الانتخابات الرئاسية التي أجرتها سلطة الانقلاب في مصر جاءت لتؤكد شيئا مهما وهو أن السيسي بلا شعبية. دعك من نتيجة الانتخابات التي أعلنت ، والتي تؤكد أن ملايين المصريين ذهبوا للجان التصويت محلقين ومقصرين. وأن الملايين اختارت عبد الفتاح السيسي رئيساً للبلاد. فلأول مرة نشاهد انتخابات يحضرها الملايين، دون وجود لطابور يعتد به ويُعتمد رسمياً في إعلام الثورة المضادة، وكأن الملايين خرجت في الأيام الثلاثة وهي ترتدي "طاقية الإخفاء" ، فلم ترصدهم كاميرا، ولم يعثر عليهم باحث عن إبرة في "كومة قش" . لا أخفي أن الأمر كان مفاجأة لي، وهي مفاجأة تقترب من مفاجأة أخرى، عندما جرى الاستفتاء على الدستور في عهد الرئيس محمد مرسي، إذ رفضت حينذاك قرار المعارضة بالمقاطعة، وكنت الأقرب إليها، وهجوت القرار كتابة وفي برامج تلفزيونية، وأسعدني أن تعدل المعارضة عن قرارها، وأن تقرر النزول في الاستفتاء بكل ثقلها لتصوت ب "لا" على الدستور. وكنت أظن أن معارضة الدكتور محمد مرسي، هي الأغلبية، فالإعلام لا يكف عن مهاجمته، وتقديمه للرأي العام على أنه فاشل. واحتشدت معارضته بأقصى طاقتها، لتكون نتيجة استفتاء لم يطعن أحد في نزاهته، مخيبة للآمال. إذ بدا واضحاً أنه بالرغم من دق طبول الحرب، أن الاحتكام للصناديق، ستكون نتيجته لصالح أهل الحكم. ولعل هذا كان سبباً في رفض المعارضة لتحقيق ما تريد عبر الانتخابات، فقد رفضت فكرة الاستفتاء على الرئيس مرسي. كما رفضت الانتخابات الرئاسية المبكرة، وإن تظاهرت بعكس ذلك. كما رفضت الدخول في انتخابات برلمانية، يمكن للأغلبية المنتخبة فيها أن تعدل الدستور، وتنتزع صلاحيات رئيس الجمهورية، لتجعل منه "خيال مآتة" . واستقر الرأي على أن الدبابة أصدقُ أنباءً من الصندوق!. لقد جاء الانقلاب ليقسم المصريين، على نحو عبرت عنه الأغنية الرسمية المعتمدة من قبله: "إحنا شعب وانتو شعب" ، ولم أكن متخوفاً من حدة الانقسام كالبعض في حال سقوط الانقلاب، ذلك بأن هناك من لا يمكن تفسير سلوكهم إلا من خلال علم النفس؛ فهناك من يتماهون مع القوة، وهم يرونها في يد عبد الفتاح السيسي، الذي كانوا يصفونه "بالدكر" . وأنا صاحب تجربة في هذا السياق، فعندما تم الإعلان عن تنحي حسني مبارك، كنت من الآلاف التي زحفت لتحاصر قصر الاتحادية، وعدت من هناك لميدان التحرير، لأفاجأ بوجود اثنين بأبنائهما يحتفلان برحيل مبارك مع المحتفلين، ويلتقطون الصور للسعداء "بهذه اللحظة التاريخية" . كان أحدهم لا يتوقف عن الدفع بوسطاء ليرجوني بأن ما نفعله حرام، وأن مبارك صاحب أفضال على البلد، وأنه لا يليق بنا أن نهينه في هذه السن. وفي كل مرة أطلب أن يتم إبلاغه بأنني لست قائد الثورة، ومع ذلك لم يمل!. الثاني كنت التقيت به، في عودتي لمنزلي فجراً في أحد أيام الثورة، وما إن رآني حتى أخذ يضرب رأسه في جدار، وهو يهتف: إن مبارك والدنا، وأنه من أبطال انتصار أكتوبر ولا يجوز أن نعامله على هذا النحو. والاثنان جاءا لميدان التحرير ليحتفلا بانتصار ثورة خرجت على صاحب الأفضال والوالد الكريم. وكان رأيي دائماً أن الذين يرقصون على أنغام الانقلاب، سيحتفلون معنا إذا تم إسقاط الانقلاب، وكشفت الشرعية عن قوتها، لا عن إدعاء السماحة في غير موضعها!. وبالرغم من كل ما سبق، فإنني كنت على قناعة بأن السيسي له أنصار، صحيح أنني لا أؤمن يوماً بأن " شعبه" يمثلون الأغلبية، لكن المستقر في اعتقادي نسبة أنصاره مقدرة عدداً، وإن كانت لا تجلب له نصراً، إذا ما تم الذهاب لانتخابات جادة وكانت "الشرعية" هي أحد أطرافها. لكن حقيقة لم أتصور أنه بلا شعبية تقريباً، وأنه يجري تجاوز ذلك بحفلات الرقص وهز الوسط. لقد انتهى اليوم الأول للانتخابات، وباعتراف جماعة السيسي أنفسهم فإن العزوف الجماهيري كان أكبر من أن يتم التستر عليه، أو ستره بطرف الثياب، والصناديق في النهاية قبضتهم. وكانت المفاجأة الأكبر لي فإن هذا العزوف كان في الريف وفي الصعيد على وجه الخصوص، والعائلات الكبرى التي ارتبطت بالنظام القديم، وجدت في الانقلاب فرصة ليعود إليها نفوذها. والانتخابات التي جرت في زمن الثورة، ساوت بينهم وبين غيرهم، وإن كانت قضت على القبلية في الحياة السياسية، فلم تنشئ قبائل جديدة، ومعظم الذين فازوا فيها، لم ينسب الفوز لعائلاتهم، ولم تبرز هذه العائلات على الساحة بفضل نجاح أبنائها. في تقديري أن نسبة الذين أدلو بأصواتهم تتراوح بين 3 إلى 5 ملايين، وهي النسبة التي حصل عليها حسني مبارك في آخر انتخابات رئاسية له، ومهما قالوا عن حضور، فإن هذا لم يتم طواعية، وإنما حدث بالإكراه، ومن خلال التهديد بالإلزام بدفع الغرامة، أو خصمها من المنبع ومن الرواتب بالنسبة للموظفين، أو بالتهديد بقطع المساعدات التموينية. وهذا التهديد قام به في الريف المصري، جهاز الشرطة، الذي يمثل عند البسطاء "الحكومة" . وإذا كنا نعلم أن هناك زواجاً بالإكراه، فلأول مرة نقف على أن التصويت أيضاً يتم بالإكراه. إن شئت فقل أن "شعب السيسي" تآكل على نحو مفاجئ، وربما كانت الانتخابات كاشفة عن أن شعبيته متآكلة منذ البداية، وليست منشئة لهذا التآكل. لكن المؤكد أنه خسر الكثير من جماهيره مؤخراً، وإن كنا لا نعرف نسبة هذه الجماهير، ونسبة المتسربين منها. لن أتحدث عن عزوف الموالين للشرعية، أو حتى الرافضين للانقلاب دون انحياز لشرعية الرئيس محمد مرسي هم يمثلون تنويعات مختلفة، ومنهم من كان ضد 30 يونيه، ومنهم من دعا إليها قبل أن يتبين لهم أنها مثلت تمهيداً لاستدعاء حكم العسكر، وأن الدعوة للنفير كان متفقاً عليها سلفاً، وأن حضور المنتمين لثورة يناير إليها، جاء بالخدعة والتضليل. هذا فضلاً عن أن الشباب، الذي لم يكن منذ البداية جزءاً من شعبية عبد الفتاح السيسي، وباعتراف حملته نفسها في أوراقها السرية والتي قالت أن 70 في المائة من الشباب ليسوا مع السيسي. وأعتقد أن النسبة أكبر من هذا. الحاصل، أن هناك من أيدوا عبد الفتاح السيسي لأنه "المنقذ" الذي انحاز للشعب لمواجهة "حكم الإخوان" . وهؤلاء عندما وجدوه مرشحاً رئاسياً، وقفوا على أن ما جرى لم يكن لله، وللوطن، وإنما كان من أجل دنيا يصيبها، وحكم تراءى له في "مناماته" . وهناك من رفضوا مرسي لفشله، وتعلقوا في الانقلاب لأنه سينتشل البلاد من الفشل، وبعضهم انسلخ من الانقلاب عندما استمع لتصريحات لمسؤولين في دولة مرسي ومن بينهم وزير الداخلية الحالي بأن الرجل أفشل ولم يفشل، ومع العمل على إفشاله فإنه كان الأفضل مما هو حادث الآن من فشل في كافة المجالات، ولا يوجد ملف تم تقريع مرسي على أدائه فيه، كان أداء الانقلاب أفضل فيه بما في ذلك قتلة الجنود في سيناء، والاستقرار الأمني، وسد النهضة، وأزمة الكهرباء والوقود. من الذين تسربوا هنا، من ظلوا مع السيسي وانقلابه، ليسوا مشغولين بأن مرسي تم إفشاله، فقد تعاملوا مع الموقف ببراجماتية، لكن خاب ظنهم بسبب الفشل المتلاحق وعلى كافة الأصعدة، لدرجة أن مستشاراً لوزير المالية يعترف مع بالغ الأسف بأن معدلات النمو في عهد مرسي أكبر من معدلاتها الآن. وقبل هذا وبعده، فإن كثيرا من الذين أيدوا الانقلاب في البداية، كان عبد الفتاح السيسي بالنسبة لهم أسطورة، لكن هذه الأسطورة تبين أنها من فعل سحرة، ولا يفلح الساحر حيث أتي. وعندما تكلم السيسي في مقابلاته الأخيرة، وأذيع ما قال بعد المونتاج، وقف كثير من أنصاره على أنهم أمام كارثة لا أسطورة. في كلامه، تبين أن الرجل ليس في جعبته شيء، وليس عنده حل لأي مشكلة تعاني منها البلاد، ولا برنامج يمكن حسابه عليه. ولعل هذا طرح سؤالاً ولماذا أسقطت حكم مرسي إذن؟!. فيما يختص بأعضاء الحزب الوطني المنحل، والدولة العميقة، ووجهاء القبائل، والزعامات التقليدية في الريف، فأستطيع القول أنهم وقفوا على أن السيسي ليس هو الرجل الذي يتحمسون له، ليس لأنه معاد للدولة القديمة، فهو أحد رموزها، ولكنه "قلة لا يملأ العين" ، وليس مثلاً كالفريق أحمد شفيق. معلوماتي، أن قادة الحزب الوطني ندموا في الوقت الضائع لأنهم لم يدفعوا بآخر أمين عام للحزب وهو الدكتور حسام بدراوي ليترشح منافساً لعبد الفتاح السيسي لما تبين له أنه "لا يشد به ظهر" ، ولن ينجح على أي مستوى، وأن ضحالة فكره ستوردهم مورد التهلكة للمرة الثانية، الأولى بعد تنحي مبارك وحل حزبهم. وبعيداً عن الحزب الوطني ورموزه، والدولة القديمة ورجالها، فإن السيسي رغم مسؤوليته عن جهاز مهم كالمخابرات الحربية، تبين أنه ليس على دراية بالشعب المصري، فحفلات الرقص، "وهز الوسط" في كل استحقاق من استحقاقات خارطة المستقبل، هي عند الناس تندرج تحت قائمة " قلة القيمة" ، ولا يقدم عليها إلا "الرجل الناقص" . و"النقصان" هنا صفة مذمومة تلحق بالمذكر والمؤنث، فكما يقال "الرجل الناقص" يقال كذلك "المرأة الناقصة" . لقد انهار شعب السيسي، ولم يبق معه إلا القوى السياسية الفاشلة، من ناصريين ويساريين ومتطفلين على الحياة السياسية، الذين لا وجود لهم في الشارع، "ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون" . سيحكم السيسي، لكنه وهو يحكم سيعلم أن شعبه تقلص فشعبيته الآن لا تؤهله لعضوية مجلس محلي محافظة، وليس لرئاسة جمهورية مصر العربية. رابط المقال: شعبك يا سيسي!