أعتذر للقراء الكرام الذين غضبوا لأننى لم ألتزم على مدى أسبوعين بوعد سابق هو أن تكون هذه الاصطباحة مخصصة كل جمعة للنهل من موارد كتب التراث والطواف فى جنباتها، وأعتذر للقراء الكرام الذين يظنون أن ذلك مضيعة للوقت، ولعل ذلك يكون فرصة لهم لكى يرتاحوا منى كل جمعة. نبقى اليوم مع المحقق العظيم عبد السلام هارون وكتابه الجميل (كناشة النوادر) الذى لم أتلق من أحد من أفراد أسرته أو تلاميذه معلومة تؤكد ما إذا كان قد صدر له جزء ثان أم لا، رغم أن عددا من أفراد أسرته راسلنى شاكرا لما كتبته عنه، متمنيا أن يفاجئنا أحدهم بوجود أكثر من جزء إما منشورا أو معدا للنشر، لأن ذلك سيكون متعة حقيقية وعونا مهما على كسر الحاجز النفسى الذى يقف عائقا بين الأجيال الجديدة وكتب التراث. يواصل عبد السلام هارون فى أكثر من موضع الإشارة إلى تفاصيل فى الحياة المعاصرة لا يعرف الناس أنها كانت جزءا من حياة أجدادهم. فهو يرى مثلا أن العرب سبقوا إلى اكتشاف مرض البلهارسيا الذى اكتشفه تيودور بلهارس سنة 1851، حيث كانوا يسمونه «حيض الرجال»، جاء فى «خزانة الأدب» عن شخص اسمه أبو مكعت أنه كان يحيض. وقد حدد العرب أن هذا المرض تنتقل عدواه بالماء، جاء فى كتاب معجم «ما استعجم» للبكرى وصف لغدير معين أن ماءه عذب لكنه يُبيل الدم. يقول هارون إنه عثر فى رسائل الجاحظ على نص يؤكد أن العرب عرفوا نظام الإحصاء المدنى، حين قرر آل أبى طالب أن يحصوا عددهم فوجدوا أنه يقترب من الألفين وثلاثمئة، وأن عدد نسائهم لا يزيد على رجالهم إلا دون العشر، والجاحظ بمعايير عصره اعتبر أن قدرة الطالبيين على إنجاب الذكور فضيلة خصهم الله بها دون غيرهم. يشير هارون أيضا إلى أن المايوه كان معروفا لدينا قبل مئات السنين ولم يكن اختراعا غربيا خالصا، فهو ينقل عن ابن تغرى بردى صاحب «النجوم الزاهرة» أن السلطان المظفر بن الناصر قلاوون كان إذا لعب مع الأوباش يتعرى ويلبس «تُبّان» جلد ويصارع معهم ويلعب بالرمح والكرة، والتبان «سروال صغير بمقدار شبر يستر العورة المغلظة يكون للملاحين». لاحظ هنا أن السلطان المظفر كان يستخدم الرياضة استخداما سياسيا للتقرب من شعبه، لدرجة أنه كان يلبس المايوه وهو يختلط بمن يوصفون بالأوباش، وهى بالمناسبة كلمة تطلق على الضروب المتفرقين من الناس، ولم يكن لها قديما المعنى السلبى الذى نستخدمه الآن. أما نظام اللاسلكى فيرى هارون أن أهل مكة طبقوه قديما عندما علموا بخروج الرسول (صلى الله عليه وسلم) إليهم لفتحها، فوضعوا عشر عيون على الجبال يوحى بعضهم إلى بعض بالصوت: فعل محمد كذا وكذا، فيرد من بعده قوله حتى ينتهى الخبر إلى قريش. ينقل هارون عن الجاحظ تجربة فى جراحة العظام طبقها أهل زمانه حيث كانوا إذا نقص من الإنسان عظم يقومون بلحم عظام الخنزير بعظامه، ولم يعتبر الفقهاء أن نجاسة الخنزير تمنع استعمال أعضائه لضرورة العلاج، بل وأجاز بعضهم استخدام شعر الخنزير فى خرز القرب والأسقية، وهو ما ينافى تشجيع المتطرفين على التخلص من الخنازير فى مصر قبل أعوام ظنا منهم أن ذلك يقربنا إلى الله، مع أن الخنازير لو لم يكن لها فائدة لما خلقها الله. وفى حين يظن البعض أن المسيحيين يبيحون أكل لحم الخنزير يؤكد هارون أن الخنزير نجس العين فى جميع الأديان مشيرا إلى مقاطع تؤكد ذلك فى سفر اللاويين والتثنية وإشعيا وإنجيل متى ومرقس ولوقا. كاشفا أن القول بنجاسة الخنزير تمتد جذوره إلى عقيدة قدماء المصريين طبقا لما يؤكده أبو التاريخ هيرودوت الذى قال فى كتابه عن مصر إن المصريين يعدون الخنزير نجسا فإذا مس أحدهم خنزيرا ولو مارا به يبادر حالا إلى النهر ويغتسل، ولا يسمح لرعاة الخنازير أن يدخلوا الهياكل، ولا أحد يزوجهم بنته، ولا يتزوج منهم، بل يتزوج بعضهم من بعض، ولا يؤذن لهم أن يذبحوا الخنازير إلا فى يوم مخصوص فى السنة يكون القمر فيه بدرا وعندئذ يأكلون من لحمه، ويتساءل هيرودوت عن سر ذلك قائلا إن المصريين يحتجون لذلك بحجة لا يناسب أن أوردها وإن كنت لا أجهلها. هنا يقول هارون محيرا قارئه إنه يعرف ما يقصده هيرودوت ولكنه لن يقوله لأن ذلك غير مناسب، مؤكدا أن السبب الحقيقى مذكور فى حاشية المترجم على كتاب هيرودوت، رجعت إلى الترجمة التى أنجزها الكاتب الدكتور صقر خفاجة وحققها الدكتور أحمد بدوى والتى أعاد المركز القومى للترجمة مشكورا طبعها، فلم أجد تصريحا بما ألمح إليه هيرودوت، ولأن الفضول يقتلنى، أرجو ممن يمتلك ترجمة حبيب بسترس التى اعتمد عليها هارون أن يرسل إلىّ بما خجل هيرودوت من ذكره عن أجدادنا وعلاقتهم بلحم الخنزير. فى حديثه عن تفسير قدماء العرب للمد والجزر، يكشف هارون أنهم ربطوا الأمر بالملائكة، فقال ابن فارس «قالوا فى ذكر المد والجزر إن ملكا قد وُكّل بقاموس البحر، كلما وضع رجله فاض، فإذا رفعها غاض»، كان هذا التفسير فى ما يقارب عام 395، لكن عندما جاء بعدها بأقل من ثلاثمئة عام المؤرخ الجغرافى زكريا القزوينى صاحب كتاب «عجائب المخلوقات» قدم تفسيرا علميا اعتبر فيه أن المد والجزر سببه تسخين القمر لصخور البحار، وهو تفسير قاصر عن الحقيقة الظاهرة لكنه أرحم بكثير من موضوع الملاك الذى إذا وضع رجله فى البحر فاض. أخيرا يمتلئ الكتاب بطرائف لغوية كثيرة يستخرجها هارون من بطون التراث، سنستعرض بعضها كل أسبوع، ونبدأ اليوم بتعجب هارون من قدرة الواقع على تغيير مدلول كلمات معينة لكى ينحرف بها إلى عكس معناها السابق، ضاربا مثلا على ذلك بكلمة الجرثومة التى كانت فى فجرها اللغوى تعبيرا جميلا عن أصل كل شىء ومجتمعه، حيث كانت تطلق على ما يجتمع فى التراب من أصول الشجر. يُقال فى حديث ابن الزبير عندما أراد أن يهدم الكعبة ويبنيها إنه كان حول الكعبة جراثيم، يراد بذلك أنه كان يحيط بها تجمعات طينية وترابية. ستضحك ملء شدقيك عندما تقرأ شاعر العرب جرير وهو يقول فى مدح آل مروان «يا آل مروان إن الله فضّلكم.. فضلا قديما وفى المسعاة تقديم.. قوم أبوهم أبو العاصى وأمهم.. جرثومة لا تساويها الجراثيم»، وهو بيت لا أنصحك بأن تستخدمه فى مدح أحد المسؤولين الآن إلا إذا كنت تمتلك عشرين ألف جنيه قيمة الغرامة. ختاما أتمنى أن لا نرى بعد هذه المعلومة واعظا من أنصار مدرسة حافظ مش فاهم وهو يطلع على الناس قائلا «تراث يعنى إيه؟ يعنى أمك يتقال لها يا جرثومة وتبقى مبسوط». نلتقى الجمعة القادمة بإذن الله. المصدر : التحرير