يكثر مؤخرا الحديث عن محور الاعتدال العربي والذي يُفترض انه يضم عددا من الدول التي لم تعلن عن نفسها علي انها تشكل محورا. تمضي التقارير الاعلامية بالشرح حول نشاطات هذه الدول لكنها لا تعرف للعربي معني هذا الاعتدال ولا توضح اشكاليته الفلسفية والمنطقية، وكأن المعني معروف لدي القارئ والمستمع. ينطلق سياسيون واعلاميون في استعمال مصطلحات يفترضون لها معني ذاتيا مبهما بالنسبة للآخرين ويحاولون فرضه علي قاموس الاستعمال السياسي، وغالبا ما تلجأ وسائل الاعلام الغربية الي مثل هذه الاساليب التي لا يمكن ان تكون مقبولة حسب المعايير العلمية. سبق ان كتبت حول مفهوم الاعتدال وقلت انه الفضيلة في السلوك المعين، وهو الوسطية في الاسلام. انه تلك الفضيلة التي تترك يمينها ويسارها يميلان نحو الرذيلة والتطرف، وتقيم ميزانا للعدل في الحكم، او الخلق الرفيع في السلوك. الكرم هو الاعتدال، وما زاغ الي يساره يشكل بخلا، وما طغي الي يمينه يشكل اسرافا؛ والشجاعة هي الاعتدال، وما زاغ عنها يشكل جبنا، وما طغي يشكل تهورا. اي ان الاعتدال يتعلق بالاخلاق، وبقدرة المرء علي ترجمة الفضيلة الي عمل او واقع عملي. في حاضرنا السياسي، يتم استعمال كلمة اعتدال للدلالة علي المواقف السياسية التي تنسجم مع الرؤية الغربية، وبالتحديد الولاياتالمتحدة، لما يجب ان تكون عليه الامور والاوضاع السياسية. يصف ساسة الغرب من ينسجم مع مواقفهم السياسية بالمعتدلين، بينما يصفون الذين يخالفونهم بالمتطرفين. هذا تعريف او مقاربة مبنية علي الرؤية الذاتية او المصلحة، وغير مبنية علي معطيات اخلاقية. وعندما تدخل المصلحة الي المفاهيم فان سمة الكونية او العالمية تنتفي وتصبح التعريفات ذاتية وآنية؛ وتخضع الفضيلة عندها لتعريفات مصلحية تتغير باستمرار. الاعتدال عبارة عن مفهوم كوني، او علي الاقل، عالمي يكتسب اهميته من انه عام وموضوعي وينسحب بدون تمييز علي كل الشعوب والاشخاص. فعندما نتحدث عن الصدق مثلا فاننا نتحدث عن معيار لا يخضع لرؤية ذاتية تجعل من بعض الكذب او بعض المبالغة بديلا. علي الصيني ان يكون صادقا، وكذلك الارجنتيني والعربي والصربي، والا دخلت المفاسد الي الساحة الدولية، واخذت المصالح مكان الفضائل. لا يخفي علينا ان هذا العالم يقوم علي المصالح المرتبطة بالقوة المادية التي تتناقض في اغلب الاحيان مع القوة الاخلاقية. تعريفا المقاومة والارهاب يشكلان مثالين علي فوضي المفاهيم والمصطلحات العالمية. اجازت المواثيق الدولية للشعوب التي تقع تحت الظلم ان تقاوم، ولم تتفق الامم بعد علي تعريف للارهاب، لكننا نلاحظ ان الاجتهادات الذاتية حول المفهومين تغزو وسائل الاعلام وتحاول السيطرة علي تفكير الناس في كل مكان واستحواذ العقول. وما من شك ان هذه الاجتهادات تساهم في بناء النزاعات التي تقود في النهاية الي سفك الدماء، وربما الي الحروب المفتوحة. يعيدنا هذا الي العرب الذين يسمون انفسهم بالمعتدلين. اذا نظرنا الي الساحة العربية عموما وحال الامة العربية جماعة ودولا منفردة نلاحظ ان الامة ليست علي ما يرام. في ظل الانظمة العربية الموجودة حاليا، الامة العربية تستورد حوالي 75% من احتياجاتها الغذائية؛ يشكل استهلاك العرب من الورق 7,.% من مجمل الاستهلاك العالمي؛ لا توجد جامعة عربية واحدة من الجامعات العالمية المتميزة؛ هناك حوالي 70 مليون عربي امي؛ العرب مهزومون امام اسرائيل في معارك متعددة وبعض اراضيهم محتلة؛ الاجانب يدنسون الارض العربية بقواتهم ويخضعون الامة لاراداتهم؛ الهوة العلمية بين العرب والعالم المتقدم تزداد اتساعا؛ القادة العرب ينفقون حوالي 30% من دخل الامة العربية المالي علي قصورهم واعوانهم؛ الخ. المعني ان الذين يعانون من هذه الامور لا يمكن ان يكونوا معتدلين. المعتدل اخلاقي ولا يمكن ان يقبل وضعا يكون فيه عالة علي غيره في لقمة الخبز، ولا يقبل ان ينفق امواله علي غير ما يؤدي الي فوائد محققة وبينة لكل الامة، او علي الاقل، لشعب الدولة. واذا ذهبنا الي اعطاء حكم عام، يصعب جدا ان نصنف نظاما عربيا واحدا علي انه اخلاقي، وكتاب العرب يكتبون دائما حول الكثير من الاخطاء والخطايا التي ترتكب بحقوق الامة وشعوبها. كما ان هناك اشكالية صعبة جدا يجب علي الحكام العرب وبالتحديد علي الذين يصفون انفسهم بالمعتدلين ان يقدموا حلا لها: هل نفصل نحن الكتاب بين مصلحة الامة ومصلحة الانظمة ام لا؟ هل مصلحة الانظمة هي ذاتها مصلحة الامة، وامن الانظمة هو ذاته امن الامة؟ اذا كانت المصلحتان متطابقتين، فلماذا نجد هذا التخلف الكبير الذي تعاني منه الامة في مختلف المجالات الثقافية والفكرية والاجتماعية والسياسية والعسكرية في حين تنعم الانظمة ومن والاها بالنعم والرفاه؟ وبناء علي ذلك، هل مصلحة الانظمة في التنسيق مع الولاياتالمتحدة او التحالف معها هي ذاتها مصلحة الامة العربية؟ وهل اذا تحقق امن الانظمة سيتحقق امن الناس علي اتساع الوطن العربي؟ نحن لا نريد بالتاكيد ان نحصر مفهوم الاعتدال بالموقف من اسرائيل وبمدي انسجامه مع الطرح الامريكي، ولا بالموقف من ايران. مفهوم الاعتدال اشمل وأعم، ومن المفروض ان يبادر من يصر علي اعتدال فكره وعمله علي مناقشة الامر علنا عل في ذلك ما ينعكس ايجابا علي قدرة الأمة علي التفكير الصحيح. كاتب من فلسطين