قبل الخوض في تداعيات المشهد الانتخابي في العراق لابد من الإشارة إلى أن ما يتم الآن على الأرض من قبل الحكومة العراقية ومفوضية الانتخابات مجتمعين أو منفردين يصب في جعل نتائج الانتخابات غير حقيقية وعلى عدة صعد . فمفوضية الانتخابات بداية جعلت العراقيين يدخلون إلى حلبة المعركة الانتخابية بتزوير تبلغ نسبته عشرة بالمائة ، وذلك لأنها قامت بقطع ستة وعشرين مقعدا انتخابيا على حساب العرب السنة كما يقول الخبير العراقي همام خليل الشماع ، أستاذ العلوم الاقتصادية في جامعة بغداد ، وذلك واضح من خلال جدول التقسيمات الذي اعتمدت عليه المفوضية ، وقامت بموجبه بإعطاء النسب لكل محافظة . فمحافظة الأنبار أعطيت تسعة مقاعد فقط أي باستقطاع أربعة مقاعد من النسبة الأصلية التي تستحقها المدينة التي يبلغ تعدادها اكثر من مليون وثلاثمائة ، إذ أن المقاعد تحسب لكل مائة ألف مواطن مقعد واحد في البرلمان ، وكذلك الحال كان مع المحافظات السنية الأخرى من غير استثناء ، حيث تم حذف آلاف المواطنين السنة في مدينة ديالى التي تضم طيفا واسعا من العراقيين السنة بحجة عدم التسجيل ، والحال نفسه مع صلاح الدين ونينوى ثاني أكبر محافظة عراقية من حيث عدد السكان ، وكركوك بغداد والبصرة وغيرها .. ولقد احتجت المفوضية في أن أبناء هذه المحافظة لم يشاركوا في الانتخابات السابقة ، وعليه فإنهم لم يسجلوا أنفسهم في سجلات الناخبين ، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الجمعية القادمة هي جمعية دائمة وليست مؤقتة كالتي سبقتها . أما الأمر الآخر الذي أثار جدلا واسعا قبل الانتخابات هو قيام المفوضية بمنع جميع العاملين القادمين من محافظة الأنبار والبالغ عددهم 800 موظف من العمل في مراكز الاقتراع ، وجاءت المفوضية بآخرين من بغداد والمحافظات الجنوبية من خارج هذه المحافظة ، هذا بالإضافة إلى الإتيان بأربع مائة موظف إلى محافظة ديالى من خارج المحافظة ، وطرد ستة من المشرفين السنة على المراكز الانتخابية ، في حين لم يحدث أي طارئ على مراكز الاقتراع التي يتولى الإشراف عليها الأكراد أو الشيعة، وهذا كله حصل قبل ثلاثة أيام من موعد الانتخابات، ما أدى إلى إرباك حقيقي في الحملة الانتخابية التي تقوم بها جبهة التوافق الممثل الأقوى للسنة ، لأن قادتها شغلوا بالرد على مثل هذه الطوارئ ، وبررت المفوضية تصرفها بأنه تم بناء على طلب من أهالي الأنبار، وأن عدد المشمولين بالقرار هم أربع مائة وليسوا ثمانمائة ، كما أن الطعون الموجهة إلى المفوضية لا تقتصر على آلية العمل فقط ، بل تتعداها إلى شخوص قيادات المفوضية ، خاصة إذا ما علم ووفق تقارير نقلها قادة العرب السنة أن رئيس المفوضية ونائبيه والناطق الرسمي ليس فيهم سني واحد . هذا بالإضافة إلى اتهامهم -ومن قبل كتلة علاوي هذه المرة - بأنهم من المجلس الأعلى وحزب الدعوة . وربما هذا كله يهون عند القول بأن الشكوك تحوم بجدية حول عدم امتلاك المفوضية لناصية أمرها سواء على مستوى الأحزاب السياسية والمليشيات التي تدخلت في العملية الانتخابية بشكل كبير، بالإضافة إلى امتلاك قوات الاحتلال مفاتيح اللعبة الانتخابية، وإمكانية تصفية الرموز غير المرغوب فيهم، وهذا يعني أن النتيجة النهائية ستكون بيد الأمريكيين ، وان كانت النتائج قد أظهرت ما لم يكن متوقعا على الأقل في الأوساط التحليلية ، لكن لا أحد يمكن له أن يتكهن بما تراهن عليه أمريكا.. ومن تريد لحكم العراق. وهذا يعني أن فوز الائتلاف الشيعي قد يصب في مصلحة أمريكا ، لأنه لن يطلب منها الرحيل قريبا كما أراد السنة أن يفعلوا، إذ جعلوا في مقدمة تعهداتهم طرد الاحتلال من العراق ، أو جدولة خروجه على أقل تقدير . وفي النهاية كانت مفوضية الانتخابات جريئة في قبولها وجود مراقبين دوليين لفحص العملية الانتخابية ، الأمر الذي سيحسب لها لكن التصريحات التي سبقت حضور المراقبين من قبل قادة المفوضية كانت تؤكد على أن المراقبين لن يتدخلوا في خصوصيات المفوضية، كما أنهم لن يقوموا بالتحري عن الصناديق وتفتيشها بقدر ما يتعلق الأمر بمراقبة طريقة عمل المفوضية، والبرامج التي تعتمد عليها . وهذا يشكل انقلابا على الرؤية الأخرى من قبل المعترضين أصحاب الطعون ، الذين يريدون من الفريق الدولي مراقبة كل شيء ، بل يريدون إشراكهم في عمليات المراقبة لأنهم موقنون بوجود تزوير . وأكبر دليل على ذلك المظاهرات التي لم تشهد مناطق العرب السنة مثيلا لها منذ الاحتلال، والتي بلغ عددها مئات الآلاف في بغداد وحدها ناهيك عن مدن الفلوجة والرمادي وهيت وسامراء والموصل وديالى وتكريت .. وكلها تريد من المفوضية إعادة الانتخابات وحل نفسها . أما الحكومة العراقية بشقيها الشيعي والكردي فقد جارت بداية على القوى الإسلامية السنية قبل موعد الانتخابات ،وخاصة بعد مؤتمر القاهرة الذي اتفقت فيه الأطراف العراقية على الاحتكام للمنهج الوطني ، وترك التصعيد السياسي والأمني جانبا ، لحين الانتهاء من الانتخابات . وهذا الأمر لم يحصل على الأطلاق. فحملات الاعتقالات شهدت ارتفاعا واضحا ، وخاصة في المناطق المختلطة بين العرب السنة والشيعة ، التي ينشط فيها أعضاء جبهة التوافق العراقية مثل ديالى وبهرز وكركوك والحلة وجنوب وغرب بغداد هذا بالإضافة إلي العمليات العسكرية التي تشنها القوات الأمريكية والحكومية ضد مدن غرب الأنبار، وإعلان حالة الطوارئ الموجودة أصلا في محافظتي نينوى وصلاح الدين والمضايقات الواسعة على الناخبين من خلال إغلاق الطرق وفرض حظر التجول و تشديد الرقابة الأمنية قبل المراكز الانتخابية بمسافات طويلة جدا ، تعيق الناخبين من الوصول ، هذا بالإضافة إلى تمرير القوانين في الجمعية الوطنية من غير وجود السنة فيها لأنهم مغيبون وعلى رأسها القانون الانتخابي الذي يسير عمل المفوضية ،والذي تم بموجبه اقتطاع مقاعد العرب السنة . ولم يكن حال حكومة إقليم كردستان أفضل من حكومة الوسط ،وإن كان شمال العراق مثالا يقتدي به ساسة العراق الجدد ،ويطمحون بن يكون العراق كله كشماله في إنفاذ الأمن والسيطرة العامة على الإقليم ، فحكومة الإقليم شنت حربا شعواء على مقار الاتحاد الإسلامي الكردستاني قبل الانتخابات بقليل ، لأن هذا الحزب خرج من القائمة المركزية للأكراد، وآثر أن يدخل المعركة الانتخابية بمفرده . ولأن الأكراد يحسبون ألف حساب للجولة القادمة داخل الجمعية الوطنية بل حتى منع العديد من أعضائه من مراقبة صناديق الاقتراع في المناطق الشمالية . الأمر الذي فسره بعض قادة الاتحاد الإسلامي على أنه حالة تزوير تسبق النتائج لأن أعضاء الاتحاد لن يتمكنوا من اكتشاف التزوير الذي سيحصل في الانتخابات القادمة في المناطق الشمالية . وأخيرا الدور السلبي لقوات الاحتلال التي ابتعدت قبل الانتخابات عن الضغط على الأطراف السياسية لأن هاجسها الوحيد كان في إنجاح العملية السياسية في العراق بأي شكل وبأي ثمن ، وإعطاء الفرصة لمن تريد لهم الاستمرار في قمة هرم السلطة كما جعلتهم بداية ، ولذلك اعتقد الأمريكيون ووفقا لرواية المحلل السياسي العراقي محمد الحلو أن عرضهم لصور ملجأ العامرية كان بمثابة مداعبة كاذبة للسنة توهمهم بان أمريكا تريد لهم مكانا في المرحلة القادمة فأكلوا بذلك الطعم . ومع هذه التداعيات الخطيرة التي يجد السنة فيها أنفسهم مغبونون إلى حد بعيد فإن النظرة الفاحصة للخريطة القادمة داخل البرلمان وعند تشكيل الحكومة ، وحتى على مستوى تعديل الدستور قد تتغير عن المعادلة التي كان يرسمها غير واحد من المتابعين ،على أساس أن أمريكا أرادت أن تجعل للعراق رؤوسا أربع لا غالب فيها ولا مغلوب ، لكن النتائج أثبتت شيئا آخر. ومن هنا كان موقف الحزب الإسلامي العراقي أكبر الأحزاب السنية موقفا حرجا للغاية إذ إنه وافق على تمرير الدستور، و اعتقد أن الرياح ستجري في الانتخابات بشكل طبيعي ، لكنه فوجئ بما حصل ولذلك فسيكون المنقذ الأول له في المعركة القادمة هو تمكنه من تغيير الدستور العراقي الذي وافق على تمريره ، على وعد من الجهات الأخرى بالنظر فيه ، وإضافة المادة 140 التي تنقل الدستور العراقي من كونه دستورا جامدا لا يتغير إلا بعد مرور ثماني سنوات ، إلى دستور مرن يمكن تغييره بعد أربعة أشهر من عقد البرلمان . لكن الشيء الجديد في المعادلة أن السنة هذه المرة سيلعبون بورقتين مع القادمين الجدد بدلا من واحدة ، الورقة الأولى هي العمل المسلح الذي يستهدف الأمريكيين ، أما الورقة الأخرى فهي الدخول إلى المعترك السياسي . وعليه فإن القدرة في اللعب بهذه الأوراق سيكون في مدى تمكن السنة من جمعها معا لتحقيق هدف واحد، وليس عدم السيطرة عليها لتأخذ كل واحدة منها طريقا عكسيا على الأخرى . وهنا لابد من الإشارة إلى الورطة الأمريكية القادمة بعد أن قدمت العراق على طبق من ذهب إلى إيران كما قال وزير الخارجية السعودي ، وهي ومع هذا التصور الأولي لنتائج الانتخابات لن تتمكن من تصحيحها على المدى القريب ، ولكن والذي يبدو هنا أن الجميع الآن سيدخلون تحت عباءة الأمريكيين من حيث يشعرون أو لا يشعرون ، وأن مشروعا كبيرا قد تبتعد استراتيجيته عن المتخيل الآن سيقتحم الميدان العراقي ، ولن يأبه بحكم زيد أو عمر إذ أن الطرف الوحيد المستثنى من هذه العملية برمتها و عجزت أمريكا عن وضعه تحت عباءتها هو العمل المسلح في العراق ومن يقف ورائه ، والذي ينقسم بدوره إلى قسمين مركزيين القسم الأول هو تنظيم القاعدة والذي تبتعد أهدافه عن الحدود العراقية كثيرا ولن يدخل في عباءة الأمريكيين ، أما الثاني فهو باقي فصائل المقاومة العراقية والتي تقف أعمالهم المسلحة عند خروج المحتل من العراق وهذين الفصيلين سيكونان الخارجان الوحيدان عن هذه اللعبة ومعهم قوى أخري رفضت العملية برمتها ، لكنها قد لا تتمكن من إحداث تغييرات جوهرية على المعادلة . وهنا يبدو واضحا أن خارطة عمل فصائل المقاومة وعلى المدى المتوسط لن تتغير كثيرا عما كانت عليه بل ربما تزداد إذا ما تمكنت من استغلال دخول السنة إلى المعترك السياسي وعلى جميع الصعد . المصدر الاسلام اليوم