خسر عبد الفتاح السيسى شعبيته على مراحل فى الأوساط الشعبية،وظل محتفظًا بأنصاره من النخبة اليسارية،التى يبدو أنها حددت موقفها منذ البداية بأنها مع السيسى بالباع والذراع مهما فعل،فقد كانت تبحث عن "القرب"من السلطة،ولما وجدته أمسكت فيه بأيديها وأسنانها جلبًا للفخر، متمثلة "ريا وسكينة"،عندما خطب إحداهن الشاويش عبد العال فغنين: "نسبنا الحكومة وبقينا حبايب"! المرحلة الأولى التى خسر فيها السيسى شعبيته،كانت بعد فض رابعة والنهضة،إذ استشعر بعض مؤيديه،أنه رجل قادم من خارج دوائر الطبيعة الإنسانية،فلم يكتفِ بقتل كل هذا العدد من الناس المسالمين،وإنما لم يراعِ حرمة الموت فأشعل النيران فى جثامينهم. المرحلة الثانية كانت بعد قراره بالترشح للانتخابات الرئاسية،وفريق من مؤيديه،كان ينظر إليه على أنه "المخلص"،الذى جاء،لينقذ الشعب المصرى من براثن جماعة الإخوان المسلمين. وهؤلاء صدقوا ما قاله منذ اليوم الأول لانقلابه وهو إدراك القوات المسلحة بأن الشعب لم يدعوها لسلطة أو لحكم،ونفيه المتكرر للترشح. لكن عندما فعلها غادروا مواقعهم وانقلبوا عليه،ووقفوا على أنه ليس بالمنقذ،وأن انقلابه لم يكن استجابة للشعب،وإنما لأنه طامع فى السلطة. المرحلة الثالثة بعد أن شاهد الناس عجزه،عن حل المشكلات التى تعانى منها البلاد وكانت سببًا فى خروجهم على الرئيس مرسى،وقد تفاقمت فى مرحلة ما بعد الانقلاب،وبدا السيسى"المنقذ"عاجزًا عن مواجهتها،وأعلن أنه لا يملك " عصًا سحرية"لحلها،وكان رد المصرى البسيط:"مرسى أيضًا كانت مشكلته أنه لا يملك عصًا سحرية،فلماذا انقلبت عليه"؟!.
المرحلة الرابعة جاءت بعد ترشحه بدون برنامج،وما قدمه من حلول لمشكلات مستعصية،أظهر طفولة سياسية!. مثل حل أزمة الكهرباء باستخدام اللمبات الموفرة، وحل مشكلة البطالة بألف سيارة يعمل عليها ثلاثة آلاف شخص تشترى"الخضار"بالجملة من سوق العبور وبيعه بالتجزئة للجمهور. ومثل حل أزمة رغيف الخبز بقسمته على أربعة، مع أنه فى حجم "اللقمة" الواحدة. حتى إذا جاءت الانتخابات الرئاسية، كان العدد الأكبر من أنصاره قد انفض من حوله،وشهد اليوم الأول عزوفًا جماهيريًا عن التصويت، فلما جن الليل أقامت فضائيات الفلول "مناحة" كبرى لهذا العزوف. وفى اليوم الثانى كان التصويت المتواضع يتم بالتهديد والوعيد،فمن لم يدلِ بصوته ستوقع عليه الغرامة، وسيحرم من" بطاقة التموين"، وستحل عليه اللعنة. وتم المد ليوم ثالث، وما أظن أن الحضور فى الأيام الثلاثة زاد عن عدد المشاركين فى آخر انتخابات خاضها حسنى مبارك، والتى جاءت نتيجتها بعد التزوير تؤكد أن عدد ستة ملايين نسمة هم من شاركوا فيها!. المرحلة الخامسة تمثلت فى حالة الاستهانة به، فى التعامل خارجيًا، والتى بدأت بمعاملة العاهل السعودى له، وكأنه أحد أتباعه وقد ولاه أمر مصر، وكانت الخاتمة فى المؤتمر الأفريقى، إذ لم يعامل بالتقدير الذى يرضى غرور المصريين. وبالمقارنة بين المعاملة التى حظى بها الرئيس محمد مرسى يمكن اكتشاف حجم المهانة التى وصلت إليها مصر. مع أن هناك من كان يقول لمرسى:"إن مصر كبيرة عليك"، فإذا بمصر تصغر على يدِ السيسى مكانة وحجمًا حتى صارت لا تُرى بالعين المجرَّدة. ثم كانت المرحلة السادسة، التى قرر فيها "الانتحار شعبيًا" برفع الدعم عن الطاقة، عندما استأسد فى مواجهة الفقراء، لعدم قدرته على مواجهة "الإقطاع" وسيطرة رأس المال. وبدا السيسى ليس حريصًا على هذه الشعبية، والتى كان معظمها فى أوساط الفقراء.. ، فماذا يفعل بها ورضا الناس غاية لا تدرك، وبدا العزوف عن المشاركة فى الانتخابات الرئاسية كاشفًا عن أن السكرة قد ذهبت وحلت الفكرة، وأن بإمكانه أن يحكم بدون وجود شعبية كما حكم مبارك. ويمكن للتزوير أن يسد " غيبة الجماهير" فى الانتخابات وعندما وصلنا لهذه المرحلة، كان لافتًا أن الانقسام الذى أوجده الانقلاب قد تم جبره، وفقد السيسى الظهير الشعبى، وإذا كان خصومه بدوا فى المرحلة السابقة، كأنهم قلة يخافون أن يتخطفهم رجال الأمن، فكانوا يكتمون إيمانهم، فى مواجهة الصوت العالى المحمى بالإرادة الأمنية، فإن الوضع اختلف الآن تمامًا. الذين كانوا لوقت قريب يرفعون صوت "الكاسيت" بأغانى الانقلاب " تسلم الأيادى" و " بشرة خير"، على قاعدة " كيد الضرائر" هم أنفسهم الذين يتشاجرون مع من يدافع عنه ولو بشطر كلمة، حد القيام بقمعه. ومن باب أن الشيء بالشيء يُذكر، فإننى اختلف مع الذين يقولون بقياس الرأى العام بواسطة سائقى " التاكسى"، فهذا أمر يفتقد للدقة، وبالتجربة. ذلك بأن سائق التاكسى والحلاق يتعاملان بقاعدة " إرضاء الزبون"، فلا تستطيع أن تحدد مثلاً إذا كان حلاقك الخاص أهلويًا أم زملكاويًا، فهو يشجع الأهلى إذا كان زبونه أهلاوى ويمكن أن يشجع الفريق المنافس، إذا تغير "الزبون"، وكذلك سائق التاكسى. وإن كان حديث الأخير الآن ضد الانقلاب، هو الدليل على شيوع الرفض، والشجاعة فى الجهر به. المكان المناسب لقياس الرأى العام هو عربات المترو، والحافلات العامة. وإذا كنت الآن خارج مصر، فأنا مشغول بالسؤال عن الحديث عما يدور فى وسائل النقل العامة. لقد عايشت بنفسى مرحلة كان فيها الصوت الوحيد المرتفع هو صوت أنصار السيسى، وكان صمت الصوت الآخر مرده إلى القبضة الأمنية التى بدت للعيان منذ اللحظة الأولى للانقلاب. ثم تطور الموقف صمتًا عميقًا للجميع بعد فض رابعة والنهضة، وكأنهم يساقون إلى الموت. ثم كانت أصوات المؤيدين أكثر ارتفاعًا فى مرحلة لم أعايشها! الآن صار الصوت الرافض للانقلاب والمعارض للسيسى هو الأعلى، وفى حافلة كاملة قد لا تسمع سوى صوت أو اثنين، يدافعان بخجل، بعبارات تبريرية، حتى لا تصبح مصر مثل سورية، وغالبًا ما تلوذ هذه الأصوات بالصمت، لأنها تؤثر السلامة فى مواجهة الأغلبية الغاضبة. الفئة التى ظلت على مواقفها هى النخبة السياسية التى انحازت لعبد الفتاح السيسى من أول نظرة، وإذا كانت الدولة القديمة، التى قدم عبد الفتاح السيسى نفسه باعتباره مرشحها، لم تخرج لتأييده فى الانتخابات، فقد ظلت النخبة اليسارية عامة تؤيده. فلا يغيب عن فطنة لبيب أن الحزب الوطنى الحاكم فى زمن مبارك لم ينتخب السيسى، لأنه لم يرَ فيها المرشح المناسب، لاسيما فى الريف حيث رموز العائلات ووجهاء القبائل المرتبطة تاريخيًا بالسلطة، لأنه لا يملأ العين، وهم يرون تأييده الجماهيرى بالرقص والتحرش مما يمثل " قلة قيمة"، لا تليق بالكبار. فبعد سياسات تجويع الفقراء، لا يزال اليساريون يؤيدونه. وبعد موقفه المتخاذل من الاعتداء على غزة لا يزالون كما هم! دخلت على صفحة ناصرية، طالما هتفت بسقوط حكم العسكر، والانحياز للفقراء، وطالما أيضًا هتفت لغزة فى اعتداءات مختلفة، فلم أجد سوى مبالغة فى تأييد السيسى بتحويل صورته إلى تميمة تمنع الحسد تعلقها على صدرها! ولا كلمة عن غزة، أو عن غلاء الأسعار. بينما قال الناصرى عبد الحليم قنديل: "قرار خفض الدعم عن أسعار الوقود كان ضروريًا وشجاعًا والرئيس غامر بشعبيته". هكذا صار رفع الدعم شجاعة.. وصار حمل الفقراء على تحمل فاتورة فشل عبد الفتاح السيسى، هو "عين العقل"، وصار قرارًا فاسدًا للرئيس هو عنوان الشجاعة. فماذا لو فعلها مبارك؟! وماذا لو فعلها الرئيس مرسى؟! لا بأس لقد خسر السيسى شعبيته، على مراحل، وبقيت النخبة الملتحقة به وسوف يزيحها هو بعيدًا عنه على مراحل. فبلال فضل الذى أيد انقلابه.. تم منعه من الكتابة! وعلاء الأسوانى الذى قال:"إن السيسى أعظم قائد بعد ايزنهاور، تم حمله على التوقف عن الكتابة". والمستوزرون الجدد مثل حسام عيسى وكمال أبو عيطة الذين تصدروا المشهد دفاعًا عن القرارات المستبدة للانقلاب، كانت مكافأتهم بتسريحهم وأحمد ماهر وإخوانه، ممن أيدوا الانقلاب وأعطوه غطاء ثوريًا، وعرضوا خدماتهم بالسفر للخارج لإقناع الغرب بأن ما حدث فى مصر ثورة وليس انقلاباً، هم الآن فى السجون ويعترفون بأن ما جرى كان انقلابًا منذ اليوم الأول، ويرون الأدلة التى لسنا بحاجة لها لتأكيد ذلك. وباسم يوسف الذى كان برنامجه التلفزيونى جزءًا من أداء الثورة المضادة التى تمهد لنفسها، تمت مطاردته ووقفه. وإسقاط السيسى للنخبة اليسارية المتعلقة بثيابه هى مسألة وقت لا أكثر. ومنذ بداية 30 يونيه قلت لهؤلاء، أنتم ضيوف على هذه المظاهرات ولستم أصحابها، لكنهم لم يصدقوا وتصرفوا على أنهم "أصحاب الليلة".. والنتيجة أن السيسى نفسه يدفعهم بعيدًا عنه، حتى مع حرصهم على إظهار "الحب العذرى". وعلى الباغى تدور الدوائر.