أثمرت الجولات الماراثونية التي قادها الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى في العراق سريعا ؛ إذ أسفرت عن مؤتمر موسع ضم غالبية الطيف العراقي على المستوى السياسي ، سواء في ذلك الشيعة أو الأكراد أو العرب السنة. لكن الذي أثار جدلاً واسعاً داخل المؤتمر هو المقاومة العراقية التي تُتّهم بغيابها عن الدراما السياسية ، التي وُلدت بداية من تحت رحم الاحتلال منذ إنشاء سلطة الائتلاف المؤقتة بزعامة بول بريمر، وصولا إلى الحكومة الانتقالية. فقد غابت المقاومة على مستوى التمثيل السياسي داخل الحكومات المتعاقبة منذ سقوط النظام السابق ، بل إنها غابت على مستوى المعارضة العلنية لتلك الحكومات . إن على المقاومة قبل الظهور إلى ساحات الصراع السياسي والقول بمشروعها الذي قد يقترب من العملية السياسية عن طريق واجهة معروفة بعينها ، أن تعي الدوافع الكامنة وراء انعقاد هذا المؤتمر، وخاصة أن الزيارات الإقليمية الواسعة التي كان على رأسها زيارة عنان إلى العراق، والتي تُعدّ الأولى من نوعها له بعد الغزو ، دعماً لمبادرة عمرو موسى، بالإضافة إلى تثمين هذه المبادرة من قبل أمريكا وبريطانيا وكل الدول الأقليمية .. تجعل المقاومة تأخذ في حساباتها أموراً أخرى قد تجعل من موقف ظهورها على السطح العراقي والعربي والإقليمي محكاً قد يكون بمثابة كرة الثلج التي تكشف ما وراءها . وتنجح بعد ذلك اللعبة التي رُسمت أصلاً للمؤتمر، هذا إذا كان في المؤتمر لعبة مفادها أن تكون المبادرة مصيدة للمقاومة من حيث تعلم الجامعة العربية أو لا تعلم، أو لعبة سياسية أمريكية تريد من خلالها إبراز واجهات أخرى تتحدث باسم المقاومة والمقاومة منها براء. ومع هذا فإن دعوات الحكومة العراقية ومن ورائها الشيعة وقائمة الائتلاف ما زالت تتجاهل شيئاً في العراق يسمى مقاومة، وهي تدعوها كذلك إلى الظهور وإن كانت لا تعترف بها ! وإذا كان هذا الحديث يناقش قضية ظهور المقاومة على المستوى السياسي ، فثمة مشكلة أخرى تقف في طريق هذا الظهور ، والتي تنبع من سؤال جوهري مفاده: هل إن المقاومة العراقية هي مقاومة واحدة حتى تقول: أنا هنا، وهذه واجهتي السياسية أناقشكم من خلالها ، وأقدم لكم مشروعي السياسي ..؟ إن من الواضح جداً عند المتتبعين أن المقاومة في العراق ليست واحدة، كما أن المقبول من العمليات العسكرية التي تقوم بها على المستوى المحلي والعربي، وربما الإقليمي هو ذاك المرتبط باستهداف الاحتلال الأجنبي في العراق. هذا مع وجود أطراف يمكن لها أن تتفهم -وإن بشكل قليل- استهداف القوات الحكومية من جيش وشرطة وبعض العناصر الضالعة بارتباطات مع قوات الاحتلال، لكن اللافت للجدل -والذي يلقى إدانة واضحة من غالبية الطيف العراقي والمجتمع الدولي- هو استهداف المدنيين العراقيين أو الحرب الشاملة على شيعة العراق ، أو مهاجمة المساجد الشيعية كالحادث الذي ذهب ضحيته مئات القتلى والجرحى في مسجدي خانقين قبل يومين . ومن هنا ولأن البون شاسع بين من يجعل نصيبه استهداف المحتل الأجنبي ، وبين من يقتل المدنيين ويسعى لإشعال الفتنة الطائفية ، كانت المقاومة في العراق تنقسم إلى جزأين رئيسين ، أو أن هناك تفريقاً بين نوعين من المقاومة، أما الخط الأول فهو الفصائل العراقية التي تستهدف في الدرجة الأولى القوات الأمريكية والأجنبية، وتجعل من الدم العراقي خطاً أحمر، بينما يمثل الخط الثاني تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين بزعامة الزرقاوي . وإذا ما تم التفريق بين هذين الفريقيين اللذين يحملان السلاح و يعتقد المنتمون إليهما بالعمل المسلح طريقاً وحيداً لخروج المحتل، هنا يمكن البدء في مناقشة أي الطرفين أقرب إلى العمل السياسي ، أو يعتقد أن تتشكل له واجهة للعمل السياسي مستقبلاً. ولما كان استبعاد تنظيم القاعدة هنا من ضروريات التصور ، بناء على المواقف السابقة للتنظيم، ولرفضه القاطع للعملية السياسية برمتها ، أو حتى مشاركة الأطراف فيها، فإن فصائل عراقية مسلحة أخرى قد تجاوزت هذا الأفق من التفكير، وراحت تنحو مناحي جديدة تجعلها تلج باب الخطاب السياسي والعسكري في آن معاً. إن مجموعة الخطوات السياسية التي اتخذتها المقاومة العراقية ليست قليلة، وإن بياناتها لتزخر بالعديد من الطروحات التي من شأنها حل القضية العراقية، وإن كان هذا الحل ينسجم مع المشروع المسلح الذي يتبناه هذا الفصيل أو ذاك، لكن ومن متابعة تقترب من الأحداث نجد أن البيان التاريخي المتعلق بضرورة تسجيل أصوات الناخبين في قوائم التصويت على الدستور وقول كلمة: لا للدستور العراقي، و الذي صدر عن ستة فصائل مسلحة في العراق، ومنها كتائب ثورة العشرين، والجيش الإسلامي في العراق، والجبهة الإسلامية للمقاومة العراقية، هذا يُعدّ دخولاً واضحاً في المعترك السياسي ، بل مؤشراً على أن الصراع هنا بدأ يأخذ بُعداً آخر، وأن تلك الفصائل التي كانت تُنعت بالأشباح باتت تعرف بعضها بعضاً، وتتبنى خطابات واضحة بشكل جماعي، بل إن العديد من العمليات التي كانت تقوم بها تُنفذ بدافع واحد وبصورة جماعية مشتركة. وقد سبقت هذه الخطوة مجموعة من الخطوات الأولية التي تقدر بقدرها، وتدلل على أن هذه الجهات واعية تماماً لمعنى التمثيل السياسي ، أو جني ثمرات القتال سياسياً، وكان ذلك واضحاً في معركة الفلوجة الأولى عندما استجابت الفصائل المسلحة مجتمعة لدعوة هيئة علماء المسلمين والحزب الإسلامي العراقي بوقف القتال، كما أنها رتبت لنفسها ناطقين رسميين نجحت تجربة بعضهم وفشلت في مرات أخرى حيث كان قصب السبق في الإعلان عن ناطق رسمي باسم مقاومة في العراق لكتائب ثورة العشرين؛ إذ اتخذت من "أبو سيف البغدادي" ناطقاً لها وعضواً لمكتبها السياسي، كما أن الجيش الإسلامي في العراق فعل نفس الشيء واختار هو وجيش المجاهدين ناطقاً رسمياً وهو إبراهيم الشمري. ومع أن هؤلاء لا يظهرون سوى بالصوت دون الصورة، وأن المتوقع كذلك أن أسماءهم حركية فإن البداية في الإعلان عنهم لاشك أنها خطوة مهمة لتشكيل الواجهة، كما أن البيانات المشتركة بين تلك الفصائل تشير إلى أن المقاومة تستطيع أن تجيب عن السؤال الذي طرحناه سابقاً في بداية هذا التقرير وتقول: نعم أنا هنا، ويمكن لكم أن تتكلموا معي، وهذا هو مشروعي السياسي. فالمسالة في النهاية ستكون متداخلة بين الظهور الممكن في المستقبل القريب هنا، وبين إيجابيات الظهور السلبي ، بيد أن الظهور في فترات التغيير والتي يمر العراق الآن في قمتها تجعل منه أمراً جوهرياً في عمل هذه المقاومة على مدار هذه السنين، وإن كان بشكل جزئي، وأن عليها ألاّ تلتفت كثيراً إلى تنظيم القاعدة في العراق ونظرته للقضية السياسية ، لأمر تفهمه المقاومة جلياً؛ إذ إن مشروعها يتوقف في مراحله الأولى والنهائية عند العراق، ولا يتعداه في الوقت الراهن، وقد ينتهي مع خروج المحتل من الأرض العراقية، كما أن هذا المشروع يسعى إلى تحقيق الخروج بأسرع وقت، وإعادة العراقيين إلى التوازن، بينما يسير مشروع القاعدة إلى مسافات أبعد ليأخذ في شكله البعد العالمي، وهو ما جعلنا نخرجه بداية أو نجعله طرفاً آخر في معادلة المقاومة العراقية. لقد مثل مؤتمر القاهرة هذا بعدا استراتيجيا جديدا لمشروع المقاومة في العراق؛ إذ إن حضورها وبهذه القوة يُعد المرحلة الأولى في عملها غير المسلح ، إن هي أعلنت عن نفسها في جناح سياسي أولي لا تضرب به إن ضرب، وتكسب فيه الخير إن تم على يده تحقيق المكاسب المنشودة ، للاتفاق على جدولة الانسحاب الأجنبي من العراق. هذا بالإضافة إلى ملفات أخرى تجد الحكومة الحالية نفسها غارقة فيها من أول يوم استلمت فيه السلطة على صعيد الاعتقالات غير القانونية ، والتعذيب في السجون مروراً بالفساد القاتل الذي يعم أركانها ، ومن الممكن أن تسهم المقاومة وجناحها السياسي في خطواتها القادمة في كشف ما خفي على الناس، والدفع لتقديم من ارتكبوا جرائم بحق الشعب العراقي إلى محاكمات جديدة ، كالتي وضعوا بها من كان قبلهم!. المصدر الاسلام اليوم