ابكوا كثيراً. وأعلنوا الحداد الرسمي والشعبي. ونكسوا الأعلام في كل ميدان وشارع وحارة ودرب وزقاق. واعزفوا لحناً جنائزياً طويلاً.. فقد مات سفير الفقراء وشاعر الغلابة والمناضل الشرس ضد الامبريالية والفساد والظلم.. مات عمنا وشاعرنا الكبير أحمد فؤاد نجم. ورغم أن كافة الأجيال قد ارتبطت بالشاعر الكبير بشكل أو بآخر.. فإن جيلنا كان الأكثر ارتباطاً به.. لأنه الجيل الذي طحنته ومزقت أحشاءه النكسة. وأذهله العبور. وأسكره نصر أكتوبر. وخذلته اتفاقية كامب ديفيد. وأفقدته توازنه انتفاضة الخبز. وزادته قوة وصلابة مظاهرات الطلبة 71-72 وكنا في القلب منها داخل جامعة القاهرة والشوارع المحيطة بها. جيلنا علي وجه الخصوص عاش كل هذه الأفراح والأتراح مع أحمد فؤاد نجم يغلي وينتفض ويسكر علي قصائده وهي تخرج من قلبه إلي قلوبنا وعقولنا وضمائرنا ثم ونحن نرددها وراء الشيخ إمام وهو يغنيها علي العود. لم يتوقف عطاء "نجم" علي جيلنا فقط بل ظل عطاؤه متدفقاً حتي الرمق الأخير من حياته.. ودون مبالغة أو تزيد فإنه وبلا منازع "أيقونة ثورة يناير" الحقيقية.. هذا اللقب الذي حاول بعض العملاء والمنتفعين والمستقلين أن يحرموا "نجم" منه ويصبغوا به "الدعي" الوافد الينا بأجندة سرية من وراء الأطلنطي وثبت للكافة تلونه وضعفه وعمالته للغرب وللأهل والعشيرة. كانت أشعار "نجم" تتردد في كل ركن بميدان التحرير تحفز الثوار وتنير لهم الطريق نحو العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية قبل أن يسرق الإخوان والأمريكان والمتأخونون والمتأمركون الثورة..!!! ورغم تعدد وتشعب منابع الإلهام عند "نجم".. فإن مصر ظلت المنبع الرئيسي والحيوي والأهم لديه.. كانت معظم أشعاره لمصر. من ينسي: "مصر يامه ياسفينة". أو "مادامت مصر ولادة". أو "يا مصر ياأول صورة.. في عيون المولودين". أو "كل عين تعشق حليوة.. وانت حلوة في كل عين"..؟؟ ومن ينسي: "ممنوع من السفر.. ممنوع من الغنا.. ممنوع من الكلام.. ممنوع من الاشتياق.. ممنوع من الاستياء.. ممنوع من الابتسام.. وكل يوم في حبك تزيد الممنوعات.. وكل يوم بحبك اكتر من اللي فات"..؟؟ لكن.. تأتي قصيدة "بهية" ليضع بها "نجم" أكبر وأغلي ماسة في تاج عشقه لمصر.. هل قرأتموها؟؟.. تعالوا معاً نقرأها ونعيش في أجواء معانيها: مصر يمه يا بهية.. يام طرحة وجلابية.. الزمن شاب وانتي شابة.. هو رايح وانتي جايه.. مصر يمه بابهية.. جايه فوق الصعب ماشية.. فات عليكي ليل وميه.. واحتمالك هو هو.. وابتسامتك هي هي.. تضحكي للصبح يصبح.. بعد ليلة ومغربية.. تطلع الشمس تلاقيكي معجبانية وصبية.. يابهية". رحم الله شاعرنا الكبير أحمد فؤاد نجم وأسكنه فسيح جناته علي ما قدمه للوطن وللثورة والثوار الحقيقيين.. وإذا كان قد رحل عنا بجسده فإنه سيظل دائماً في قلوب المصريين وستبقي أشعاره وأفكاره ومواقفه إلهاماً فياضاً لكل ثائر حق يحب مصر.. "بهية" كل عصر. وإنا لله وإنا إليه راجعون.