(1) نعم .. لماذا اسوَدَّ وجهه .. ولماذا فقد بريقه ولمعانه وبدت ملامح وجهه عارية جرداء قاحلة من المعنى والروح و الإنسانية..؟! سؤال يطرحه الملايين من أبناء الشعب فى الصحف وعلى صفحات التواصل الاجتماعي .. فى حيرة وذهول.. يحاولون فهم هذا الذى حدث فجأة بين عشية وضحاها...! يقول بعضهم : سوء الإضاءة .. وزاوية التصوير وقلّة الخبرة من المصورين.. ويقول آخرون: غياب الماكياج الذى اعتاد عليه ..
ولكن يرى آخرون أن سخط الله عليه قد انعكس على وجهه .. وليس هذا بعجيب بل يتوافق مع ما نعرفه من حقائق علم النفس؛ فإن ما يعتمل فى أعماق الشخص من مشاعر الذنب .. ومن صراعات بسبب آثام و جرئم ارتكبها - تظهر على صفحة وجهه رغْما عنه.. بل تزداد آثارها فى تعبيرات وجهه واضطراب سلوكه وكلامه ، كلما أمعن فى كبْتها وإخفائها ..
و للأطباء رأي آخر .. فهم يقولون: لانستبعد الأسباب العضوية ؛ فإن أمراض الكبد الفيروسية والتليّف الكبدي .. و الكيماوى الذى يُستخدم فى علاج السرطان ، تؤثِّر على لون البشرة وتجعل الوجه كالحًا ..
وأنا لا أستبعد شيئًا من هذه الأسباب كلها.. ولا أستبعد أنها اجتمعت عليه فى لحظة من لحظات الغضب الإلهي ؛ فإن الله يملك كل هذه الأسباب ويسخّرها كعلامة من علامات حضوره؛ حتى يستيقن المؤمنون به الذين يتساءلون متى نصر الله.. ؟! وليعلم الظالمون أنهم لن يفلتوا من عذاب الله المنتقم.. وأن عقابه غير بعيد منهم.. (2)
كتبت سلسلة من المقالات عن أساليب تفكيك الشخصية وإعادة بنائها لصناعة آلات قتل بشرية.. وتناولت بالشرح دراسات علماء النفس الاجتماعي ، وبالذات تجارب "استانلى مليجرام" فى هذا الموضوع.. وفى واحدة من مقالاتى القديمة بعنوان " مدرسة الأمريكتين لتدريب السفاحين " .. كتبت عن مهمة هذه المؤسسة الأمريكية وبرنامجها فى تفكيك شخصية الضابط وإعادة صياغتها لتصنع منه آلة قتل بشعة .. هذا من الناحية النظرية..
أما من الناحية العملية فقد أتيحت لى الفرصة لكي أتابع تأثير معلمى مدرسة الأمريكتين على ضباط أمن الدولة فى مصر؛ إذ وضعت المدرسة برنامجا مكُّثفًا لتدريب مجموعة من الضباط ليقوموا بدور المدربين لغيرهم ..
قُدّر لى أن أشهد نموذجا من هؤلاء الشبان أعرف أنه من عائلة عريقة فى الشرقية.. تابعت تطورات حياته منذ تخرّج من كلية الشرطة .. حيث كان يتمتع بحياء ملحوظ و وطنية و حماس .. ثم ألقاه حظه العاثر فى واحد من هذه البرامج التدريبية .. فبدأ يتحول تدريجيا - فى بضع سنوات - إلى شخصية أخرى مختلفة تمامًا:
تلاشى الوجه البريء ؛ و زحفت عليه تجاعيد الشيخوخة المبكرة ، و تناثرت فى رأسه شعرات بيضاء فى غير موعدها.. إنه لا يشعر بالأمن إلا فى مكتبه بقلعة التحقيقات الأمنية بمدينة نصر .. أما فى خارجها فقلبه يرتعد كالفأر المذعور .. رغم أن تسعة من الرجال يتناوبون على حراسته 24 ساعة كل يوم ، يعاونه حارس العمارة الذى تم تجنيده مع فريق الحراسة.. يملأون جعبته بمعلومات مفصّلة عن كل ما يحدث أو يتحرك فى العمارة أو حولها .. وكنا نحن أيضا وضيوفنا ضمن المُراقَبين باعتبارنا سكان العمارة المتعوسة .. فنالنا من العناء حظًّا وافرًا ..! انطبق علينا المثل الشعبي الذى يقول: "اللى يجاور الحدّاد ينْكوى بناره..!".
لقد أتاحت له وزارة الداخلية سيارات مرسيدس لتنقّلاته؛ يتغير لونها من وقت لآخر للتمويه.. فهى مرة بيضاء و مرة سوداء. لا تراه أبدا يسير على قدميه فى الطريق .. و لا يمكن أن تراه خارجا مع زوجته و أولاده .. حتى لا يتعرف عليهم أحد و يترصدهم بعد ذلك ..
كنا نلتقى قبل ذلك بالصدفة فى جراج السيارات تحت العمارة فيأتى إليَّ باشًّا مرحِّبا لنتجاذب بعض كلمات التحية و السؤال عن الأهل و الأولاد ..
و كانت لى معه لقاءات على هامش اجتماعات مجلس إدارة اتحاد العمارة .. سألته مرة عن أحواله فى التدريب .. فوجئ لأول وهلة عندما ذكرت له حكاية التدريب .. و ظن أننى مطّلع على هذا الجانب بشكل أو آخر .. فأجاب على أسئلتى بشيء من التفصيل .. و منها عرفت أن خبراء أمريكيين يقومون بتدريبه لكي يصبح هو مدرِّبًا لمن سيقومون بتدريب الآخرين؛ قال لى بالحرف: "أنا أدرّب المدرِّبِين" ليقوموا هم بتدريب الضباط والرتب الأدني فى الشرطة على نطاق أوسع.."
و مع تركيزى حول نقاط بعينها مهَّدتُ لها بما أعرفه من توجُّهات المعلمين الأمريكان - حول الدين والمتدينين - عرفت منه أن الأمريكيين يقومون فعلا بغسل عقول هؤلاء الضباط .. وينفثون فى أرواحهم كراهية عميقة لتراث شعوبهم الثقافيّ .. و احتقار رجال الدين و أصحاب الِّلحَى .. وكراهية الشبان المتدينين بصفة خاصة ، من الذين يواظبون على حضور صلاة الجماعة فى المساجد .. فالمساجد هى البؤر والخلايا التى يتجمّع فيها الإرهابيون ..
فإذا ثبتت هذه النقاط فى عقول الضباط انتقل التعليم إلى التحذير من القرآن نفسه ؛ ومن ثم يعلّمونهم أن الإرهاب نابع من القرآن .. ويستشهدون على ذلك بالآية القرآنية : { و أعدّوا لهم ما استطعتم من قوة و من رباط الخيل ، ترهبون به عدوّ الله وعدوّكمْ } ثم يضيفون:
"عليكم أن تفهموا و تتنبّهوا .. فأنتم حراس الأمن و الدولة و المجتمع .. و لكنكم فى نظر هؤلاء الإرهابيين الإسلاميين مجرد أعداء .. فإذا سمحتم لهم باستلام السلطة يوما ما فسينتقمون منكم و ستكونون أول ضحاياهم ..!".
عندما يتم تدريب ضابط أمن الدولة يبثُّون فى روعه أنه قد أصبح عُضوًا في مجموعة الأقوياء المهمِّين الذين يدافعون عن النظام .. و أنه و مجموعته من صنف آخر من البشر لا يخضعون للأخلاقيات و الفضائل السائدة بين العوام .. و أن لهم - بحكم وضعهم الجديد – حقوقا وامتيازات و سلطانا على الآخرين فى جميع مؤسسات الدولة و مرافقها .. فلا يتم تعيين أحد من الناس إلا بتقرير ضابط أمن الدولة .. من أصغر موظف إلى أعلى رأس فى الحكومة ومؤسسات الدولة..
و يتأكد هذا الشعور بالاستعلاء.. و الانتماء إلى النخبة المتميزة من خلال اللغة الخاصة المتداولة بينهم: عن خطورة الأعداء الذين يحاربهم النظام .. و أن هؤلاء الأعداء ليسوا إلا ديدان و حشرات ينبغي سحقها بالأقدام ..
ولكيْ يزيِّنون لهم عملهم ويقللون عندهم من مشاعر الذنب، يطلقون على أساليب التعذيب المروِّعة أسماء لطيفة تجعلها محبّبة إلى قلوبهم : فالضرب العادي لأحد المعتقلين باللكمات الجماعية هو " حفلة شاي " أما إذا كان الضرب المطلوب بالعصي الغليظة فهذه "حفلة شاي بالجاتوه.. " و هكذا نجد بين هذه النخبة قاموس مصطلحات خاص بها ، و رموز خاصة ، و لغة تعبير مختلفة عن لغة بقية الناس..
جريمة السيسى -فيما يتعلق بتفكيك الشخصية وصناعة آلات بشرية للقتل- أنه نقل هذه التجربة الوحشية من الداخلية إلى ضباط فى الجيش؛ فأفسد مؤسسة الجيش كما فسدت مؤسسة الشرطة.. ولا أستبعد أن الذى دفعه إلى ذلك ، خشيته من انهيار الشرطة مرة أخرى أمام قوة الجماهير الثائرة الرافضة للانقلاب العسكري كما حدث فى يوم جمعة الغضب خلال ثورة يناير 2011م ..
ولذلك عندما ترى تنصيب السيسى ملكا لمصر فى مهرجان الرئاسة الزائفة أنظر تحت أقدامه لترى حجم الدمار والأشلاء والدماء.. التى دفعها الشعب ثمنًا باهظًا فى ثورته على دكتاتورية مبارك وعلى نظامه القمعي.. وفى مقاومته الباسلة والمستمرة للانقلاب العسكري.. ولكن جاء السيسى بالثورة المضادة لتشاركه فى مهرجان التنصيب.. على أشلاء شعب ممزق.. وعلى أكتاف جيش ضلّ طريقه ، ونسي مهمته وأهمل واجبه .. لقد سار شوطا بعيدا فى الظلام حتى أصبحت أقدامه على حافة الهاوية..