيادة السلطات المحلية. أحد أوجه هذا الصراع هو محاولة إطاحة المحافظين وأعضاء المجالس من جماعة الحكيم، الذين استطاعوا في غفلة من الزمن السيطرة علي معظم المحافظات الجنوبية وأجهزتها. أما الجانب الآخر فيتعلق بحجم التزييف والكذب والادعاء الذي استخدمه هؤلاء المسؤولون لتوفير مؤهلات تعليمية وجامعية لأنفسهم، أغلبها من معاهد وهمية في إيران، حيث قضوا سنوات المعارضة للنظام العراقي السابق. والمسألة هنا ليست مظهراً هامشياً (علي اعتبار أن هؤلاء ليسوا أول أو آخر من يلجأ لتزييف شهادات تعليمية أو جامعية)، بل تقع في جوهر بنية الطبقة السياسية العراقية الجديدة، التي جعلها الاحتلال حليفه الرئيس في بناء عراق ديمقراطي وحر . أغلبية هؤلاء المسؤولين، طبقاً لتقارير صحافية متعددة، لم يكمل دراسته الابتدائية؛ ولكنهم تقدموا لمنصابهم بحفنة من الدرجات العلمية المصطنعة. هذا المستوي المنخفض النوعية من القادة، وما يقابله من اصطناع وهمي للإنجاز، هو السمة السائدة ليس لجماعة الحكيم ومشروعها السياسي وحسب، بل لعدد كبير من القوي والشخصيات السياسية المسيطرة علي مقاليد القوة والحكم في العراق. البلد الذي نهض بالعلوم كما لم ينهض أي بلد عربي آخر، البلد الذي حقق من الإنجازات التعليمية والبحثية ما لم يحقق أي بلد مشابه آخر، وطن بعض من أبرز شعراء العرب وأدبائهم ومؤرخيهم وفنانيهم، يراد له أن يقع فريسة لعصابات من الجهلة واللصوص والمزيفين. علي الصعيد الإقليمي، ثمة تطور لا يقل أهمية. فكما في معظم تاريخها، سارعت القيادات السياسية الكردية خلال الأسابيع الأخيرة نحو تجاوز سقف ما تؤهلها له إمكاناتها. المشروع الكردي كله، من مطلع التسعينات حتي الآن، لم يكن نتاج القوة الذاتية للقوي السياسية الكردية، ولا توازنات القوي المحلية والإقليمية المحيطة بها، بل نتاج التدخل الخارجي السافر، سلطة الطائرات ودوي الدبابات الامريكية والبريطانية. ولكن الأحزاب الكردية لا تريد رؤية حقائق بيئة القوة التي تعيش فيها، وستبقي تعيش فيها بعد أن تخرج طوابير الدبابات وتختفي الطائرات الأجنبية. الدفع الهستيري لتغيير الوضع القائم في كركوك لا يقابله إلا الدعم الهستيري لحزب العمال الكردي التركي (ومثيله الإيراني). وبعد سلسلة من الهجمات المؤلمة التي تعرض لها الجنود الأتراك ومواقع مدنية تركية أخري، كان لابد لسياسة ضبط النفس التي مارستها حكومة العدالة والتنمية خلال السنوات الماضية أن تصل منتهاها. ربما كان أحد أسباب سياسة ضبط النفس التركية أن أردوغان ورفاقه في حكومة العدالة والتنمية أرادوا تجنب توفير فرصة لتعزيز أوراق الجيش التركي في السياسة التركية الداخلية. ولكن اردوغان كان مخطئاً؛ ليس فقط لأن سياسته أظهرت الحكومة التركية في مظهر الضعيف، المتردد، العاجز عن حماية أمن شعبه، بل أيضاً لأنه لم يفرق بين أدوار الجيش التركي المختلفة. الآن، يجد أردوغان نفسه في مواجهة جنرالات الجيش والرأي العام التركي معاً، وعليه بالتالي أن يقرر التعامل مع الخطر الداهم والمتصاعد عبر الحدود، وإلا خسر فرصة تاريخية في بناء تركيا جديدة. وبالرغم من أن من المخاطرة دائماً محاولة التنبؤ باتجاه الريح في المشرق العربي - الإسلامي، فربما ليس من المخاطرة القول إن عبور الجيش التركي خط الحدود مع العراق سيكون هذه المرة مختلفاً. إن دخلت القوات التركية شمال العراق، سواء في عملية محدودة أو شاملة، لفترة قصيرة أو طويلة، فلن تتوقف عن الدخول إلي أن يولد عراق جديد تماماً، بكل ما في ذلك من أثر علي صورة وبنية العراق الجديد. الصورة التي توحي بها تطورات شؤون العراق الداخلية والإقليمية، وما يتعلق بوضع الاحتلال، هي باختصار صورة من الإخفاق والتخبط. تقرير باتريوس/ كروكر، الذي حاول التأسيس لمسار تفاؤلي، يجب إخراجه من الصورة، ليس فقط للدوافع السياسية التي شابت الكثير من استنتاجاته، بل أيضاً لأنه مخالف للواقع. المسألة الوحيدة التي يمكن بالفعل أخذها في الاعتبار هي مسألة انخفاض مستوي العنف، سواء ذلك الموجه ضد قوات الاحتلال، أو الناجم عن التدافع الأهلي الداخلي. ولكن هذا مجرد انخفاض نسبي؛ وقد سجل من قبل خلال السنوات الأربع الماضية. ومن السذاجة الافتراض بأن الانخفاض الراهن في مستوي العنف يمثل الاتجاه الذي يمضي إليه العراق. بغير ذلك، فالعراق المحتل هو عراق من الفوضي والتشرذم السياسي، عراق من الشكوك المتبادلة بين أطراف العملية السياسية، عراق يهدد الجوار الإقليمي ومهدد به، عراق يفتقد المشروع الوطني المركزي الإجماعي، وعراق وصل فيه الجيش الامريكي إلي حافة قدرته علي التحمل. لكل هذا، تبدو خطوة التحالف السياسي التي أخذتها فصائل المقاومة مؤخراً، والتي يتوقع أن تجذب فصائل أخري إلي صفوفها، خطوة بالغة الأهمية؛ بالرغم من أنها مجرد بداية لطريق شاق وطويل. الحقيقة، أن كل هذه الفصائل هي عربية سنية في قواعدها؛ ولكن إن نجحت هذه الفصائل في التحول إلي قوة سياسية مركزية، فربما ستستطيع في النهاية دفع الوضع العراقي نحو بناء تحالف وطني واسع، يضم عدداً كبيراً من القوي والاتجاهات والشخصيات، التي يجمعها تصور سياسي واحد، أو تصورات متقاربة، لشؤون العراق الرئيسية. عندما يسيطر الفشل علي كل ما حولك، فإن الأثر الذي قد يتركه النجاح الصغير، يكون أكبر بكثير من حقيقة وزنه.