لا تغضب إذا قال لك أحد إنك رجل لديك جرثومة، فهو يمدحك ولا يذمك. هذا ما يخبرك به محقق التراث الأشهر، عمنا عبد السلام هارون، في كتابه الرائع "كناشة النوادر"، حين يتحدث عن ظاهرة تشهدها جميع اللغات، بما فيها اللغة العربية، وهي ظاهرة "الكلمات الموءودة" التي يموت معناها الأصلي، ويولد لها معنى جديد مختلف تماماً، ويستشهد على ذلك بكلمة "الجراثيم" التي تغير مدلولها، وانحرف من الجمال إلى القبح، فالجرثومة، في فَجرها اللغوي لدى العرب، تعبير جميل عن أصل كل شيء ومجتمعه، فهي تعني: ما اجتمع من التراب في أصول الشجر. وفي حديث ابن الزبير، لمّا أراد أن يهدم الكعبة ويبنيها "كانت في المسجد جراثيم"، يعني كان فيه أماكن مرتفعة عن الأرض، مجتمعة من تراب أو طين، أي أن أرض المسجد لم تكن مستوية، فإذا حاولنا أن نفهم هذا النص، بالمفهوم العصري، أخطأنا المعنى المراد، وفهمنا أن الأرض كانت موبوءة بجراثيم أمراض، وكذلك الحال، لو فهمنا بالطريقة نفسها، قول جرير في مدح عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك بن مروان: "قوم أبوهم أبو العاصي وأمُّهمُ.. جرثومةٌ لا تساويها الجراثيم". من الكلمات الموءودة التي يشير إليها عبدالسلام هارون كلمة "التبجح" التي أصبح مفهومها العصري منحصراً في الدلالة على الجرأة المستهجنة، وسوء الأدب وسلاطة اللسان، لكن مدلولها الأصيل كان يعني الفرح والشعور براحة النفس، والفخر بما صار إليه المرء من منزلة، كل ذلك في نطاق محمود غير مستنكر، ومن ذلك حديث أم زرع "وبجّحني فبجّحت إلى نفسي"، يعني "فرّحني ففرحت وعظّمت نفسي عندي". في استعراضه مسار كلمات شهيرة نستخدمها في حياتنا اليومية، وتغير أصولها، يحدثنا هارون عن كلمة "أيوه" التي نقولها في لهجتنا العامية، والتي يظن بعضهم أنها مأخوذة من كلمة "إيفيت" التركية، التي تعني "نعم"، حيث ينطق الأتراك الفاء بشكل يجعلها أقرب إلى الواو، لكن هارون ينقل عن مراجع عربية أن مصدر "أيوه" آت من قول العرب "إي وربي" التي لم تناسب المزاج المصري، فقام بتخفيفها لتصبح أيوه. خذ عندك، أيضاً، كلمة "زلنطحي" التي نستخدمها شتيمة، ربما منذ رأينا المرحوم سليمان بك نجيب يقرنها بكلمة الجربوع، في أحد الأفلام الشهيرة، لكن تلك الكلمة كانت تطلق قديما لوصف الرجل مرهوب الجانب، لعدم مبالاته بأي خطر يتهدده، وهو تعبير يقول هارون إنه مأخوذ من كلمة عراقية قديمة هي "زلنجح"، تُطلق على الحلزون النهري، والذي كان يتداول أطفال العراق أغنية عنه، تقول "سلنطح سلنطح طلع قرونك وانطح"، إشارة إلى الشخص الذي إذا استُثير صارع قرينه برأسه، من دون أن يبالي بما صنع. لدينا، أيضاً، تعبير "الطريحة" الذي نستخدمه للدلالة على العلقة التي ينالها الشخص، أو يمنحها خصمَه، مع أنها كلمة قديمة، كانت تستعمل لوصف الكمية التي يجب عملها مطلقاً من نسج أو بناء أو طلاء أو تصنيع أو كتابة أو تأليف. يستشهد هارون بالمؤلف عبد الملك بن سراج النحوي الذي كان يقول "طريحتي في كل يوم سبعون ورقة"، وهي كلمة مشتقة من الطرح، كأن الشيء يطرح أمامه ليعمله، أو كأنه طرحه من وراء ظهره، بعد أن كان مثقلاً به. أيضاً كلمة "الإمعة" التي نطلقها على الرجل، ضعيف الرأي المتهافت الذي يقول لكل أحد أنا معك، كانت تستخدم، في البدء عند العرب، بمعنى الطفيلي، أو الرجل الذي يتبع الناس إلى موائد الطعام، من غير أن يدعى. يقول عبد الله بن مسعود، في الإشارة إلى اختلاف معنى هذه الكلمة: "كنا في الجاهلية نعد الإمعة الذي يتبع الناس إلى موائد الطعام من غير أن يُدعى، وإن الإمعة فيكم اليوم المحقِّب الناس دينه"، أي كأنه الذي يضع دينه في حقيبة غيره، فغيره هو الذي يوجهه في أمور دينه وتقلبات رأيه. أخيراً، يكشف لنا عبد السلام هارون أن وصفنا بعض السياسيين، الآن، بأنهم "طراطير" ليس أمراً حديثاً، فكلمة الطرطور من صميم العربية، وأخذها الفرس والترك لفظاً وملبساً من العربية، "جاء في لسان العرب: والطرطور: الوغد الضعيف من الرجال، والجمع الطراطير، وأنشد: قد علمت يَشكُرُ من غُلامُها.. إذا الطراطير اقشعرّ هامها. يُقال رجل طرطور، أي دقيق طويل، والطرطور قلنسوة طويلة الرأس، وقد جرت هذه الكلمة في لغتنا المعاصرة. لكن، بفتح الطاء الأولى، بمعنى الرجل الذي ليس له حل ولا عقد، والذي لا يُعبأ به ولا بمكانه بين القوم". وقانا الله وإياكم شر الحكام الطراطير، ورزقنا حكاماً ذوي جرثومة، بدلاً من عديمي الجرثومة والضمير. · المصدر «العربي الجديد»