لا أعتقد أن هناك فرقاً بين النظرة الإسرائيلية لفلسطين والنظرة الأمريكية لمنطقة الخليج العربى، فبينما قامت نظرية الاحتلال الصهيونى لفلسطين على أساس أن الأخيرة «أرض بلا شعب»، لا يتردد بعض الكتاب الأمريكيين فى المجاهرة بأن منطقة الخليج ليست أكثر من «محطة بترول» بالنسبة لأمريكا. وكما هو ملاحظ من النظرتين الإسرائيلية والأمريكية فإنهما لا تريان أى وجود للبشر فى كلتا المنطقتين. كل ما يهم الأمريكيين من الخليج بما فيه العراق أن يحصلوا على بتروله، وليذهب سكان المنطقة إلى الجحيم. ولعل عمليات الإبادة الجماعية الأمريكية فى العراق تبرهن على صحة هذا الطرح. فلا مانع أن يندثر سكان بلاد الرافدين طالما ضمنت أمريكا منابع النفط العراقية وجوارها.
قد يرى البعض نوعاً من التطرف فى هذا الرأى، لكن لو نظرنا إلى الاستهزاء والاستخفاف الأمريكيين الصارخين بأرواح شعوب المنطقة لوجدنا أنه رأي واقعي تماماً. فالكل يعرف أن العمليات العسكرية والحروب التى خاضتها أمريكا وتخوضها فى العراق والخليج أحدثت تلوثاً رهيباً لا يعلم إلا الله حجمه وخطورته على الأجيال الحالية والأجيال القادمة. فقد أدى استخدام القوات الأمريكية والبريطانية لليورانيوم المنضب فى ضرب العراق خلال حرب الخليج الثانية عام 1991، ثم خلال عملية غزو العراق ومواجهة المقاومة المسلحة، إلى أضرار ومخاطر صحية وبيئية هائلة، تتمثل فى ارتفاع معدلات الإصابة بالأمراض السرطانية والتشوهات الخلقية، إضافة إلى العديد من التأثيرات البيئية والصحية الخطيرة فى منطقة الخليج بصفة عامة، وهو ما أكدته العديد من التقارير الدولية، التى أشارت إلى أن التعتيم على هذه القضية ليس فى مصلحة الشعوب، خاصة وأنه أى هذا التعتيم لا يخدم سوى مصالح الولاياتالمتحدة وحلفائها، الذين يحاولون التنصل من مسؤوليتهم عن هذه الجريمة الشنعاء فى حق البيئة، وفى حق شعوب المنطقة.
مع نهاية حرب الخليج مثلاً، بقي أكثر من 300 طن من بقايا قذائف اليورانيوم المنضب مبعثرة فى الأراضى التى وقعت فيها المعارك فى الكويت وشمال السعودية. كما نشرت بعض الصحف الأمريكية تقريراً عن نتائج حرب تحرير الكويت فى العام 1991، أشارت فيه إلى أن استخدام الأسلحة المعتمدة فى تصنيعها على اليورانيوم تسبب فى تعريض مساحات كبيرة من الأراضى فى دول الخليج لمواد مشبعة بمواد اليورانيوم والزرنيخ والزئبق والكادميوم، أدت إلى إصابة عشرات الآلاف من الأشخاص بالسرطان، وتكليف خزانة هذه الدول مليارات الدولارات، مع استمرار انتقال غبار هذه المواد عبر الرياح بين دول المنطقة، خاصة وأن المواد النووية يمكن أن تحملها الرياح من العراق إلى أى دول خليجية خلال أقل من سبع ساعات، حسب العلماء البريطانيين.
وقد أعلن الأمريكان أنهم استخدموا 940 ألف قذيفة يورانيوم و14 ألف قذيفة دبابات ضد العراق، وأنهم قصفوا المنطقة بحوالى 50 ألف صاروخ و88 ألف طن من القنابل، وهو ما يعادل سبعة أضعاف القوة التدميرية التى تعرضت لها مدينتا هيروشيما وناجازاكى اليابانيتان بعد قصفهما بالقنابل النووية الأمريكية فى نهاية الحرب العالمية الثانية.
وقد أكد تقرير نشره المركز الطبى لأبحاث اليورانيوم Uranium Medical Research Centre، وهو مركز علمى دولى مستقل، بعد إجراء العديد من الدراسات الميدانية فى العراق، وجود تلوث إشعاعى واسع وخطير، ويهدد الدول المجاورة بمخاطر هائلة، حيث تتراوح مستويات التلوث الإشعاعى ما بين مئات وآلاف المرات زيادة عن الحد المسموح به. وأرجع ذلك إلى استخدام القوات الأمريكية والبريطانية لكميات هائلة من ذخيرة اليورانيوم المنضب تقدر بنحو 1700 طن. مشيرين إلى أن تلوث اليورانيوم سيستمر فى البيئة إلى أربعة آلاف وخمسمائة مليون سنة، إذا لم يتم تنظيفه بشكل تام والتخلص منه بطريقة صحيحة.
لكن بالرغم من خطورة التلوث الرهيب الناتج عن حروب أمريكا فى المنطقة منذ بداية تسعينيات القرن الماضى حتى الآن، إلا أنه على ما يبدو سيكون مجرد «لعب عيال» مقارنة مع النتائج التى ستترتب على الضربة الأمريكية المحتملة للمنشآت النووية الإيرانية.
ويرسم د. وهيب الناصر استاذ البيئة فى جامعة البحرين السيناريو الرهيب لما يمكن حدوثه من تداعيات مخيفة فى حال ضرب مفاعل بوشهر، فيقول إن هذه المواد المشعة من المفاعل ستنتشر فى الهواء وستنقلها الرياح، حيث سيهبط بعضها على الأرض مثل البلوتونيوم طويل الإشعاعية، على مسافة بعيدة من بوشهر أى فى الخليج، بينما سيتكثف السيزيوم واليود على الهواء الجوى ليصلا إلى كل دول الخليج وحدود اليمن ومصر!
وسيترتب على هذه التداعيات ترحيل مواطنى دول الخليج من أراضيهم مثلما حدث فى تشرنوبيل إلى مناطق تزيد على 100 كيلو متر، لكن د. الناصر يرى أن هذه المسافة ليست آمنة، ومن الأفضل أن تكون على بعد يتجاوز 500 كيلو متر، فإلى أين سيذهب سكان الخليج؟! علماً بأنه لا يمكن استخدام الأراضى الملوثة إلا بعد مرور نحو 50 - 100 عام؟!!
وإذا لم يتحقق هذا السيناريو الجهنمى، وبقى الخليجيون فى أرضهم، لواجهوا سيناريو لا يقل خطورة وبشاعة، فالضربة الأمريكية للمنشآت الإيرانية ستؤدى، برأى العلماء، إلى تسربات إشعاعية إلى مياه الخليج بما يؤدى إلى تلوثها وربما نشوب حرب مياه فى المنطقة، فالخطر الحقيقى يكمن فى تلوث مياه الخليج نووياً، خاصة أن الغالبية العظمى من دول المنطقة تعتمد فى تحلية مياهها على الخليج نفسه. وإذا تلوثت المياه ذرياً فلن تنفع معها عندئذ لا التحلية ولا يحزنون.
ولو اقدمت واشنطن فعلاً على هذه الضربة لبرهنت لنا دون أدنى شك على أنها لا تعير سكان هذه المنطقة أى اهتمام، ولأثبتت نظريات بعض الكتاب الأمريكيين بأن الخليج مجرد محطة للتزود بالوقود لا أكثر ولا أقل.
إن كل أموال الخليج وثرواته ستصبح صفراً على الشمال إذا تلوثت مصادر المياه نووياً. ولا نستغرب إذا قالت لنا أمريكا ما قالته مارى انطوانيت للشعب الفرنسى بسخريتها الشهيرة عندما طالبها بتوفير الخبز، فأجابته: «كلوا بسكويت»!، ونأمل ألا تقول لنا أمريكا: «اشربوا مياهاً معدنية»! إذا قلنا لها: لقد لوثت مياهنا بالنووى. صحيح أن توفير الخبز للفرنسيين فى ذلك الوقت كان صعباً، وأن الحصول على البسكويت أكثر صعوبة، إلا أن توفير المياه لسكان الخليج سيكون مستحيلاً.
لقد كان الزعيم الفلسطينى الراحل ياسر عرفات يقول للذين يختلفون معه فى الرأى: «اللي مش عاجبه يشرب من مية البحر»، على اعتبار أن شرب مياه البحر القذرة خيار صعب جداً، ولا يمكن للمرء أن يلجأ إليه إلا عند الضرورة القصوى. لكن على ما يبدو أنه حتى ذلك الخيار الصعب جداً لن يكون متوفراً للخليجيين إذا ما أقدمت أمريكا على ضربتها للمفاعلات النووية الإيرانية.