منذ الربع الأخير من القرن العشرين، ظهر بوضوح بداية أزمة هوية عميقة الجذور، ترتبط في جانب مهم منها بحالة الهزيمة التي تعاني منها الأمة، وحالة التراجع الحضاري. وتوسعت أزمة الهوية على المستوى الثقافي والسياسي، وشابها محاولات لتأسيس تفكك الأمة على أسس حضارية وثقافية. فرأينا من ينادي بفصل المصرية عن العروبة، ومن ينادي بفصل العروبة عن الإسلام. وبهذا تحولت الصراعات السياسية إلى صراعات على الهوية، لتزيد وتعمق من أزمة الهوية التي تعاني منها الأمة. وفي ظل الشعور العميق بالأزمات المتلاحقة التي تعاني منها الأمة، وتراجع قدرتها على مواجهة التحديات الخارجية، أصبح اللجوء إلى الانتماءات الدينية، أو الانتماءات الثقافية الفرعية، هو الاستجابة العملية لفقدان الشعور بالأمان. وإذا راجعنا تاريخ الأمة الإسلامية، سنلاحظ بلا شك تنوع الجماعات الفرعية المشكلة للأمة، ذلك التنوع الذي لم يمنع الوحدة، ولكنه كان تنوعا في سياق الوحدة. والآن، مع حالة التفكك السياسي، والتراجع الحضاري، باتت وحدة الأمة مهددة. وبذلك أصبح السياق العام مهيئا لقيام المطالب الاستقلالية أو الطائفية، كذلك بات السياق العام مهيئا لحدوث صراعات بين الجماعات الفرعية المشكلة للأمة. والمشهد الراهن برز فيه مدى عمق حالة الاحتماء بالجماعة الفرعية، دون أن يكون ذلك وسيلة لتحقيق الانتماء للأمة. وبدأت مشاهد النزاعات الاجتماعية تمثل تهديدا إضافيا، وتحديا يواجه الأمة، بل وتمثل أيضا بابا يمكن أن تنفذ منه التدخلات الخارجية. والمشاهد المتوالية في مصر ولبنان والعراق، تحكي فصولا لذلك التحدي الذي يهدد وحدة الأمة الحضارية، بعد انهيار الوحدة السياسية لها. ولعل المشهد في مصر، والذي يراوح بين لحظات الهدوء النسبي، ولحظات تفجر القضايا الطائفية، يكشف عن حقيقة الأزمة التي تعاني منها الأمة. فأقباط مصر يشكلون جماعة أصلية، عاشت على هذه الأرض كل تاريخها. ولكن الحالة الراهنة تكشف عن مزيد من التباعد أو الاحتقان بين الأقباط والمسلمين، مما يجعلنا نسأل عن السبب والمنبع الذي تأتي منه رياح الفرقة، لنعرف كيف نواجه تحدي النهضة، وتحدي مواجهة التدخل الخارجي. فوحدة الأمة هي أداة نهضتها، وكلما أدركت الأمة مصيرها المشترك، كلما أصبحت قوة فاعلة في مواجهة التحديات. والحالة القبطية تمثل نموذجا لحالات أخرى في المحيط العربي والإسلامي، وهي تكشف لنا عن كيفية تكون حالة النزاع الداخلي. وربما تتمثل بداية هذه الحالة في وجود خلل في المساواة بين الجماعات المشكلة للأمة. وهذا الخلل يؤدي إلى الشعور بوجود خطر يهدد جماعة، من قبل غيرها من الجماعات. وهذا الشعور في حد ذاته يؤدي إلى التباعد بين الجماعات، ويؤدي كذلك لخلق مناخ من الشك، ووعي سلبي من قبل كل جماعة للأخرى. ولكن هذا المناخ لا يشرح كل أبعاد النزاع، بل يؤسس للأبعاد الأخرى. والبعد الثاني المهم، تمثل في ظهور هويات منفصلة، نتيجة الأزمة الحضارية التي تعيشها الأمة. ففي الربع الأخير من القرن العشرين، رأينا حركات إحياء ديني متعددة في مصر، وكان من نتائج هذه الحركات وجود نوع من التمحور حول الدين، في الجوانب المختلفة من الحياة، وليس في الجانب الديني فقط. بذلك أصبحت حالة الاحتقان، ليست فقط نتاجا لخلل في المساواة، بل أصبحت أيضا نتاجا لخلل أخطر في تعريف الهوية. فأقباط مصر جزء أساسي من تاريخها وحضارتها، ولهم دورهم في التاريخ العربي الإسلامي، ودورهم في الحضارة العربية الإسلامية. ولكن الحالة الراهنة للأمة، جعلت جماعاتها الفرعية تميل للاحتماء بالانتماءات الفرعية، فأصبح الوعي السائد لدى المسلم والقبطي، يركز على الفروق بينهم، أكثر من تركيزه على عوامل الوحدة. نرجع مرة أخرى إلى مسألة الهوية، فهل نحن أمة واحدة؟ والسؤال في الواقع يحدد توجهات المستقبل، لأنه يحدد موقف الأمة من تاريخها وحضارتها، وبالتالي يحدد موقفها من مشروعات النهوض. والسؤال يدور حول القيم الحضارية المركزية التي تشكل نمط الحياة الاجتماعي، فهل تختلف هذه القيم بين القبطي والمسلم في مصر، أو بين الكردي والعربي أو بين الشيعي والسني في العراق؟ إن التاريخ الحضاري للأمة يكشف عن تميزها بالتعدد في إطار الوحدة، في كل مراحل نهضتها. فهناك قيم مشتركة، صنعت نمط الحياة الاجتماعي المميز للمنطقة العربية والإسلامية، وداخل هذا النمط الحضاري العام، تنويعات ثقافية متعددة، تشكل الجماعات الفرعية المشكلة للأمة. من تلك النقطة يمكنا اكتشاف الأبعاد الحقيقية للمشكلة، وبالتالي نكتشف الطريق الأساسي للحل. فالبداية تتمثل في إعادة اكتشاف القيم المركزية التي شكلت حضارة الأمة، وهي قيم الحضارة العربية والإسلامية. وهي القيم التي حافظت على التنوع في إطار الوحدة، ولم تجعل التنوع سببا في التمييز، بل جعلته سببا للتميز. وعندما يوظف التعدد كوسيلة للتميز، يصبح من أهم عوامل ثراء الأمة، إذا قورنت بحضارات أخرى، تميل للنمطية وتبتعد عن التعددية الثقافية. فإذا عدنا للمسألة القبطية، نرى أن أهم العوامل التي تؤجل تجاوز حالة الاحتقان الطائفي، هي عجز الجماعة المصرية كلها على اكتشاف قيمها المشتركة، التي لا تميز بين جماعة وأخرى، والتي من خلالها تتحقق الهوية المشتركة. ولا نظن إمكانية تحقيق التعايش والوحدة، دون اكتشاف الهوية المشتركة، أو دون وجودها. فالحضارة الواحدة هي التي تجمعنا، والثقافات الفرعية هي التي تحقق التنوع. وسؤال الهوية سيكون سؤالا محوريا ليس في مصر فقط، بل وفي غيرها من البلاد العربية والإسلامية.