الطفل السوري الذي غرق في مياه البحر المتوسط وحمل الموج جثته إلى سواحل تركيا لم يكن هو أسوأ ما في المأساة السورية، فهناك مشاهد وأحداث أسوأ وأكثر دموية وإجرامًا، وهناك آلاف الأطفال دفنوا أحياء بسبب قصف طائرات بشار والبراميل المتفجرة الضخمة التي تهبط على رؤوس الجميع فتسوي أجساد البشر بالمباني بالأرض وأشلاء الأطفال الممزعة شهيرة، ولكن صورة جثة الطفل الغريق اختصرت المشهد السوري كله، ولخصت الحكاية، وأدانت الجميع، ليس المجرم القاتل بشار وحده، ولا العصابات الإرهابية التي صنعها بيد أجهزته حتى خرجت عن السيطرة "داعش"، ولكنها أدانت العالم المنافق كله، العالم الذي لم يشغله في محنة الشعب السوري مئات الآلاف من القتلى بما فيها أطفال ونساء يقتلون على مدار اليوم بل الساعة ولا ملايين المشردين من بيوتهم في بلاد الله البعيدة وفي داخل سوريا ولا السجون والمعتقلات التي امتلأت بأجساد هي بين الحياة والموت أشبه بالأشباح، وآلاف منهم يتحولون إلى جثث مخيفة رآها العالم كله رأي العين وتصفحها السادة أعضاء الكونجرس الأمريكي في لقاء خاص، لم ينشغل العالم بذلك أو يتحرك ضميره، ولكنه تحرك فقط عندما اتجهت جموع المشردين الفارين بحياتهم صوب أوربا، فبدأ "المحترمون" في عواصم الشمال يحسبون حساباتهم الاقتصادية والاجتماعية، ثم بدأ بعضهم يتحدث صراحة عن التركيبة الدينية المسيحية لأوروبا التي يهددها أفواج اللاجئين، على النحو البغيض الذي صدر عن رئيس وزراء المجر في مقال نشره بصحيفة ألمانية كبرى أمس . صورة جثة الطفل السوري التي تحملها الأمواج إلى الشاطئ هي عنوان مرحلة، وهي أيضا صورة غلاف أي كتاب يمكن أن يكتبه باحث صادق وأمين مع نفسه عن أسباب ظهور تنظيم داعش الإرهابي، بل هي صورة تصلح كغلاف لأي كتاب عن فكر داعش وكيف ولد، فداعش لم تولد من أفكار ونصوص ولكنها ولدت من رحم الوحشية التي عبرت عنها تلك الصورة باختصار، العالم "المتحضر" جذب استغرابه عنف داعش ووحشيتها ودمويتها غير المعهودة فى دنيا البشر، ولكنه عجز عن أن يفسر سبب الظهور المفاجئ لتلك الوحشية، أو بمعنى أدق هرب من الاعتراف بأنها ناتج حتمي لوحشية العالم الجديد، العالم الذي وقف يشاهد حمامات الدم والدماء والخراب والبشاعة التي يرتكبها حاكم صغير تافه مثل بشار ضد شعبه على مدار أربع سنوات ليقمع ثورته، فلم يحرك ذلك العالم ساكنًا أبعد من البيانات المجانية الرخيصة بالإدانة الفضفاضة، والتخطيط الانتهازي للاستفادة من الحريق في استنزاف قوى إقليمية وتنظيمات عنف وغيرها، هو العالم المنافق نفسه الذي كانت طائراته تقصف القرى الأفغانية فتبيد الأطفال والنساء والشيوخ والعجائز بينما إعلامهم وساستهم مشغولون بالحماسة أكثر للدفاع عن حق الأفغان في إنشاء دور السينما في كابل . الطاغية الدموي فلاديمير بوتين، هل هو أقل وحشية ودموية من خليفة داعش؟، هل نسي العالم كيف قمع بوتين ثورة الشعب الشيشاني، بحصار القرى والمدن ثم دكها بالدبابات والطائرات والقنابل المحرمة ليسويها بالأرض بمن فيها وما عليها من بشر وحجر وأطفال وحيوانات وأي كائن يتحرك، أي أنه كان يستخدم ما يشبه القنبلة النووية الصغيرة لإبادة البشر، ثم يعود في المساء ليرتدي في سهرته ثيابه الأنيقة ورابطة عنق مميزة بعد أن يكون قد اطمأن أيضًا إلى الانتهاء من تصفية خصومه المزعجين من صحفيين ورجال إعلام، هل نسي العالم ذلك، صحيح أنه نجح وقتها في أن يخمد حراك الثورة الشيشانية، لكنه أسس بوحشيته وصمت العالم أفكارًا جديدة مترعة بهواجس الانتقام والوحشية لا حد لها، وحشية أن تنجز أهدافك أو مصالحك، أيا كانت الطريقة ولا تأبه بكلام العالم وتصريحات الصحف، أليس كذلك، هل نسينا ما فعلته قوات الاحتلال الأمريكي في العراق وكم سفكت من الدماء البريئة التي لا ناقة لها ولا جمل في الأحداث، وكيف تلاعبت حتى بالبعد الطائفي لكي تحيل البلاد إلى دماء وخراب وفوضى، وغدرت بالجميع، وقتلت الآلاف من البشر دون عقاب وبدم بارد، إلا بعض كلمات الأسف والأسى على الضحايا، هل داعش هي التى كانت تلعب بالمعتقلين السنة في السجون عرايا وتعبث بأجسادهم وتغتصبهم أمام الكاميرات، هل نسينا. مع الأسف، نحن في زمن الدعشنة، وداعش شئنا أم أبينا هي شعار المرحلة الإنسانية الحالية، وإذا كان زعيمهم أبو بكر البغدادي هو رمزهم الحالي، إلا أن "المنتج" نفسه هو صناعة أجنبية، روسية وأمريكية وأوروبية، وسيكون قدر ضمير العالم الحقيقي الآن أن يقاوم خطر الدعشنة، سواء كانت دعشنة بلحية أم بغيرها، بثياب أفغانية أو بربطات عنق أنيقة، وسواء كانت تصدر عن زعامات مجهولة في سورياوالعراق، أو كانت تصدر عن زعامات معروفة في لندن وباريس وواشنطن .