"الوطنية للانتخابات" تنعى رئيسة لجنة اقتراع بقنا توفيت إثر حادث عقب انتهائها من الإشراف على انتخابات النواب    الرئيس يتلقى التهانى بالعام الجديد    إنجاز تاريخى |صادرات الصناعات الغذائية 6.3 مليار دولار خلال 11 شهرًا    نشأت الديهي: الفريق كامل الوزير استُقبل كالأبطال في جيبوتي.. والدولة يقظة لأمنها القومي    الشرطة الإسرائيلية تفرق احتجاجا للحريديم ضد التجنيد    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. مستوطنون يهاجمون تجمع خلة السدرة قرب مخماس شرق القدس.. مصرع شخص وفقدان آخرين جراء فيضانات ضربت جنوب إسبانيا.. مصرع شخص وإصابة آخر بجروح فى تحطم مروحيتين بولاية نيوجيرسى    الداخلية السورية: احتجاجات الساحل نتيجة دعوات انفصالية    إسرائيل تعلن توقيع برنامج عسكري مع اليونان وقبرص الرومية لعام 2026    الجيش الروسي يعلن تدمير 21 مسيرة أوكرانية    ترامب: نحن في المراحل الأخيرة من المحادثات بشأن أوكرانيا    الجزائر يتصدر المجموعة الخامسة ب6 نقاط ليحسم تأهله رسميا لدور 16 بأمم أفريقيا    ترتيب مجموعات أمم أفريقيا 2025 بعد انتهاء الجولة الثانية    كفر تيدا يتوّج بلقب دوري خماسي كرة القدم للنشء بكفر الشيخ    على طريقة لصوص لكن ظرفاء، كشف غموض سرقة محل مشغولات ذهبية في الدرب الأحمر    قانون المرور.. ضبط وحزم وحفظ أرواح |خبراء: التعديلات تستهدف خفض معدلات الحوادث والردع الوقائى    أخبار الفن اليوم: وفاة دقدق مغني المهرجانات بعد صراع مع المرض، آسر ياسين يخطف الأنظار في العرض الخاص لفيلمه الجديد وزوجته تدعمه    بالصور.. كلاسيكو خاص على هامش مواجهة الكاميرون وكوت ديفوار في كأس الأمم    قوات الاحتلال الإسرائيلي تقتحم قرية عابود شمال غرب رام الله بالضفة الغربية    مدير مكتبة الإسكندرية يوزع جوائز المبدعين الشباب 2025    رئيس وزراء الصومال: نستخدم القنوات الدبلوماسية للدفاع عن أرضنا ووحدتنا    التشكيل الرسمى لقمة كوت ديفوار ضد الكاميرون فى بطولة كأس أمم أفريقيا    المستشار إسماعيل زناتي: الدور الأمني والتنظيمي ضَمن للمواطنين الاقتراع بشفافية    الصحة تكشف أبرز خدمات مركز طب الأسنان التخصصي بزهراء مدينة نصر    أشرف الدوكار: نقابة النقل البري تتحول إلى نموذج خدمي واستثماري متكامل    تفاصيل وفاة مُسن بتوقف عضلة القلب بعد تعرضه لهجوم كلاب ضالة بأحد شوارع بورسعيد    القضاء الإداري يسقِط قرار منع هيفاء وهبي من الغناء في مصر    بوليسيتش يرد على أنباء ارتباطه ب سيدني سويني    عاجل- رئيس الوزراء يستقبل المدير العام للمركز الأفريقي لمكافحة الأمراض ويؤكد دعم مصر لاستضافة الآلية الأفريقية للشراء الموحد    أحفاد الفراعنة فى الشرقية    الأزهر للفتوي: ادعاء معرفة الغيب والتنبؤ بالمستقبل ممارسات تخالف صحيح الدين    «مراكز الموت» في المريوطية.. هروب جماعي يفضح مصحات الإدمان المشبوهة    شوط سلبي أول بين غينيا الاستوائية والسودان في أمم أفريقيا 2025    هذا هو سبب وفاة مطرب المهرجانات دق دق صاحب أغنية إخواتي    سكرتير مساعد الدقهلية يتفقد المركز التكنولوجي بمدينة دكرنس    نائب محافظ الجيزة يتفقد عددا من المشروعات الخدمية بمركز منشأة القناطر    جامعة بنها تراجع منظومة الجودة والسلامة والصحة المهنية لضمان بيئة عمل آمنة    سقوط عنصرين جنائيين لغسل 100 مليون جنيه من تجارة المخدرات    محافظ الجيزة يشارك في الاجتماع الشهري لمجلس جامعة القاهرة    «اليوم السابع» نصيب الأسد.. تغطية خاصة لاحتفالية جوائز الصحافة المصرية 2025    وزير الإسكان: مخطط شامل لتطوير وسط القاهرة والمنطقة المحيطة بالأهرامات    نقابة المهندسين تحتفي بالمهندس طارق النبراوي وسط نخبة من الشخصيات العامة    إسكان الشيوخ توجه اتهامات للوزارة بشأن ملف التصالح في مخالفات البناء    محمود عاشور حكمًا لل "VAR" بمواجهة مالي وجزر القمر في كأس الأمم الأفريقية    هيئة سلامة الغذاء: 6425 رسالة غذائية مصدرة خلال الأسبوع الماضي    قضية تهز الرأي العام في أمريكا.. أسرة مراهق تتهم الذكاء الاصطناعي بالتورط في وفاته    رسالة من اللواء عادل عزب مسئول ملف الإخوان الأسبق في الأمن الوطني ل عبد الرحيم علي    وزارة الداخلية تضبط 4 أشخاص جمعوا بطاقات الناخبين    " نحنُ بالانتظار " ..قصيدة لأميرة الشعر العربى أ.د.أحلام الحسن    من مخزن المصادرات إلى قفص الاتهام.. المؤبد لعامل جمارك بقليوب    صاحب الفضيلة الشيخ / سعد الفقي يكتب عن : شخصية العام!    قيادات الأزهر يتفقدون انطلاق اختبارات المرحلة الثالثة والأخيرة للابتعاث العام 2026م    لتخفيف التشنج والإجهاد اليومي، وصفات طبيعية لعلاج آلام الرقبة والكتفين    أزمة السويحلي الليبي تتصاعد.. ثنائي منتخب مصر للطائرة يلجأ للاتحاد الدولي    أبرز مخرجات الابتكار والتطبيقات التكنولوجية خلال عام 2025    دار الإفتاء توضح حكم إخراج الزكاة في صورة بطاطين    بدون حبوب| أطعمة طبيعية تمد جسمك بالمغنيسيوم يوميا    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم فى سوهاج    هيئة الرعاية الصحية تستعرض إنجازات التأمين الصحي الشامل بمحافظات إقليم القناة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



آخر الشعراء الصعاليك: احمد فؤاد نجم بين التراب والشهب
نشر في نقطة ضوء يوم 29 - 09 - 2011

سيكون على الأغلب آخر الشعراء الصعاليك. ذلك النمط من فرسان الكلمة الذي يعشق الحرية فيعيشها في حياته إلى حد الفوضى والتشرد فيظل مجذوبا بمعشوقته متنقلا خلفها من بلد إلى بلد ومن شارع إلى شارع، من بيت إلى بيت، من زوجة إلى زوجة.
من سجن إلى سجن، لا يشبعه أي منها، يطلب معشوقته الحرية ليس لنفسه فقط ولكن لأمته كلها، لا يقاسم عشقه للحرية سوى عشقه للصدق، ينطق الصدق بعفوية وبساطة تمنحه سلطان الحقيقة، يتكلم الصدق بجرأة يشتبه معها السامعون له في جنونه، ينطق بما لا يقدر الناس على النطق به، فيفوضونه ناطقا باسمهم معبرا عن أحلامهم المسروقة وآمالهم المنكسرة، ينحاز إلى الشعب وإلى الفقراء والبسطاء ضد الاغنياء والأقوياء والأباطرة، فيلتف حوله المسحوقون بالملايين ويرتعب منه الطغاة ويلقون به في السجون فيكتب من الزنانين شعره المزلزل للعروش والجيوش، مخترقا بكلماته السهلة الممتنعة ستائر الزيف والخديعة التي يسدلها المسئولون حول الوطن، فبينما كان الإعلام الرسمي يحاول التهوين من هزيمة 67 الفادحة للحفاظ على الروح المعنوية، وبينما عقدت المحاكمات لقيادات الجيش التي أهملت في أدائها بشكل فاضح وأصدرت عليهم أحكاما واهية لا تتناسب مع حجم الكارثة، راح أحمد فؤاد نجم يتهكم بسخرية لاذعة انتشرت بين الناس كاللهيب: الحمد الله خبطنا تحت بطاطنا.. يا محلا رجعة ظباطنا .. من خط النار.. يا أهل مصر المحمية.. بالحرامية.. الفول كتير والطعمية.. إيه يعني في العقبة جرينا.. وللا في سينا .. وهي الهزيمة تنسينا.. إننا أحرار! إيه يعني الشعب في ليل ذله.. ضايع كله.. ما كفاية بس اما تقوله.. إحنا الثوار! أشعار تمجد وتماين.. حتى الخاين.. وإن شاء الله يخربها مداين.. عبد الجبار.
كان ذلك في عصر عبد الناصر الذي لم يكن يسمح فيه لأي نقد علني لسياسات البلد، ولم يكن يسمع سوى أناشيد التمجيد لناصر وللثورة وللأحرار والثوار.. وحتى بعد ضربة 67 والانسحاب المهرول من سيناء بلا خطة وبشكل بائس، لم يسمح الإعلام الرسمي لأية أصوات ناقدة لما حدث،سوى بشكل مرسوم من أعلى.. فإذا بصوت هذا الشاعر المارق يعلو في جرأة مجنونة منفردة تضرب بكلماتها زينات الزيف المرفوعة وتقول بأعلى صوت إن الامبراطور عريان بلا ثياب فيدهش الجميع من هذا الصوت الذي وحده ينطق بالحقيقة التي يعلمها الجميع، فيهرع الشباب من المثقفين وراء نجم والشيخ إمام الذي وضع ألحانا بسيطة شعبية عبقرية لهذه الكلمات الحادة الثاقبة ليحولها إلى أهازيج مريرة وأناشيد مثيرة تدخل قلب مستمعيها مباشرة وفي الحال فتفعل في النفوس المكلومة المتعطشة للصدق وللحقيقة فعل السحر، فيموج الحضور مع الكلمة واللحن طربا ووجعا ونزفا ونشوة، وأصبح نجم وإمام ظاهرة ساحرة في ليالي القاهرة الكالحة بعد الهزيمة، كان يتقاطر المئات كل ليلة ليحتشدوا في قاعات البيوت ليستمعوا في نشوة سرية سحرية إلى مالم يسمعوه في حياتهم..
الجناية إن البلد من السكات.. بعضها راح لليهود.. والبعض مات.. والى جابوا النكسة لسه على الكراسي .. فوق ضهور المخلوقات..؟ كان هذا نقدا مباشرا لعبد الناصر وكل من حوله من مسئولين.. في وقت لم ينتقده أحد داخل مصر، نعم لقد كتب نزار قباني قصيدته الشهيرة هوامش على دفتر النكسة منتقدا فيها الفكر الذي أدى إلى الهزيمة، ونظام الحكم المخابراتي المطارد للحرية الفكرية والسياسية الذي ساد وقتها، ولكن نزار كان في الخارج أمنا من بطش النظام وغير مهدد بالسجن أو ما هو أسوأ فلم يكن في عمله هذا بطوله تذكر، ولكن نجم كان في مصر تحت يد النظام ولذلك نظر له الشباب باعتباره بطلا قوميا هائلا يصرخ بالحقيقة ولا يهاب في سبيلها أي ثمن، وقبضوا على نجم والشيخ إمام وألقوا بهما في السجون والأقبية، ولكن الجدران والقضبان لم تستطع أن تحبس صوت ذلك الشاعر المارق.. فراح يكتب قصائده من الزنازيين فتخرج للناس ملتهبة بنيران البطولة التي لا تخرسها المعتقلات، فيزداد تعلق الناس به واستماعهم إليه. راح ذلك الشاب النحيل الاسمر خشن الصوت ثاقب النظرات يقارع أكبر سلطة في مصر وينافسها في القدرة على الوصول إلى قلوب الملايين بلا مذياع ولا تليفزيون ولا جريدة، وقف نجم وحده أمام النظام كله بألاته البوليسية والإعلامية الجبارة وانتصر عليها من داخل محبسه، لأن كلماته كانت صادقة وبسيطة وحميمة تناصر الضعفاء المطحونين ضد الاغنياء والأقوياء والسلاطين: هما مين وأحنا مين.. هما الأمرا والسلاطين .. هما المال والحكم معاهم.. واحنا الفقرا المحكومين.. حزر فزر شغل مخك.. مين فينا بيحكم مين؟ إحنا السنة وأحنا الفرض .. إحنا الناس بالطول والعرض.. من عافيتنا تقوم الأرض.. هما الفيلا والعربية.. والنساوين المتنقبة .. حيوانات استهلاكية.. شغلتهم حشو المصارين.. هما مين واحنا مين؟ .. إحنا الحرب حطبها ونارها.. وأحنا الجيش اللي يحررها.. واحنا الشهدا في كل مدارها.. منتصرين أو منكسرين.. هما مناظر بالمزيكة.. والزفة وشغل البوليتيكا.. ودماغهم طبعا أستيكة.. بس البركة في النياشين.. هما بيلبسوا آخر موضة.. وأحنا بنسكن سبعة في أوضة.. هما بياكلوا حمام وفراخ.. واحنا الفول دوخنا وداخ.
في هذه القصيدة وغيرها، يمزج نجم بين النقد السياسي والاجتماعي.. ويرجع أسباب الهزيمة ليس فقط للإداء العسكري البائس الفاضح.. ولكن أيضا إلى فشل الشعارات السياسية في التحول إلى واقع اجتماعي، فالذين ينادون بالاشتراكية يرفلون في سيارات فاخرة لا يملكها الشعب. هما مناظر بالمزيكة .. والزفة وشغل البولتيكا فنقده ليس سطحيا يقف فقط عند الهزيمة العسكرية ولكن يغوص إلى أعماق ما يحدث ويقدم رؤية نقدية متكاملة لحالة مصر سياسيا وإجتماعيا وإنسانيا، وهو شاعر إنساني في المقام الأول وهمومه السياسية ليست سوى نتاجا لهمومه الإنسانية المعنية بكرامة الإنسان وحقه في الخبز والحرية والعدالة.
وهو يعي دوره كصاحب كلمة لها رسالة مضيئة .. يقول:دور ياكلام على كيفك دور .. خلى بلدنا تعوم في النور.. إرمي الكلمة في بطن الضلمة.. تحبل سلمى.. وتولد نور.. يكشف عيبنا.. ويلهلبنا.. لسعة ف لسعة .. نهب نثور.
ولم يتخلى نجم عن دوره مع تغير النظام في مصر، واستمر في صراخه الناقد بعد رحيل ناصر ومجئ السادات، وتظاهر السادات بأنه يرسى قواعد دولة القانون، فكان يطارد المعارضين ويسجنهم ولكن كله بالقانون كما كان يصرح، وحول نيابة أمن الدولة إلى جهة إصدار وتقنين قرارات الإعتقال التي بها اعتقلوا نجم فقال في هذا:أنا رحت القلعة وشفت ياسين.. حواليه العسكر والزنازين.. والشوم والبوم وكلاب الروم.. يا خسارة يا أزهار البساتين.. عيطى يا بهية على القوانين.. واسمعي يا بلدنا حلاصة القول .. وبأقولك أهه وأنا قد اقول .. مش ممكن كده حيحول الحول .. على كده والناس يفضلوا ساكتين.. خليكوا فاكرين.. خليكوا شاهدين .. أنا رحت القلعة وشفت يا سين.
ونجم مالوش كبير بمعنى أنه لا يهاب أحدا ويهاجم الكل، ويمكن أن يقسو في هجمومه ويستخدم لهجة سوقية، وهذه ليست سبة ولكنها وصف لاستخدامه لغة السوق، أو لغة الشارع. ونجم يفتخر بهذا فقد جاء من الحارة ومن بين الفقراء وقد توفي والده في صغره فتربى في ملجأ للأيتام قابل فيه عبد الحليم حافظ في الزقازيق عام 1936 ، ولكنهما كانا مختلفين طابعا وسلوكا، لذلك عمل عبد الحليم بعد ذلك كفنان مع الأبنودي- شاعر العامية الكبير الآخر- وليس مع نجم ويجنح نجم إلى القسوة والسوقية في قصائده الهجومية خاصة عندما يهاجم المشاهير في الفن أو السياسة، وقد كان الرئيس السادات يسميه الشاعر البذيء ، ولم يتورع نجم عن مهاجمة نجوم الفن والشعر في عصره مثل عبد الحليم حافظ وأم كلثوم وصلاح جاهين.. وقد كانوا جميعا ينعمون بالشهرة والمال والمكانة الاجتماعية والتقدير الرسمي من الدولة ما عداه هو فقد حظى فقط بالشهرة ومحبة الناس ولكنه ظل فقيرا معدما وظل مطاردا مطرودا من الساحة الفنية الرسمية غير معترف به من الدولة فلا غرابة أن يشعر بالغبن والغضب على زملائه المشاهير من الشعراء والفنانين وقد هاجم عبد الحليم دون أن يسميه قائلا : لماليمو الشخلولة الدلوعة الكتكوت.. الليلة حيتنهد ويغني ويموت.. يشيلوه قال على لندن.. علشان جده هناك.. من بعد ما يتلايم على دخل الشباك.. ويهرب أموالك ويقول لك أهواك. وواضح أنه يقصد عبد الحليم الذي لا يستحق هذا الهجوم الذي لم يرحمه حتى في مرضه، ولا شك أن نجم قد تطاول دون حق إذ يتهم عبد الحليم بتهريب أموال الناس.. وإعجابنا بنجم لا يضطرنا إلى الإعجاب بكل ما يقول ويفعل، وفي قصيدة أخرى يلمز شاعر العامية الشهير الآخر صلاح جاهين الذي كتب أجمل اغاني وأناشيد ثورة 52 ومدح عبد الناصر وبعد نكسة 67 طلق الاغاني الوطنية وكتب أغنيات فيلم سعاد حسني الشهير خللي بالك من زوزو مما دفع بعض المثقفين إلى إتهام جاهين ببيع مبادئه وتخليه عن دوره السياسي، وكان منهم نجم الذي قال يهاجم جاهين باعتباره الشاعر الذي وصفه بأنه: نازل يقزقز أزاأوزو... وخللي بالك من زوزو.. ورغم أن قصائد نجم هذه تهاجم فنانين وشعراء نحبهم ونقدرهم وقد نرفض تهجم نجم عليهم إلا إننا لا نملك أن نحرمه حقه في حرية التعبير عن مشاعره وكما نتفهم دوافعه لتلك الإتهامات والتهجمات التي ربما كانت تستند على جزء من الحقيقة وإن تمادت مع مشاعر نجم الجارفة إلى ما بعد حدود المقبول في المجتمع المصري المتسامح الذي يكره التجريح الشخصي ويميل إلى المجاملة والمغفرة .
ويعتبر نجم بأسلوبه الهجومي اللاذع وأحيانا البذئ تلميذا لبيرم التونسي الذي كانت له قصائد يسب فيها الملك فؤاد وزوجته نازلي والتي نفى بسببها إلى خارج مصر لسنوات طويلة.. فنجم من الجيل التالي لجيل بيرم من شعراء المصرية المرموقين، وهو الجيل الذي منحنا فرسان الشعر العامي الثلاثة صلاح جاهين والأبنودي ونجم، ويختلف كل واحد من هؤلاء عن الآخر، فجاهين هو شاعر النخبة وعاميته هي الأقرب إلى الفصحى، كما أنه شاعر فيلسوف أدخل الفلسفة العميقة بأسئلتها الوجودية الكبرى إلى العامية المصرية كما لم يفعل شاعر آخر، وكان منتميا إلى ثورة يوليو بكل جوارحه وآمن بزعامة عبد الناصر وغنى له في أناشيده، فكان ثوريا في فكره المتحرر ولكنه لم يكن تصادميا ولا معارضا لأي نظام لأن هذا ليس من طبيعته المتأملة الرقيقة، أما الأبنودي فيكتب بالعامية شعرا إنسانيا بالغ العذوبة والرهافة والشفافية، بلغة صعيدية شعبية ولكن ليست سوقية وليست حادة أو تصادمية، ولذلك استطاع كجاهين أن يكتب اغنيات لعبد الحليم وحاز على جوائز من الدولة وكان الابنودي أقرب إلى روح الشعر الحقيقية المجنحة ولذلك لم يكن من الغريب أن الشاعر العربي الكبير محمود درويش كان من أصدقائه وكان يعتبره الشاعر الأهم في مصر.
الشاعر الكبير لابد أن تكون دائرة اهتماماته الشعرية كبيرة- تكبر وتخرج عن دائرته المحلية في وطنه لتحتضن وتعبر عن آمال وآلام الإنسان في كل مكان، لذلك نجد أن نجم يكتب مساندا القضايا العربية ثم يتوسع أكثر ليساند القضايا العالمية.. يقول عن فلسطين
: الخط دا خطى .. والكلمة دي ليا.. غطى الورق غطى.. بالدمع يا عنيه.. شط الزتون شطى.. والأرض عربية .. نسيمها أنفاسي .. وترابها من ناسى.. إن رحت أنا ناسى .. ما تنسانيش هي. ثم نراه ينفعل عند موت جيفارا الثائر الشهير فيكتب قصيدة يغنيها الشباب في مصر هي جيفارا مات .. ويقول مخاطبا غاندي في قصيدة أخرى:لف المغزل تاني تاني.. إغزل توبك واغزل تاني.. ملعونة السلعة البراني.. وكان نجم يشارك في الأحداث السياسية العالمية لبلده والعالم- وكان السادات يشطاط غضبا كلما زار مصر أحد زعماء العالم كالرئيس الأمريكي نكسون أو الفرنسي جيسكار ديسدان ويرحب به الإعلام المصري الرسمي ترحيبا مبالغا فيه ليصدم بعد ذلك بنجم يطلق إحدى قذائفه الشعرية على موكب الاحتفال ساخرا منه لأنه كان يرى أن القيمة كلها للشعب وحده وأن هؤلاء الرؤساء لن يفيدوا مصر بشئ، وعند زيارة نكسون لمصر رحب به نجم قائلا :شرفت يا نكسون بابا.. يا بتاع الووتر جيت.. عملولك قيمة وسيما.. سلاطين الفول والزيت.. فرشوا لك أوسع سكه.. من راس التين على مكة.. وهناك تنفد على عكا.. ويقولوا عليك حجيت.. ما هو مولد ساير داير.. شيلاه يا صحاب البيت..
ويتخلى نجم عن لسانه اللاذع ويصبح رقيقا شفيفا حين يكتب مازجا الحب بالسياسة .. فيقول مخاطبا زوجته عزة بلبع (وقد تزوج قبلها وبعدها عدة مرات) في قصيدة بلدي وحبيبتي: الغرام في الدم سارح.. والهوى طار معزه.. والحنين للقرب بارح.. والنوى جارح يا عزة.. يا ابتسامة فجر هلت.. بددت ليلي الحزين.. يا ندى الصبح اللي سأسأ .. فوق خدودي الدبلانين.. بل شوقهم..صحى لون الورد فيهم.. يا نسيم الحب لما هب.. هز القلب هزة.. يا هوى الاحلام يا عزة.. الليلة دي جم خدوني يا ملاكي .. جوز تنابله ونص دستة من التيران.. كنت باحلم يا حبيبتي.. كنت باحلم بيكي إنتي.. كمموني يا حبيبتي .. كتفوني يا حبيبتي.. قوموني.. قعدوني .. كل شعره في جسمي.. بالعين فتشوها.. المخده من جنانهم شرحوها.. وانتهى التفتيش .. ما فيش .. صدقيني ما تخافيش .. هو فيه يا عزة عندي ممنوعات.. غير باحب الناس .. وباكره السكات.
ولكن أعذب وأقوى أناشيده هي التي يغني فيها لمصر ولعلاقته بها .. أشهرها وأجملها حين يغنيها الشباب في الجامعات والمنتديات هي قصيدته بهية : مصر يامه يا بهية.. يام طرحه وجلابية .. الزمن شاب وإنتي شابه.. هو رايح وانتي جاية.. جاية فوق الصعب ماشية.. فات عليكي ليل وميه.. واحتمالك هو هو .. وابتسامتك هي هي.. تحكي للصبح يصبح .. بعد ليلة ومغربية.. تطلع الشمس تلاقيكي .. معجبانية وصبية .. يا بهية..
أما أجمل قصائده في وصف حالته فهي التي يقول فيها في مزيج من الشجن والعشق والشكوى والكبرياء: ممنوع من السفر .. ممنوع من الغنا.. ممنوع من الكلام .. ممنوع من الاشتياق .. ممنوع من الاستياء.. ممنوع من الابتسام.. وكل يوم في حبك .. تزيد الممنوعات.. وكل يوم با حبك .. اكتر من اللي فات..حبيبتي يا سفينة.. متشوقة وسجينة.. مخبر في كل عقدة.. عسكر في كل مينا.. يمنعني لو أغير ..عليكي أو أطير.. إليكي وأستجير.. بحضنك أو أنام.. في حجرك الوسيع .. وقلبك الربيع.. أعود كما الرضيع.. بحرقة الفطام.. حبيتي يا مدينة.. متزوقة وحزينة.. في كل حارة حسرة .. وفي كل قصر زينة.. ممنوع من أن أصيح.. بعشقك أو أبات.. ممنوع من المناقشة .. ممنوع من السكات.. وكل يوم في حبك.. تزيد الممنوعات.. وكل يوم با حبك.. أكتر من اللي فات.
هكذا الشاعر المارق المتمرد .. الشاعر الذي بلا بيت لأن الوطن كله بيته، بلا عرش سوى قلوب الناس، عشقه الأول هو لمصر، وبعد ذلك عشقه للحياة بكل ما تمنح من إثارة وحرية وفوضى وعنفوان.. عشقه للحياة يتمثل في عشقه للإبداع والخلق، للكلمة الجميلة والجريئة، ويتمثل في عشقه للناس أهله وأهل بلده وللإنسانية جميعا، وفي عشقه للمرأة فيحب كثيرا ويتزوج بنفس العفوية والعنفوان الذي يفعل به كل شئ آخر.. يتصدى للأباطرة والسلاطين فيفضح غطرستهم الفارغة ببراءة كلماته الطفولية الصادقة التي لا تعرف المجاملة ولا النفاق .. رفع صوته أول ما رفعه في وجه عبد الناصر بعد هزيمة 67 فانتشل الوطن والناس من الاستسلام للإحباط وللزيف وبذر في قلوبهم بذرة الرفض والكبرياء والعزيمة والمقاومة فكان سندا لعبد الناصر وللسادات من بعده دون أن يقصد ودون أن أن يدركوا هم، لأنه كان سندا للوطن في الأساس، ولأنه كان المعبر الأهم عن آلام البسطاء وأحلامهم، وكان المتحدث غير الرسمي عن الذين لا يلتف أحد لآرائهم، وكان الفارس المتلفح ببطولة الصدق وشجاعة الحق ورايات الفداء والحب الحقيقي للوطن ضاربا النموذج بحياته نفسها، فهو لم يبع ولم يهادن رغم كثرة الزنانين التي احتوته وحرمته من عيشة هنيئة مع زوجة وأولاد .. إنه الشاعر المشرد الذي لا يرتاح ولا يريح أحدا.. إنه عملة نادرة من الشعراء الكبار قامة وشعرا وتأثيرا وجماهيرية، عملة تكاد أن تنقرض من السوق التي يباع فيها كل شئ.. ولهذا فعلى الأغلب سيكون أحمد فؤاد نجم هو آخر الشعراء الصعاليك الذين تتجلى فيهم عبقرية الشخصية المصرية المبدعة الصاعدة من قلب الحارة الشعبية.. تظل قدماه في تراب بلده، بينما يسبح نجما شاردا بين الشهب.
---
* كاتب مصري يقيم في نيويورك


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.