أستطيع أن أحفظ الرأيَ البليغ التاريخيَّ الذي قاله "أ. محمد سلماوي" أمام وكيل النيابة؛ دفاعًا عن رواية قبيحة بألفاظ خادشة ليس للحياء؛ فمن فقدوا الحياء ليس لديهم ما يستحقُّ الخدش؛ إنمَّا خادشة لفنِّيَّات الكتابة الأدبية، وللأساليب البلاغية التي تُقام من أجلها الأقسام في كليَّات اللغة العربية، وتوضع لها المناهج، وتُنفَق فيها السنوات؛ لدراستها، وتعلُّم الأساليب البلاغية، والمحسِّنات البديعية، من طِباق، وجِناس، وكناية، واستعارة، وتَوْرِية.... إلخ، وكلُّها من جماليَّات اللغة وموسيقا الكتابة النثريَّة؛ وكلُّها لإثارة الذِّهن وتحريكه، واستغلال ثراء اللغة في أداء الفكرة، والتعبير بها عن المشاعر بأجمل كلمات. فلم أجد في التصريح بالجِنس فنًّا مبهرًا، ولم أجد في الوصف المقزِّز فنًّا معجزًا، ولم أجد في تَزْيِين الفجور والعهر فنًّا مثريًا لذوق المتلقِّي، ولا يستحقُّ التقدير، ولا لكاتبه الاحترام، كروائيٍّ أو فنَّانٍ، أو شخصٍ يعوَّل عليه لتشكيل وِجدان القارئ، ومنح السعادة والمتعة والفائدة في عمل روائيٍّ يقدِّمه لقارئ يحترم نفسه، ويحرص على من تحتَ رعايته من نشء.. رواية "أحمد ناجي" محلُّ الخلاف، التي وصلت إلى النيابة، فاستدعت النيابة ضمن من استدعت الكاتب "محمد سلماوي" رئيس اتحاد الكتاب سابقًا؛ لسؤاله، فكان ردُّه بليغًا وتاريخيًّا كما وصفه من هم على شاكلته ممَّن يؤيِّدون اللفظة الفجَّة ويسمُّونها أدبًا.. وهكذا كان السؤال والجواب بالنص: النيابة: هل تستطيع أن تقرأ لنا الآن وأمام الحضور جزءًا منها؟ سلماوى: هذا لا يجوز. النيابة: لأنه خادش للحياء؟ سلماوى: هذا لا يجوز في الأدب، فاجتزاء مقطع وحدَه هكذا وقراءته مستقلًّا عن الرواية، إنما يُخرُجه عن السياق الذى كُتب فيه، ومن المبادئ الراسخة في النَّقد لمن درسوه أن العمل الفنيَّ لا يؤخذ إلا في مجمله؛ لأن المقصود منه هو تأثيره الكليِّ على المتلقِّي، وليس تأثير جزء واحد منه منفصلاً عن السياق الذى جاء به؛ لذلك لا يمكن لنا أن نجتزئ قطعة من تمثال لرائد فن النحت المصرى الحديث محمود مختار، مثل ثدي الفلاحة في تمثال نهضة مصر الشامخ أمام الجامعة ونعرضه وحده على الملأ، وإلا كان بالفعل خادشًا للحياء؛ لأنه خرج عن المعنى الوطني الذى يرمز له التمثال ليصبح تأثيره حسيًّا بحتًا، فما يخدش الحياء في الحياة لا يكون كذلك في الفن، وفى الوقت الذى يخدش حياءنا مشهد العري في الطريق العام فإننا نرسل طلبة المدارس إلى المعارض والمتاحف التي تضم لوحات فنية قد يكون بها بعض العري دون أن يكون في ذلك ضرر عليهم". هه هه تصفيق حاد.. وهكذا هلَّل المهلِّلون لهذا الهراء وقلب الحقائق وتزيين القبح .. يا حضرة الأديب الكبير، جزء من تمثال حجري هي قطعة حجر، أما الكلمة فهي بمعناها ودلالتها، سواء في نص أو منفردة، فهل تسمية عورة الرجل والمرأة بالاسم المستعمل في الشتم والقدح له معنى آخر في سياق الرواية؟ وهل هو أتى به في سياق تشريحيٍّ أم في سياق جنسي شبقيٍّ بحت؟! ووسط ثلَّة تمارس الإدمان والجنس بلغة العهر.. وهل الروايات الجيدة هي ما تنقل لنا لغة السوقة والبيئات المنحطَّة؛ لنقرأ ونستمتع بواقعٍ دَوْرُ الأدب أن يعمل على تغييره!! إلا إذا كنت تقصد بقولك: (أن العمل الفنى لا يؤخذ إلا فى مجمله لأن المقصود منه هو تأثيره الكلى على المتلقّى) تقصد إثارة المتلقى ودفعه للتقليد في ممرسة الرزيلة. ولما كانت البلاغة هي إدراكَ الغاية، والبليغ: هو الشخص القادر على إيصال المعنى بأرفع لغة؛ فقد وصفها النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) بقوله: ((إن من البيانِ لسِحرًا))، وهذا لا يندرج تحتَه هذا اللون من اللا فنّ. ليتهم يفهمون لغتَنا الجميلة والقصد منها، وكيفيَّة إلباسِ الفكرة ثوبًا قشيبًا لا يشفُّ ولا يُخفي.. أقصد الذين ينشدون القبح في الكتابة، ويملؤونها بالقيح.. فمن يتناولون الجنس الفجَّ يدافعون عن الوضوح والصراحة، معلِّلين أنه الواقع، ومن يتناولون الغموض المُلْغِز أيضًا يدافعون عن الترميز والإبهام. وصدق رسول الله حين قال: ((إِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبَكُمْ مِنِّي أَحَاسِنُكُمْ أَخْلاقًا، وَإِنَّ أَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَسَاوِئُكُمْ أَخْلاقًا؛ الثَّرْثَارُونَ الْمُتَشَدِّقُونَ الْمُتَفَيْقِهُونَ)).. وهم المتنطعون الثرثارون بما لا يفيد، والذي تفيهق هو محمد سلماوي ومن صفَّق لكلامه، المهلِّلون للقُبْح والقَيْح، ووصف كلامه بالردِّ التاريخيِّ.. والتاريخ أول من يلفظ تلك اللغة من صفحاته؛ وذلك لأن سلماوي تفزلك في ردِّه على وكيل النيابة كما رأينا. والذي يُدهِش أيضًا هو براءة "طارق الطاهر" رئيس تحرير أخبار الأدب الذي نشر الرواية؛ بحجة أنه لم يقرأها قبل نَشْرها. هه هه، وعلى أي معايير تُنْشر الأعمال في "أخبار الأدب" أيها القائم على خدمة الأدب.؟!! وما هو دور رئيس التحرير في أي صحيفة بالضبط لكي نستفيد؟!! أم هذا يُعَدُّ تنصُّلاً من فعلٍ مَنَعك ضميرُك أن تستره بالكذب!! على كل حال، قلت في البداية: أستطيع أن أحفظ عن ظهر قلب وأردِّد مثل الببغاء، ذلك الرد التاريخي، والجمل سابقة التحضير التي تقال في مثل هذه المواقف؛ ولكني أستحي من ربي.. وهل يكبُّ الناس في النار إلا حصائد ألسنتهم؟!